وإذا الموؤودة سئلت ...(14) /د. إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت ...(14) /د. إلياس عطا الله

شتائمنا... والبعد القوميّ


 


يقول أهلنا في حِكَمِهم التي لا تزعزع رسوخَها الأعاصيرُ الاستوائيّةُ من أمثال كاترينا أو ريتا: "الوَلدِ العاطلْ-1- بِجِيبْ المسبِّة-2- لأهلُه"، ويظهر، رغم صدق هذه المقولة، أنّ هنالك تضييقا دلاليّا في مفهوم "الأهل"... صحيح، قد تنال الأبَ أو العائلةَ كلّها "طرطوشة" من الشّتيمة، ولكنّ القسط الأوفر يلحق بشكل حصريّ بمن هي/ هنَّ خارج إطار الحمولة أو القبيلة المصغّرة، أو من لا علاقة لهنّ بالتشكّل القوميّ الأسريّ العربيّ بمفهومه الأوّليّ... وعليه تلحق اللّعنة الأولى بالأمّ- وهي خارجة عن شجرة العائلة القوميّة-: " يِلْعَنِ البطنِ اللّي حِمْلَكْ"!، أو: "يلعنِ البطنْ اللي خلّفكْ"! وقد تكون قائلتها الأمّ نفسها في ساعة غضب، ثم تحتدّ الأمور عند الشّاتم اللاعن ليلعنَ هذا العاطلَ منذ أن أطلّ على هذه الدّنيا، فيقول: "يلعنِ الدّايِة إللي سَحْبَتَكْ"، أو: "يلعن الدّاية اللي بشّرت فيك"... ويكبر هذا اللعين، ويجد من يغضب، أو من يحترف السّباب دون داع، وتكون عودة إلى الأمّ : "وَلَكْ حليبَكْ عاطِلْ"، أو "رضعان حليب وسخ"... وتجود القرائحُ مغيّرةً المفرداتِ، والملعونةُ واحدةٌ: المرأة، أمًّا كانت أو قابلةً.


وننزل إلى الحارة... وتجود ألسنتنا بقاموس الشّتائم، ونحن خلاّقون مبدعون في هذا  الخطاب، فلا نبقي شيئا من العورات ليفلت من ألستنا، ولعورة المرأة حضور طاغٍ في هذا السّياق، تُذكر بلا لفّ ولا دوران، وبلا قافية حينا، وتغطّى بدماثة لُطْفِ العبارة حينا، ف"... إمّك"، تُسمع أكثر من التّحيّة في شوارعنا، أو "... إمّ أبوك" لا تقلّ عنها انتشارا، والباحثون عن لطف العبارة، أو الوقحون الدّمثون في هذا السّياق، يستحيون من الكلمة الأولى، فيجعلون شتيمتهم: "حُصّ إمّك"، أو "نُصّ إمّك"، ولا نعرف ونحن نُحَصْحِصُ ونُنَصْنِصُ ما معنى إبداعتنا هذه، وما قيمتها على صعيد الترتيب النحويّ، فهل هي جملة اسميّة قد حذف أحد ركنيها؟ أم أنّها جزء من عبارة لا وقت لدينا للإسهاب فيها، إذ إنّ أبلغَ الشّتائم أقصرُها- كما أحَبَّ النّقّاد الكلاسيكيّون في قصائد الهجاء-، أو أنّنا نتجاوز القضيّة الأسلوبيّة الخبريّة أو الإنشائيّة، مكتفين بذكر العورة، فذكرها مجرّدةً إهانةٌ وإذلال وإيلام، ودخول في منطقة محرّمة دينيّا واجتماعيّا.


وتُترك الأمّ لتأخذ قسطا من الرّاحة، وتحلّ الأخت محلّها، وما عليك إلا أن تجري  تعويضا جبريّا، لتستقيم الشّتيمة أسلوبا وإهانة، ولسبب ما، لا تُشتَم البنت في هذا التّركيب، وقد يكون السّبب عدم التّناغم الموسيقيّ، وعدم اعتياد اللّسان على نطقها والأذن على سماعها، أو قد يكون الأمر نوعا من الإشفاق على مَن هنّ صغيرات سنّا، وكلمة "بنت" توحي بهذه الطّفولة حتّى عند هؤلاء من محترفي الشّتم.


لا يعني هذا خلاصَ البنت من الشّتيمة نهائيّا، ولا تعني إراحةُ الأمّ قليلا منها أنّها سَلِمَتْ من الإهانة، فسريعا ما تسمع ما يشملهما معا في السّياقات الهابطة: "طبّ الجرّة على ثمّها-3-، بتطلع البنت لإمّها"، والقضيّة ليست سجعا فحسب، فالأمّ مسؤولة عن التربيّة، ولذا يُعفى الآباء المساكين من الشّتيمة، ومن هذا الضّرْب من الحِكَم أيضا. ولا يُذكر الرِّجال إلا في حالات أرقى، فإن كان الولد مهذّبا أو متميّزا أو ذا صفات حسنة، تسرع الأمّ وغيرها إلى القول: " ثلثين الولد لخاله"... ولا يذكرون الخال، على الغالب، في الحالات المناقضة، وأعجب ما في الأمر أنّ القضيّة تأخذ بُعدا قوميّا آخر حين تُقحَم العمّات والخالات في موضوعة التّنشئة، فالعمّات، وهنّ من القوم لعلاقتهنّ بالأب، يمارسْنَ مهامّ التّربية، ويُظهرن حساسيةً في مسألة شرف العائلة وسُمعتها، ولذا يُكثرن من تقديم النّصائح لبنت الأخ، أمّا الخالات، وهنّ خارج إطار القوم، فالعاطفة تجرفهنّ، ولا يأبهنَ، أو هكذا يُفترض خطأ، للمسألة الشرفيّة، فيُكثرن من تدليل البنت وتلبية طلباتها ممّا يُفسد أخلاقَها، وعلى هذا قال العرب في حكمتهم المشهورة: " أمرَُ مُبكياتِكَِ لا أمرَُ مُضحكاتِكَِ"-4-، وإن كانت المصادر تعرض المثل بشكل حياديّ منزوعة منه الغاية التي أنا بصددها.


