من شظايا رواية الى شظايا مكان / أحمد أبو حسين

-

من شظايا رواية الى  شظايا مكان / أحمد أبو حسين
عندما أهديت "حب في منطقة الظل.. رواية شظايا مكان" الطبعة الفلسطينية لأحد الأصدقاء في القاهرة قبل صدورها عن دار الشروق المصرية والمركز الثقافي العربي في بيروت قال لي لحظة تناوله الرواية : "غريب أمر عزمي بشارة.. أنه مذهل وخلاق.. من أين له كل هذا الوقت"، أصاب الصديق في تقييمه الأولي من مجرد رؤية الكتاب قبل الغوص في كلام الرواية، ربما لأنه متأكد أن عزمي بشارة لا يقول مجرد كلام للاستهلاك في زمن استهلاك الكلام و"فوضى الحواس" الروائية والانقضاض على روايات هاري بوتر بموجب قوانين السوق الاقتصادية. فقراءة الكتب في هذه الايام باتت في نظر الكثيرين استثمارا غير "مجد" في زمن "الاستهلاكية" وعصر السرعة والاكتفاء بالثقافة "السمعية" والوجبات السريعة و"مشهدية" الفضائيات، لكننا رغم ما ذكر وما نشهده من حالة "ثقافية" متردية نراهن على كتاب لعزمي بشارة توزعه ثلاث دور نشر في آن واحد كي يصل إلى المواطن العربي ولا يكون شهادة عن عذابات أو "رسالة في الحب والاخلاق" فحسب أو مجرد رواية للتسلية إنما نطمح الى تعميم رواية ( روايتنا )، ونهدف إلى توضيح رؤية لفكر وطروحات وإيضاحات روائية حديثة من خلال تصوير أدبي رائع وأسلوب كتابة من نوع آخر لتجربة عشقية "واقعية" يمكن تسميتها "ما بعد حداثية " يسرد خلالها حكايات عن الناس وللناس.

البلاد مليئة بالحكايات، ولكل واحد عالمه وحكايته، والحكايات عند عزمي بشارة "الحكواتي" أو "الحكاي" كما يقول اخواننا المصريون بالعامية لا تنتهي، وربما لا تنتهي وقد لا تنتهي، لأن الحكاية ستتحول الى نوستالجيا "ليست مثلما كانت" كما تقول الممثلة الفرنسية الشهيرة الراحلة سيمون سنيوري، والنوستالجيا تحمل الحنين الى ماض والمعاناة الناتجة عن الرغبة غير المشبعة بالعودة..

وهي أيضا الحزن الناتج عن الحنين الى مسقط الرأس والمنزل كما يقول الروائي ميلان كونديرا. والناس في بلادنا يحبون "صف الحكي" من باب "الفضفضة" عن حالهم، وقد يروي الواحد حكايته اكثر من مرَه لأكثر من شخص، وجباية الحكايات وتحويلها إلى رواية ليست بالامر السهل وغالبا ما قرأنا روايات عربية تحاول ان تعكس الواقع وتصوره لكن المبالغة المصحوبه ببلاغة زائدة تجعلك تترك الراوي بين كلماته، لكن علاقة عزمي بشارة مع الواقع ومع النظرية ومع الأدب مختلفة وحكايات عزمي بشارة عن الناس من خلال تجربة حب بين عاشقين رحلة ممتعة ومؤلمة، مضحكة وحزينة في آن تشدك اليها رغما عنك.

وهناك في "دولة الحاجز" أو في "منطقة الظل" عندما تشرق الشمس وتلقي بظلها على الناس تتشوه الكلمات والمعاني والرواية والثقافة والهوية بعدما حاصرها الحصار، واقتصرت الاعمال "الابداعية" في العقد الاخير على قصيدة هنا وديوان هناك يوزع حصرا على أصدقاء الشاعر وغالبا ما يبقى مفهوم القصيدة محجوزا في أحشائه بعيدة عن الهم العام، لنكتشف بعد حين أنها ثورة في الاحشاء ونذالة ووجهنة في العلن مع فقدان الناس جرأتهم في زمن استهلاك الحاجيات كما ذكرت وإستهلاك الكلمات اذا استهلكوها أصلا.

