هوامش: انتصار بالكلمة على الدم في عيد الكتاب العربي/طلال سلمان

-

هوامش: انتصار بالكلمة على الدم في عيد الكتاب العربي/طلال سلمان
جاء معرض الكتاب العربي هذا العام مجلبباً بالدم، بدءا من اهدائه الى الراعي الذي بعثه من غياب، والذي غيبه الاغتيال، مروراً بمسلسل القتل الذي طاول أقلاماً وكلمات ومناضلين بالرأي.

مع ذلك فقد قبل عشاق الكلمة والباحثون عن المعرفة التحدي، وتوافدوا الى المعرض، بشيء من الوجل مع الجريمة التي ذهب ضحيتها الزميل جبران تويني، ثم كسروا حاجز الخوف وتدفقوا في الأيام التالية صبايا وشباناً رجالاً وأمهات يرافقن اطفالهن والفتية المفتوحة عيونهم على الرغبة في مصادقة الصورة والرسم والحفر.

ارتبك جدول الندوات والمحاضرات ومناقشات الكتب الجديدة ليوم او يومين، ووجد محمود درويش ان عليه ان يرجئ امسيته الشعرية وان يذهب بقصائده الى المعجبات والمعجبين به حيث تتفجر ينابيع الإلهام.

أما عزمي بشارة فقد أصر على تحدي الصعب، وهكذا فقد ذهب الى ندوته المقررة التزاماً بالموعد الذي كلفه مخاطرة أمنية وسياسية لا يقدر عليها الا في مناسبات استثنائية (غالبا ما جاءت مجللة بالحزن)... وحين اهتدينا الى القاعة، وكانت فارغة تماما إلا من المنبر والمقاعد، قال عزمي بعناد: سأتحدث ولو كان الجمهور بضعة أنفار...

الا ان الدقائق التالية جاءت مثقلة بالرواد، ثم انهمر مقدرو نضال هذا الفارس العربي الاصيل في أرض فلسطين المحتلة، فجاءوا بالعشرات حتى فاض جمعهم الغفير على القاعة، واكتفى بعضهم بان وقف خارجها مطالبا عزمي بان يرفع "صوتهم" اكثر فأكثر...

اكتشف الجمع ان عزمي بشارة يجمع في شخصه، الى القائد السياسي والمناضل العنيد، الخطيب الجماهيري والمثقف عريض الثقافة، والأكاديمي الذي يستعين بعلمه الغزير للتأكيد على سلامة استنتاجاته السياسية. كان الصوت يتماوج، علوا وانخفاضاً، وصاحبه يتدفق نهراً في التدليل على استحالة الجمع بين الصهيونية (بكل عنصريتها) وبين الوطنية، وكذلك على المخادعة الاسرائيلية في السماح لاهل الارض الاصليين، اي الفلسطينيين، بان يكونوا "مواطنين" في حين انها لا تعترف لهم بحق المواطنة، وان اضطرت الى التسليم بهم كمقيمين...

في أجنحة الدور المختلفة كان الكتبة والشعراء والمترجمون يوقعون لأصدقائهم والمعجبين، و"امناء الصناديق" يجبون الاثمان ويحررون الايصالات، ملتفتين بانزعاج الى تزايد الاهداءات المجانية.

وكان الفتية يتفلتون من ايادي امهاتهم حين يصادفون جناحاً يعرض بعض الكتب او الصور التي تثير فضولهم.

وفي المقهى كان ثمة كمائن متبادلة، يقبع فيها أولئك الذين يراقبون الحركة، ويسجلون "لوائح الاتهام": من استنفر من اهل عصبيته اكثر من سواه، ومن استدرج اقاربه ليزدحموا من حول جناحه وكأنهم اهل شراء وما هم كذلك.

في قاعات الكلام نشأت مباراة بين الأساتذة والباحثين والروائيين والقصاصين والشعراء على اثبات من هو الاكثر جماهيرية، ومن هو الاول في استدراج المعجبين والمعجبات.

