مهزومون ومنتصرون: عن ادوارد سعيد وحنا ميخائيل وأنيس صايغ../ ماجد كيالي

-

مهزومون ومنتصرون: عن ادوارد سعيد وحنا ميخائيل وأنيس صايغ../ ماجد كيالي
"مهزومون" و"منتصرون" هو استعادة لعنوان مقالة كان كتبها الراحل ادوارد سعيد (صحيفة "الحياة" في أواسط التسعينيات)، عن راحل آخر هو حنا ميخائيل (أبو عمر)، الذي سبق أن أخفي أو استشهد، وسط ظروف غامضة، في مطلع الحرب الأهلية في لبنان (1976). وكانت جمعت الرجلين صداقة متميزة بدأت إبان دراستهما وعملهما (منذ أواخر الخمسينيات) في الجامعات الأمريكية، واستمرت بعد مغادرة حنا (أبو عمر) إلى الأردن ثم لبنان، حيث التحق بحركة فتح (القطاع الغربي)، وكان من مؤسسي التيار الديمقراطي في حركة فتح.

وعدا عن انتقاد سعيد (في مقالته المذكورة) لاتفاق أوسلو، الذي اعتبره انحرافا عن التيارات الرئيسية للتاريخ الفلسطيني والأهداف الوطنية، فإن سعيد رأى في هذا الاتفاق تأثيرا سلبيا على حركة التحرر الفلسطينية، فمثلما "أن إسرائيل خرجت منتصرة وخسر الشعب الفلسطيني، فثمة في صفوفه أيضا منتصرون وخاسرون".

وعند سعيد فإن أبو عمر، هو نموذج لهؤلاء "الخاسرين"، فهو يمثل "شخصية إنسان فذ.. ضحى بحياته..كي تستمر وتتحقق المثل التي قامت من أجلها "الثورة الفلسطينية"..وبحسب ادوارد كان حنا مناهضا لانتهاك السلطة، ومناهضا للإنفاق التبذيري ونمط الحياة المبهرج..عاش وفقا لأفكاره ولم يفصَل قيمه الديمقراطية والعلمانية لتناسب سادة جددا ومناسبات جديدة. ويعتقد سعيد بأن حياة أبو عمر التي "انتهت مبكرا بصورة مفجعة تكتسب حاليا أهمية أكبر. فحنا ميخائيل ليس بين المنتصرين في مسيرة السلام الحالية. ورفاقه في لبنان وأماكن أخرى لا يزالون في المنافي. والأسوأ من كل ذلك..فإن الأفكار والمبادئ التي عاش ومات من أجلها، مبادئ التحرر الإنساني والتعايش الكريم بين العرب واليهود، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية للرجال والنساء، كلها وضعت في حال انحسار مؤقت..بسبب تخلي الحركة ذاتها التي انتمى إليها عن المواقف المبدئية. حيث ثمة فئة سائدة جديدة في الحركة تشدد على الواقعية والبرغماتية ..تعتقد بأن الصفقات..هي أفضل ل "الشعب" من جهود الشعب ذاته. وبالنسبة لكل فلسطيني اليوم، وفي تناقض صارخ مع التنازل الكبير والاستسلام المذل، يمثل حنا ميخائيل نموذجاً لدور متميز، رجلاً لم يحط من شأن نفسه أو شعبه. لماذا؟ لأنه عاش أفكاره و مات في سبيلها. هكذا بهذه البساطة. و بالمثال الذي ضربه يعطي حنا درساً لأولئك الذين بقوا على قيد الحياة بعده."

استعادتنا لهذه المقالة عن حنا (أبو عمر)، التي تفيض وفاء ونبلا، من صديق لذكرى صديقه، تفضي بنا للحديث عن زوجته جيهان الحلو (أم عمر)، التي يصفها سعيد في مقالته بالمرأة الشجاعة، وهي أيضا من هؤلاء "المهزومين". جهان التي كانت من أبرز النساء العاملات في حركة فتح، وكانت عضوة في قيادة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، لم تستكن ولم تهدأ، برغم إنها محسوبة على صنف "المهزومين"، وفق التصنيف السعيدي، داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.