وقبل أن أدخل في في تفاصيل الرواية الجديدة أو التجربة الثانية التي خاضها عزمي بشارة بعد "الحاجز.. شظايا رواية" والتي بشرّت لنا أن كاتبها لديه ما يقال في هذا المجال وأنه يستطيع أن يروي حكايتنا.. روايتنا نحن الفلسطينيين القابعين في وطن.. المكان الذي تشظى بفعل وجود دولة القادمين.. التي قسّمت فلسطين الى دولة الحاجز وبلاد الحواجز. لكن بشارة هذه المرة لن يسمح للمكان أن يشظي روايته لأن المكان متشظ أصلا مثلما تطاول الحاجزعلى روايته الاولى وشظاها وجعلها صوراً واقعية تراجيكوميدية وبرغم ذلك اجتاز بشارة الحاجز وبقي في المكان وأنجز رواية تستحق الانتباه بأمعان ، روايته الجديدة، "حب في منطقة الظل".

وأبيح للقارئ بعض الاسرار، لأنني منحاز لعزمي بشارة الصديق الكاتب والمفكر الديموقرطي القومي العربي، أن هذه الرواية أقلقته كثيرا أثناء الكتابة فكان مهتما بإعادة السرد أكثر من مرة والتدقيق بالتفاصيل وتغيير الاسماء ما عدا الابطال الرئيسيين عمر ووجد ودنيا.

فأنا شخصيا قرأت الرواية ثلاث مرات مع كل التغييرات وأعرف أنه يعكف على هذا العمل منذ سنتين، ولا أخفي انني اتعامل مع نصوصه كقارئ وصاحب موقف وأحد التمحمسين لمشروعه الثقافي والفكري وليس كناقد أدبي مع إحترامي لنقاد الأدب والسينما والرياضة، لأن أدوات النقد الادبي ومعرفة هوية المبنى وجماليات اللغة والحبكة يحملها النقاد وأتركها لهم لأني لا أسمح لنفسي أن أعتدي على ممارستهم المهنية "وأكل عيشهم ". ومهما قيل أو سيقال مع الاعتذار سلفا للنقاد يستطيع القارئ أي قارئ حتى لو لم يكن نبيها أن يقرأها حتى النهاية ويعيشها إذا اراد فعلا أن يعرف الرواية وفق عالم الراوي.

فليعذرني القراء على هذا الانحياز " الموضوعي" للرواية لان الكاتب صديقي او إتخذت مواقف مماثلة لمواقفه أو ربما لأننا ننتمي لنفس "العالم"، لكن هذا الانحياز يشكل للقارئ شهادة من قريب تساعده في فهم بعض خيوط الرواية.

ينفعل قراء الرواية وخاصة المثقفين من كل رواية يجتازون حواجزها وإن تعددت الروايات العربية التي لا تستحق استكمال حكايتها حتى النهاية فالقراءة شبيهة أحيانا بالاستماع للرواي لان هناك علاقة بين العين والاذن، بين الصمت والسمع فعندما يكون الراوي "نشازا" تترك المكان وعندها تتصعب من القراءة والفهم وتدخل في التعقيدات غير المبررة تسقط الكتاب الى تحت السرير لتنغمس في النوم شاردا من الرواية والاتعاب الذهنية. وما فعله الراوي " في حب منطقة الظل" فعله جوزيه ساراماغو في العمى عندما "جرجرنا" حتى نهاية روايته لنعرف سر ما يريد، وهكذا فعل بي مؤخرا غابرييل غارسيا ماركيز في "ذاكرة غانياتي الحزينات" فقد استغل غريزة فضولي لأعرف "الفضائح" الجنسية لرجل تسعيني. أما عزمي بشارة فقد "جرجرني" وجعلني أبحث من باب الفضول أيضا عن شخصية عزمي بشارة في الرواية، فوجدت ألمه وجنونه، همومه وثقافته، ديموقراطيته و"ثوريته" العقلانيه، صمته المميز وأسلوبه في الكلام ومحاولاته الذكية في "حشر" من يحاور، صفات تجدها في شخصيتي الرواية، وكانه وزع نفسه بين العاشقين عمر ودنيا، وبينهما وبين عمو صلاح.