بمعزل عن أرقام المبيعات يمكن القول ان عشاق الكتاب قد انتصروا للنادي الثقافي العربي، حارس الزمن الجميل، وانهم كانوا الى جانبه في انقاذ هذه التظاهرة السنوية المبهجة.

ارادة الحياة هي الأقوى، وها هم المشاغبون اللبنانيون يثبتون مرة اخرى انهم قادرون على الحاق الهزيمة بالموت، وانهم جبابرة في تحدي رعب الاغتيال وفي كسر جدار الخوف، والاهم: في تعلقهم بلغتهم التي كثيرا ما تتهم بالعقل، ولكنها عندما تجد عشاقها تثبت انها ولادة مخصبة وانها معطاء وانها تتسع لآفاق تقدمهم باكثر مما يتوقعون، وان العيب فيهم ان هم قصروا وليس فيها. فاللغة بأهلها، لكن الاهل بلغتهم.

وعسى ان يكون العيد الخمسون لمعرض الكتاب العربي عيداً لانبعاث لبنان وتأكيده لجدارته بدوره المفتقد: نوارة العرب ومنتداهم الثقافي، ومطبعتهم والكتاب وصحيفة الصباح.

حديث خارج الموت عن النهضوي عفيف فراج

صعب هو الحديث بصيغة "الماضي" الذي يعني "الغياب" عن المفكر الدكتور عفيف فراج الذي تستحضره رؤياه بقوة في هذه الأيام التي يتفجر فيها قصر النظر والتعصب والخوف من التغيير، فعلاً ورد فعل، فيكاد يذهب بالبلاد، وحدة شعبها ودولتها، والأخطر: سقوط النموذج المرتجى للوطن الرسالة الذي طالما بشرنا به من دون أن نصدقه او نصدق في حمايته.

وليس من قبيل المبالغة ان يقال ان عفيف فراج هو شهيد رؤياه: لقد كان من موقعه، كوطني عربي تقدمي مسكون بالمستقبل، يرى معاول الهدم تفتك بمقومات هذا الكيان الذي ابتدع كجزء من صفقة دولية شملت منطقته برمتها، فأعملت فيها مشرط التقسيم والتفتيت معتمدة أشتات العصبيات جميعاً لتكون حدوداً سياسية: فهي تارة طائفية، وطوراً مذهبية، وغالباً عشائرية جهوية، مفسحة في المجال لقيام دولة وحيدة في هذا المشرق الخارج من عتمة دهور التخلف تحت قباء السلطة العثمانية: إسرائيل.

وحين صدمنا خبر الغياب المفجع لعفيف فراج، الدارس الجاد والباحث الدقيق والمستخلص الأمين لدروس التاريخ من قلب طوفان الزيف والمخادعة والتزوير المقصود للوقائع ودلالاتها، فلقد نعيته بوصفه شهيد الجامعة الوطنية، شهيد الرؤية المستقبلية، والنزاهة الفكرية.

وأقر الآن بالتسرع، فعفيف فراج هو شهيد الوطنية العربية بامتياز، بقدر ما هو شهيد البحث العلمي ومحاولة تصحيح عمليات الزور والتزوير المقصودة في الكتب التي تدرس لنا لتزيفنا ولتجعلنا أغراباً عن أرضنا ونحن فيها وتجعلها لغيرنا وهي فينا. ولقد جعل رسالته لتصحيح المزور من تاريخنا وكذا من الدعاوي الفكرية التي مكنت للصهيونية وأضفت على مشروعها السياسي هالة من القداسة بالإرهاب الفكري ماضياً وحاضراً وفي كل الأزمنة والأمكنة شرقاً وغرباً، حتى صار العالم ضحيتها وان بعنوان عربي هو فلسطين.

اقتطف من كتابه الجديد "إشكالية النهضة بين الليبرالية الاغترابية والإسلامية الاجتهادية"، سطوراً كتبت أمس ولكنها تصلح لقراءة الغد في لبنان.

