نهاية الثورة الفلسطينية../ د.جوني منصور

-

نهاية الثورة الفلسطينية../ د.جوني منصور
صادف يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع ذكرى مرور سبعين عامًا على اندلاع الحرب العالمية الثانية. ويظهر بوضوح أنه في خضم انغماس العالم بمشاغله الجارية والطارئة كاد كثيرون نسيان هذا الحدث المفصلي في تاريخ مسيرة العالم، أو أنَّ كثيرين لا يعرفون بوقوعه لأسباب حياتية يومية صرفة، واهتمامات ذات حدود ضيقة وسقف منخفض. إنما، ما نود قوله والإشارة إليه في هذا السياق تحديدًا أنه مع اندلاع هذه الحرب انتهت الثورة الفلسطينية الكبرى في النصف الثاني من ثلاثينات القرن المنصرم التي ميزت إصرار الشعب الفلسطيني على تحقيق استقلاله بنفسه، وعلى بناء دولته ومستقبله من خلال بذل الدم والشهادة.

وكانت الأحداث السياسية والعسكرية التي عصفت بأوروبا وغيرها عشية الحرب العالمية الثانية، إيذانًا بقرب نهاية هذه الثورة. وما أن أطلقت الرصاصة الأولى في الحرب العالمية الثانية حتى عملت بريطانيا على تحويل فلسطين إلى قاعدة عسكرية بريطانية ووفرت آلاف فرص العمل للفلسطينيين واليهود في قواعدها ومرافقها ومنشآتها العسكرية في حيفا وعتليت ومناطق اللد وغيرها.

وبدأت تعلو الأصوات الداعية إلى الوقوف إلى جانب بريطانيا وحليفاتها في مواجهة الخطر النازي ـ الفاشي الذي سيحرق الأخضر واليابس كما صورت ذلك بريطانيا. وبدأ زعماء عرب يدعون ويعملون من أجل تنظيم حملة تطوع في صفوف الجيش البريطاني لأن انتصار بريطانيا على أعدائها سيوفر مستقبلا زاهرًا للعرب عامة وسيوفر حلا مقبولا للفلسطينيين وتحقيقًا لأمانيهم وتطلعاتهم.

وغطت تطورات معارك الحرب العالمية الثانية في بداياتها على أخبار الثورة، حتى أنها كادت أن تتحول إلى خبر كان، ثم تلاشت شيئًا فشيئًا. ودخلت فلسطين في مرحلة جديدة خلال الحرب العالمية الثانية إذ تدفقت الأموال وتحسنت الأحوال المعيشية، إلا أن ما أفرزته الحرب لم يكن في صالح القضية الفلسطينية، إنما صب في صالح القضية اليهودية التي ابتدعت في اوروبا وأوجد لها الحل في فلسطين وعلى حساب الشعب الفلسطيني وممتلكاته على مختلف أنواعها من أراض وعقارات ومحلات ومنشآت وغيرها.

إلا أن المتمعن في الأمر مليًّا يُدرك أن الثورة الفلسطينية لم تنته جرّاء اندلاع الحرب العالمية الثانية، إنما جرّاء سلسلة من الخطوات والتحركات التي تتحمل مسؤوليتها الأطراف ذات الصلة. بمعنى آخر، توزيع عبء المسؤولية على الأطراف ليس على قاعدة التساوي على وجه الإطلاق. فبريطانيا قد سعت منذ اندلاع الثورة الفلسطينية إلى تفتيتها بالتمام من خلال اختراق صف الوحدة الوطنية بواسطة تقريب أطراف فلسطينية وإغرائها بالمال والجاه، ومن خلال ملاحقات متواصلة ومستمرة للثوار الفلسطينيين أينما تواجدوا وتصفيتهم، ومن خلال قيام سلطات الاحتلال البريطاني بتدمير منشآت ومرافق فلسطينية وهدم منازل بالعشرات وتنفيذ سلسلة من الاعتقالات والمحاكمات الصورية البشعة وتنفيذ أحكام الإعدام والسجن المؤبد والنفي، باختصار كافة أشكال التعذيب والمضايقات التي نراها يوميا في ممارسات الاحتلال الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وتجندّت العصابات الصهيونية إلى مشروع بريطانيا في إضعاف الثورة الفلسطينية وتصفيتها نهائيا ليكون لها متسع من مساحة العمل بحرية تمهيدًا لإعلان قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين، وذلك من خلال ترحيل الشعب الفلسطيني بواسطة تنفيذ أبشع صور تصفية شعب في العالم.

وساهم زعماء الدول العربية من ملوك وأُمراء ورؤساء في وأد الثورة الفلسطينية من منطلق تعاطفهم الكامل والأعمى مع السياسة البريطانية ووعودها المتمثلة بالكتاب الأبيض لعام 1939 والذي وعدت فيه بريطانيا العرب واليهود على إنشاء دولة واحدة في فلسطين تضمن من خلالها حقوق الطرفين بالتساوي، والعرب قبلوا هذا العرض البريطاني واعتبروه خطوة نحو تحقيق المزيد، إلا أن الحركة الصهيونية رفضته بالكلية واتهمت بريطانيا بنكث وعودها والتراجع عن سياستها تجاه تبني المشروع الصهيوني وتطبيقه، وفعلت الحركة الصهيونية من خلال مؤسساتها كافة أشكال الضغوط على بريطانيا لتتراجع عن كتابها الأبيض والذي نعتته الحركة الصهيونية على لسان وايزمن زعيمها بـ „الكتاب الأسود”.

وهكذا، عملت ثلاثة أطراف مشتركة على إضعاف الحركة الثورية الفلسطينية وإذابتها، علما أنه لو كتب لهذه الثورة الاستمرار في عيشها بالرغم من قلة التنظيم فيها وضعف القدرات المادية ونقص الذخيرة والعدد، لكانت قد حققت بغيتها في تسديد مزيد من الضربات نحو الاحتلال البريطاني وإلزام حكومة الانتداب وحكومة لندن بمنح الفلسطينيين مزيدا من الحقوق، إلا أن هذا من باب التمني فقط. أما الواقع التاريخي فهو بعكس ذلك.

إن دروس وعبر هذه الثورة الفلسطينية تؤكد أنه بالرغم من تصفية القرار العسكري وإضعاف القوة الحربية، إلاّ أنّ الروح الثورية ما تزال متأججة في نفوس وقلوب أبناء الشعب الفلسطيني المصر بكل قوة على حقه في العيش بكرامة وحرية في أرضه ووطنه الذي لا وطن آخر له.

فهل يتعظ الفلسطينيون من التاريخ ويتخذون من أحداثه عبرة؟

التعليقات