ومن قرأ "طروحات في النهضة المعاقة " لعزمي بشارة الصادر عن دار الريس 2003 الذي قدم خلاله في حينه قراءة للواقع الاجتماعي ومعيقات النهضة العربية المستعصية وأنتج لنا "البوم صور عن مثقفي إعاقة النهضة"، سيستسهل فهم الحوار المستمر بين عمر ودنيا في "حب في منطقة الظل ".

يستطيع الناقد إعتبار الرواية "رومانسية "، لأنها فعلا لا تخلو من الرومانسيات الجميلة وأحاديث عن الحب والسياسة و"الغيرة" "وأحمر الشفاه والميك أب " ومعاني الشرف والوطنية وسمات الرجل الشرقي والخيانة... إنها باختصار قصة "حب لرجل مسكون بهواجس الحرية والسعادة والاخلاق والجمال والعدالة...والسياسة ".

ويستطيع ناقد آخر أن يعتبرها رواية سياسية وحكايات عن الناس في "إسرائيل" أو دولة الحاجز كما اختار الكاتب أن يسميها وتعمّد في الرواية عدم ذكرها باسمها ربما عقابا منه لما فعلت بناسه وأهله... لدرجه انه جعل ظل بطله يظهر فجأة ،كأنه خرج منه ، وطال وتركه إلى أن اعتقد أنه تقيأ ظله ..

لا يخلو الحوار الرومانسي بين العاشقين عمر ودنيا من "السياسة" الطاغية على قصتهما، فالحوار نفسه هو "رومانسية سياسية وتمرد عليها في آن" ، يشكو عمر همومه وقلقه لدنيا، أما دنيا فتحاول أن تتنازل لعمر بما يرضى، أو توازن حدته او تحرجه وتكتشف ضعفه ايضا، ولكنها تحبه قبل كل شيء وهو يحبها، والرواية كلها قصة حب..

يقول عمر لدنيا "أنا أصف لك ما أحس به. أنا أعيش هنا، غيري يكره شعبه ويحب "القضية" يا دنيا، يتكبر على العيش مع شعبه، أو على الأقل لا يطيق ذلك، ويطل عليه أحيانا فيبدو نجما متواضعا، من السهل أن تبدو كمن يحب شعبه إذ تطل عليه مرة في العام. وحضرتك لست قاسية هكذا بالكلام، ولكنك غير مستعدة أن تعيشي هنا وربما أنت قاسية بسلوكك الحياتي، لا يخطر ببالك العيش بمثل هذا المحيط، ومتهاونة في تقييمك لأنك تتسامحين عن بعد، وأنا قاس بتقييمي ولكني أعيش مع الناس. لنر إذا كنت، حضرتك، سوف تتسامحين مع الوضع عندما تضطرين أن تعيشي معه.

وتجيب دنيا- ومع من أعيش أنا ؟ من قال لست مستعدة؟
ويرد عمر- ربما مستعدة أن تأتي لتعيشي معي، ولكن لن تختاري أن تعيشي هنا كما اخترت أنا"...فترد عليه دنيا ان لا احد فينا اختار اين يكون.




أمر ما شدّنا في حينه الى رواية الحاجز، إنها رواية وليست خواطر اختارها استلهاما محض صدفة، وهي "مفككة" بأسلوب تمنح القارئ فرصة البداية من أي باب يختاره وفي كل باب من الرواية يلتقي بطلها، والبطل ليس فقط مكان او زمان، انه معشش أيضا في النفوس ويترك أثره عليها.