"ان دعوة المؤرخين الذين "تصارعوا" و "تقاتلوا" على تاريخ لبنان الى فتح أبواب الذاكرة تبدو وكأنها دعوة الى استئناف السجال العقيم، والعود الى بدء، اللهم إلا إذا استقر في الإدراك بأن الصراع على التاريخ سيخرج لبنان من الجغرافيا السياسية ومن تاريخ الحضارة".

تكفي التفاتة ولو متعجلة الى عناوين الصحف الصادرة اليوم، وأمس، او عشية غياب عفيف فراج، او في الفترة المكتوبة بدماء الشهداء الذين فجرهم الغلط منذ رفيق الحريري وحتى جبران تويني.

تكفي ساعة من التنقل بين المحاورات الحربية المتلفزة والمصادمات عبر الفضاء بالرأي التي تقدم المبررات المسبقة للاقتتال الآتي تحت لافتات التنازع على احتكار الوطنية.

يكفي التنقل من دار عزاء الى دار من ينعى نفسه سلفاً لاستنفار أنصاره كي يبادئوا العدو بالحرب فلا يأخذهم على حين غره.

تكفي ساعة من التأمل لنتحقق من أننا وقعنا، مرة أخرى، في شبكة التدخل الدولي التي ستغرقنا بالدم.

الا يفرض عفيف فراج نفسه، في مثل هذه اللحظة، وهو يستنتج:
"انني اطرح في ضوء التجربة الملموسة موضوعة تقول ان الدولة في هذا المكان من الدنيا هي أداة جمع أولاً، وهي صفة تتقدم على كونها "أداة قمع"، وان أداة قمعها يجب ان تبقى موجهة ضد الذين يمارسون عملية السطو على الزمان والمكان والإنسان، على التربية والثروة وكل ما هو عام. واذا ما تخلت الدولة عن وظيفتها الجمعية المركزية العمومية وسمحت للملل والنحل بهامش استقلالي لا يختلف جوهرياً عن البنى التكتلية التي اتاحت التنظيمات الذمية والملية، واذا تركت شأن صناعة الطبائع النفسية للرهبانيات او للإرساليات ودولها الحامية التي نفذت من ثغرة تلك التنظيمات أصلا فإن دعاة النهضة المعاصرين سيجددون "أوديسة" الثقافة اللبنانية المهجرة المهاجرة الجوالة".

( من كلمة في الندوة التي اقامها معرض الكتاب، لمناسبة الذكرى السنوية الاولى لغياب عفيف فراج، وصدور كتابه الجديد "اشكالية النهضة بين الليبرالية الاغترابية والاسلامية الاجتهادية")

شوقي بزيع يحقق حلم أبيه "المتنبي"!

للغواية تبعاتها المكلفة، ومنها ان اؤخذ بجريرة قراءة الشعر لا سيما جديده الذي يكتب بالنوايا السرية لأحشر في زمرة هؤلاء الذين يضاجعون الاحلام ويستولدونها اجنة من نور... فلا انت قادر على التحليق الى فضائها المفتوح ولا هي تقبل ان تسكن لغتك المعقمة بالسياسة، فلا يمكنها ان تدخل جنة الشعر المطرزة بأجنحة الفراشات.

لكنه شوقي بزيع برقته الجارحة التي يمكنها ان تجعل من اعتذارك غدراً بالشعر الذي رق حتى صار مقاومة نبيلة بالارض، شجرها ونهرها، قندولها ودويك الجبل، شحاريرها والحساسين، شتلة التبغ وسائر الأسماء الحسنى لفقراء الجنوب وجنوب الجنوب الذين رووا الصخر بالدم فصار النصر دواوين شعر تهديها امهات الشهداء لعرائس شعر التحرير.
على ان الشاعر الفعلي هو ذلك العجوز المتنبي، ابو شوقي بزيع، الذي قدر فصدق حدسه، وتمنى ونذر لربه عجله المسمن ان هو منحه أميرا لم يستطع ان يكونه فجاءه من صلبه من يحيي ذكر امير الشعراء ويكمل ديوانه، وها نحن نحتفي به ومعه بالنبوءة التي تحققت... مع حفظ حق احمد شوقي بالاعتراض ان استطاع الى ذلك سبيلاً.