أم عمر هذه عملت بدأب وصبر كبيرين، على مدار سنوات مديدة، وهي تجمع شهادات لنساء مناضلات، عملن في صفوف الثورة الفلسطينية، وضحين بكل شيء، وتم طمس دورهن، بواقع الثقافة الذكورية، وثقافة العنف، وأيضا بواقع التبلد في الحركة الوطنية الفلسطينية. وكانت نتيجة هذا الدأب الدقيق والناعم أن أثمر كتابا يحكي على لسان عشرات النساء، ممن عملن وناضلن وضحين في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، سردية أخرى، عن جانب مسكوت عنه في مسيرة هذه الحركة. هكذا جاء كتاب "المرأة الفلسطينية : المقاومة والتغيرات الاجتماعية ـ شهادات حية للمرأة الفلسطينية في لبنان (1965ـ1985)، كمحاولة ضد سياسة الاستبعاد والنبذ، وكمحاولة جادة وفريدة في كتابة تاريخ الثورة الفلسطينية، بوصفه ليس تاريخا ذكوريا فحسب، وهو جهد تستحق عليه التقدير.

على كل فإن استعادة عنوان "مهزومون ومنتصرون"، تصح على كثيرين، أيضا، ومنهم ادوارد سعيد ذاته، الذي ربما كان يرى صورته في صورة قرينه أبو عمر، كما تصح على أنيس صايغ، الذي رحل عن دنيانا مؤخرا، وفي نفسه غصة على المآل الذي بلغته أحوال الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد الجرح الذي أصابه نتيجة ضياع مركز الأبحاث الفلسطيني.
هكذا فإن مسيرة أنيس تقارب مسيرة حنا، فكلاهما ترك حياة الأكاديميا، واختار الركوب في قارب "الثورة"، وكلاهما اختار معارضة السائد، ونبذ الألقاب والمناصب والجاه، انتصارا للنبل والنزاهة، وانتصارا للعدالة الفلسطينية.

كان أنيس صايغ، مع أخويه فايز ويوسف، واحدا من عائلة فلسطينية قدمت إضافة نوعية للعمل الفلسطيني، لاسيما في مجال البحث العلمي، وفي مجال البناء المؤسساتي.

فقد أدار أنيس مركز الأبحاث الفلسطيني، حتى بات في حينه من أهم مراكز الأبحاث في العالم العربي، كما أنشأ مجلة "شؤون فلسطينية"، التي كانت إحدى المجلات الفريدة والمرموقة في زمنها، وربما إلى الآن. كذلك فقد تبوأ أنيس صايغ في حياته منصب رئيس التحرير في عديد من مجلات الدراسات العربية (شؤون عربية، قضايا عربية، المستقبل العربي). وأشرف على الموسوعة الفلسطينية، وتتلمذ على يديه عديد من الباحثين.

بالمحصلة فقد أعطى أنيس، للثورة الفلسطينية، عمره وعلمه ونزاهته، ودأبه (كما العديد من أمثاله) لكن هذه "الثورة" لم تكن على قدر هذا العطاء، إذ أنها بلغت من العطالة والتبلد حد أنها كانت "محصنة" من "عدوى" أنيس، وأمثاله كادوارد سعيد وحنا ميخائيل وشفيق الحوت وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد ووليد الخالدي (أطال الله عمره)، وغيرهم كثيرون.

ولعل من أهم علامات تخلف حركة التحرر الفلسطينية، التي هيمن عليها الأبوات، والعلاقات المحسوبية والزبائنية، إنها لم تستطع هضم هذا الطراز من المثقفين التنويريين والنقديين والديمقراطيين، ولا هذا الحد من النزاهة، ولا احتمال هذا القدر من الإصرار على الاحتكام لقيم العدالة والحقيقة.

وربما يصح القول بأن الحركة الوطنية الفلسطينية، ب"هزيمتها" لهؤلاء (بحسب التعبير المجازي لسعيد) انهزمت هي أيضا، لنفس الأسباب، أي بسبب سيادة الروح البطركية والغوغائية وتفشي علاقات الفساد والمحسوبية فيها، ولتخليها، بالتالي، عن طابعها كحركة تحرر وطني.

التعليقات