"الحاجز" بطل كل الفصول والمشاهد وهو الذي يشظّي المكان والناس، اضافة الى "مقتهم"، والحاجز عند عزمي بشارة لا يقتصر على ذلك الحاجز بين الطرقات فحسب، إنه موجود في كل مكان، في الجسر والمطار وحضور الجنازة والزفاف وفي الطرق الالتفافية وعند شاطئ البحر. انه الواقع المر الذي يهين الناس والزمن. فماذا يعني ان تمنع من ممارسة طقوس الحياة وأن تختار شريكتك دون حواجز، حتى الوداع الاخير والجنازات يحجزها الحاجز.

كتب عزمي بشارة في "الحاجز" بلغة أخرى لم يعرفها من قبل الذي تعوّد على مقاله السياسي او الفلسفي ففاجأ الكثيرين بمقدرته على كتابة الادب، وإن كنا لمسنا هذا الاسلوب في مقطوعات من مقالاته الكثيرة، إنه يروي همومه بدءا من الحاجز "المحسوم" بالعبرية الدارجة بلغة اهلنا سكان بلاد الحواجز أو "المحثوم" كما تسميه إبنته الصغيرة "وجد" التي اختارها هذه المرة "بطلة من هذا الزمان" في روايته الجديدة ليغوص بالهم العام الذي يخلفه الحاجز ولينهي روايته "الحاجز " بحديث طفولي بين وجد وعمر. وقد إختار الاخير أيضا بطلا " لتجربة في العشق ".

من كتاب الى آخر، من شظايا رواية الى رواية، من "الحاجز" إلى ظل الحاجز وظل عمر و" فقدان عمر ظله " وعودة الظل الى مسقط الرأس وظل الظل.. "وتقمص الصحفي دور ظل الصحفي أو الصحفي ظل السياسي" و"ظلال السياسيين التي أنجبت أنصاف صحفيين" "وإتهام الظل منافسيه من الباقين بالتطرف ".

تكشف الرواية وقاحة ظل الحاجز وتوضح للقارئ حقيقته.. يقول الراوي ص 311 " الناس خارج دولة الحاجز غير معتادين على وقاحة "ظل الحاجز" خاصة عند الظهيرة أي عندما تضرب الشمس الحاجز عموديا فيكون الظل على نقطة التماس تماما بين عالمين، مما يضيف نمط الوقاحة المحمودة في دولة الحاجز. وهم يستغربون من وقاحة الظل القادم من منطقة الظل القادم من منطقة الحاجز، ويحسبونها تعبيرا عن اهمية او خطورة الوقح ".





وانتظرت عزمي بشارة ليروي لنا حكايات عمر مع عشيقته دنيا، " الحب الحلم لعمر " الفتاة التي طالما حلم بها، مارس معها "الحب" والكلام على "التشات" مجتازا كل الحواجز من الاسلاك الشائكة والحدود وحدود الكلام لدرجة أن دنيا تغضب من قسوة عمر لكنها سرعان ما تلين وتتراجع لانها تحبه أو لانها فهمت "جنونه "، او لانها تكتشف جنونها هي ايضا.

فجأة تتذكر علاقة الفلسفة بالجنون، ولانك أمام كاتب يمسك زمام الفلسفة، تشعر أنه يعيدك الى جنون مشيل فوكو الذي يعتقد أنها " الممارسة اليومية المنتظمة "..كل يوم مماحكات على التشات، فجأة تكتشف أن العزلة التصويرية للجنون عن العقل هي اللاعقل. عصبيات مماحكات عمر وفضوله اليومي وحبه للاشياء والاسئلة الزائدة تذكرك بهذا الجنون ويغصبك ان تتساءل فعلا ما هو الجنون.. لا تستطيع ان تفهم حماقات عمر غريب الطباع لكننا نلتقي مع فتاة تعرف ان تحب وأن تفهم حبيبها.