ولقد سعدت بأن عرفت نسخاً من شوقي بزيع، شاعرا وناقدا وكاتباً سياسياً وخطيبا جماهيريا وقارئاً في كف الغيم لأسماء نسائه الآتيات.

اما في العشق فإن ما تضمه قصائد شوقي بزيع لا يتعدى لحظة الولوج الى خدر نسائه اللواتي تكأكأن عليه حتى تاه عن طريق الخروج منه... وحين فاض شعره عن عشقه التفت الى كلماته يعيدها الى خلقها الاول، فإذا الحرف غابة من العاشقات، وإذا الابجدية بكل الاشتقاقات والتوريات والاخيلة لا تكفي، لكي يطرز حفافي حبه.

ولان الشاعر هو الديوان فقد رفض شوقي بزيع ان تفلت امرأة واحدة من جنته، ومن أبت ان تسكن حرفاً من حروفه علقها في مطهره تتعبد آناء الليل وأطراف النهار، آملة ان يمنحها نظره...

اكثر ما يسعد شوقي بزيع ان تمتدحه في نسائه.

واكثر ما يسعدنا فيه انه كلما رأى صورة وجهه في المرآة تدفقت النساء قصائد فاحتشدت كتابا تعليمياً في اصول العشق.

شوقي بزيع هو المغني والشعر، هو الموسيقى والطرب، هو الملقي وهو الجمهور، هو العاشق والعشق، هو الارض والمقاومة، هو النهر الذي يذهب الى البحر، فيزرعه بأسماء الذين افتدوا حق الحياة لأبنائهم الآتين من الشعر... أليست الشهادة أرق دواوين الشعر وأخلدها؟

لقد ولد شوقي بزيع ومعه التحدي الذي فرضه عليه ابوه، وها هو يكدح عشقاً، ويهز سلاح القصيدة مقاوماً، مدخلاً الى الشعر مفردات لم يعرفها احمد شوقي، اذ صارت الارض المترعة بنجيع الشهداء هي الملهم ومصدر الوحي.
والارض امرأة أيضاً.

وعبر هذا المزيج الفذ بين العشقين صار الجنوب ولادة الشعراء: يقاتلون حتى الاستشهاد عشقاً، ويعشقون حتى الذوبان في الارض صمودا، فالارض لمن حماها بحبه، ان ضاعت منك لن يعيدها اليك الا دمك، وان خرجت منها لم تخرج منك وظلت تطاردك حتى تستعيدك. هل اعظم من هذه العلاقة منبعاً للشعر.

الارض هي الديوان، فمن قرأ فيها صار الشاعر.
وشوقي بزيع يستبقي في عشقه لذاته مساحة للارض ونسائها جميعاً.

وهو ما قصر عنه من اعطاه الاب اسمه تبركا وتيمنا بالشعر وإمارته التي لا يطالها ملوك الدنيا وطغاتها جميعا.

(كلمة القيت في ندوة اقيمت في معرض الكتاب لمناسبة صدور الاعمال الشعرية لشوقي بزيع)

من أقوال نسمة

قال لي "نسمة" الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
كلما التقيت حبيبين متحاضنين، او انتبهت الى عاشقين يختلسان لشوقهما لفتة تقطر حنانا، استعدت ايماني بالانسان.

الحب يجعلك اكثر تعلقاً بوطنك.

اعظم عشاق العالم هم الذين تتوحد في قلوبهم صورة الوطن والأم والحبيب. الحب، مثل الحبيب، لا يتجزأ.


عن صحيفة "السفير"

التعليقات