فجأة "تصفن" وتشرد أذهانك من الرواية لتبحث عن العلاقة بين الفلسفة والادب.. وتتعامل مع الراوي كمناضل سياسي يرسخ خطابا من خلال ما يروي وما يسرد وما يضع من أفكار ووجهات نظر على شكل حكايات مصوغة في بناء استدلالي من المقدمات والشرح والنتائج. والخطاب يحتاج الى معرفة وكلمات.. والرواية "التاريخية" تحتاج الى خطاب يستند على المعرفة والكلمات ،الحداثة والمدنية ، الاصالة والتراث .. الكمبيوتر وعلم الحاسوب والعمل في النجارة ورائحة الخشب وإستحضار ما تندب النساء من "بقايا التراث" عند موت عزيز .. والتراث شأن من الماضي لكنه حي عالق في الذاكرة له علاقة مع الهوية والذاكرة الجماعية.


عمر الأكاديمي وخريج كلية الحاسوب من جامعة اوروبية يعيش داخل دولة الحاجز، عمل في شركات الهاي تيك وستارت أب، وبعدها تنقل للعمل في مهن مختلفة كالصحافة والنجارة..

والده علي الجنابي المثقف الذي درس في الكلية العربية قبل النكبة، لم يستطع في دولة الحاجز أن يمتلك بيتا بعد أن صادر الحاجزيون أرضه، فقد اصدقاءه بفعل التشرد ولم يبق له في البلاد غير عمو صلاح صديقا، وعمو صلاح يصغرعلي الجنابي بصفين في الكلية العربية في القدس، كان مناضلا من اجل نشر العلم والثقافة وتحرير الوطن وكانت تربطه بعمر علاقة خاصة لدرجة انه اصطحبه معه ليعرفه على دنيا ابنة ابن عمه المتوفى.

تعرف عمر على دنيا وأحبها فورا وقرر ان دنيا هي الفتاة التي يستطيع أن يحبها، ودنيا بنت لاجئين في لبنان ارسلها والدها لتتعلم الطب فدرست العلوم السياسية، وعندما التقت بعمر هبطت في حبه " هبوطا رقيقا عذبا " فبعد اللقاء الاول راحا يتحدثان مع بعضهما في "المسنجر" على الانترنت، وجلسا ساعات طويلة يتبادلان الحوار والنقاش والمماحكة والغضب والمزاح في ارخص واسهل وسيلة اتصال ممكنة. " وأدت موجات لغضب الى فراق وعودة متكررين على الانترنت" ص10، لأنه كان يحبها، يحبها فعلا.. يقول ص11 " يحدث أن يعيش الناس ويموتون دون تجربة حب فعلية، أما أنا فلا أحب فقط بل أحب تلك التي حلمت أن أحبها فكيف أتخلى عن هذا ؟... كيف نتخلى عن هذا ؟ ".

كتب عمر لدنيا عن الحواجز وحكايات "الحب المحجوز خلف الحواجز" وفلسف لها اسباب وجود القادمين في دولة الحاجز، يقول عمر ص 17 " صحيح أن القادمين مهاجرون الى ما يعتقدون أنها بلادهم، ولكن الباقين ليسوا باقين فحسب بل أيضا مهاجرون وغرباء في دولة ما كان بلادهم، لم يغادروها بعدما غادرتهم. ولم يبرحوها حتى بعدما غادروها فيها، أو بعدما غادرتهم فيهم ". يتابع عمر قائلا " وإذا هجرت البلاد المهاجرين في بلدهم، وإذ غادرتهم فيهم تجوف حيزهم الخاص نحو الداخل، وتجوف نحو الخارج، اختفى الحيز العام، واختفت المدينة. اختفت الامكنة العامة وبقيت الاماكن بشكل عام، وبات أبناء المكان نزلاء في المكان بوجه عام، طلول الراحلين اللاجئين وظل القادمين الوافدين ".

ينتقل الراوي من فصل "المكان" الى "البلدة" أو "القرية عالم الناس هناك " ليروي لنا ان عمر لم يغير مسكنه في القرية نوعا من الوفاء لوالده، برغم من ان والده كان منفتحا ولم يطالبهم بمراعاة تقاليد لا عقل في مراعتها، وكان "هذا يعني بالنسبة لعمر البقاء في البلد إلا إذا اضطر للرحيل كخيار أخير، والبقاء في البلاد في كل حال " ص 46. وقد تربى جيل عمر على سؤال "ايمتى راجع البلد " "مش تروح وما ترجع للبلد "... والبلد هي القرية، والقرية هي "البلد" و"البلد بلدنا"..

حوار يستمر ساعات كل يوم، أحاديث في الحب والسياسة، من البلدة الى البلدية وعموم الناس في الحيز العام وسلوكهم...

يقول " ليس للقرية شاطئ ولا حديقة ولا غابة ولا توجد في القرية قرية، انتزعت القرية من المكان والمكان ايضا فرّغ من جوفها. بقيت القرية الكبيرة يفصل بين داخلها الموظف اساسا كمأوى للنوم بعد العمل وبين خارجها المركب من خارج فقط، خارج بذاته. وسكانها الذين فقدوا الطبيعة... يريدونها أن توزع عليهم من قبل "الدولة" كقسائم بناء ويريدون ارصفة وحديقة عامة مثل القادمين." ص 133.

يضع الراوي عالمه ( معادلته ) من البداية بخصوص الرواية عن "أبناء المكان" الفلسطيني، وما فعله أصحاب دولة الحاجز بهم رافضا ادعاءات الصراخ والتملق والتسليم في الامر الواقع، وسيكتب عمر لاحقا الى دنيا عن أن طروحاته تنطلق من كونه "صاحب البلد" المغترب فيها وبين سكانها.

يضع الراوي المجتمع العربي على المشرحة من خلال نماذج من شخصيات الرواية، عمر ودنيا ووجد وعمو صلاح وعصام ومحمد وابوعمر علي الجنابي.. من الصعب ان تجذب عامة القراء اذ تتطلب نوعا خاصا لدية الكفاءة الذهنية والثقافية فهي تقدم مادة روائية لا يسهل تلقيها ولكن لا بد من ثقافة خاصة لتلمس أسرار والوقوف على مضمون الكتاب فهو يتطلب المشاركة العقلية. فشخصيات الرواية ربما عمو صلاح الصامت الذي لم يقل كلمة واحدة في الرواية مثلا أو بعض افكار عمر واسئلة دنيا وخوف وجد كلها أفكار معبرة عما في فكر كاتب الرواية، انها شخصيات "واقعية " من نسيج خيال الكاتب ومن تجارب ذاتية عاشها كما يبدو، فمن الصعب ان تكتب رواية دون ان أن تلامس بعض الشخصيات في الواقع الحياتي، فالتجربة والمرحلة مادة روائية.

سوف تكتب الكثير من الدراسات حول هذه الرواية وشخصياتها وتحيّر دور الاعلام فيها ، وعالم الظلال الذي يقسم الواقع الى ازدواجية جدية تضرب في ازدواجية الحاجز فينتج عوالم افتراضية لا متناهية في انعكاس مرآتين. سوف يكتب عن توظيف الخشب في وصف الفرق بين عالم الحياة وعالم الظلال الافتراضي الذي يحاول السيطرة على عالم البشر عبر الصورة. عن كل فصل دراسة... المستشفى، السجن الإعلام، عالم الظلال...رواية حقيقية، أدب روائي يروي ايضا دون أوهام وبسخرية مرة قصة شظايا مكان، قصة فلسطين من زاوية تكاد تكون مستحيلة، زاوية عاشق بجرح وقلب مفتوح وعقل مفتوح وواقع موصد وليس لديه من يراسله سوى فتاة أحلامه ودنيا حبه ومن يدري فربما اخترعها ليراسلها .




عن "الكتب ووجهات نظر" المصرية –عدد نوفمبر 2005

التعليقات