وإن كنت قد أقحمت البعد القوميّ والمجتمعيّ في مجال الشّتيمة، فالأمر محض  اجتهاد لا أدّعي فيه علميّة... وفي النّهاية، قد تكون شجرة العائلة، والتي ما زالت موجودة في بعض بيوتنا أو بيوتاتنا- وهذه صيغةُ جمعٍ طبقيّة-، دليلا على نفي الإناث كلّيا من ثمارها وأوراقها، فهنّ، وبعد أن انتهت قدرة ابن العم، أو كادت، على " تنزيلهن عن الفرس"، لسْنَ في عداد القوم، لا تشجيرا ولا لغةً-5-.


ولا نملك، والحالة هذه، إلاّ أن نستحضر مقولة أخرى تظهر بؤس توجّهنا  الأخلاقي: " الله يستر عَ جميعِ الوَلايا-6-"، وإن كانت البِنية السّطحيّة للمقولة تشي، تضليلا، بتوجّه أخلاقيّ يصوّرنا بأنّنا نُؤْثِر السّتر ولا نحبّ الفضيحة... وعجيب أمرنا، فدعاؤنا للسّتر "للولايا" لا يأتي إلا بعد أن تكون بعض الألسنة قد بدأت بالنّهش الفضيحيّ، وبعد أن يكون بعض البقباقين-7- أو البقباقات، والوقواقين-8- أو الوقواقات، قد خاضوا أو خضْنَ في الأعراض ولم يبقوا شيئا... هو شيء من أخلاقيّات ما بعد السّقوط.


 


ريتا وأخواتُها... وتأنيثُ الإعصار


 


ولا علاقة لريتا هذه بمحمود درويش، وليست في عداد النّواسخ العاملة في الجملة الاسميّة، ككان وأخواتها، أو إنّ وأخواتها... هي إعصار مجتاح من بُنَيّات المحيطات، وعنّ لي أن أذكرها اليوم- من باب فشّة الخلق- لحداثة عهدها، ووخم آثارها، ولأشير إلى ظاهرة فريدة أو غير فريدة في اختيار أسماء هذه العواصف الاستوائيّة المعروفة عند الغربيين باسم الهوريكان- hurricane، فبعد أن تعرّضت له منذ مئات السنين جزر الهند الغربيّة، ميّز السّكّان المحلّيّون بين أنواعه، وسمّوا كلّ نوع باسم قدّيس أو قدّيسة، ولعلّ في الأمر نوعا من التّشفّع ورجاء الحماية. وتمرّ السنوات، ويأتي الحضاريّون من الفرنسيّين والأستراليّين والإنجليز والأمريكيين، أو فلنقل من البيض حَمَلَةِ رسالة الحضارة إلى العالم المتخلّف، لينتقوا أسماء إناث لكلّ نوع من هذه الهوريكانات، وكان خبير أرصاد أستراليّ قد بدأ قبل نهاية القرن التاسع عشر في هذا " المشروع" المؤنِّث للإعصار، وتبعته الوكالة الفدراليّة الأمريكيّة للأرصاد الجوّيّة، ورسّخت الأمر عام 1953، باختيارها أسماء إناث لهذه الأعاصير. لم تتحقق المساواة، ويتعادل الرجال والنساء في التخريب والعصف، غير الذهنيّ، إلا عام 1979، حيث وُضِعَت ستّ قوائم من الأسماء الرّجاليّة والسّتّاتيّة وفق أحرف الأبجديّة المشتركة بين الفرنسيّة والإسبانيّة والإنجليزيّة، وكلّ قائمة خاصّة بسنة، وتتغيّر الأسماء بشكل دوريّ كلّ ستّ سنوات... وأكتفي بهذا القدر من علم التخريب الاستوائي الخالي من المساواة، مشيرًا إلى أنّ عُقَدَ بعض الرجال تدخل التاريخ، أو تصوغه، ومقترحا- لأنّني لم أجد اسم كوندليسا بين الهوريكانات- التّوجّه إلى جامعة الدّول العربيّة، باسم كل الشعوب التي ضربها هذا الإعصار القادم إلينا من وراء المحيطات، علّها تعمل على إدراجه في هذه القائمة، فهو أشدّ فتكا من كاترينا وريتا... وبعد أن تمالكت، وثاب إليّ عقلي، رأيت ألاّ أهرب من الدّلفة لتحت المزراب، فقد تكون هذه هي رسالة الرجل الأبيض- رغم أنها ليست رجلا ولا بيضاء- الجديدة للمتخلّفين في هذه الأرض... وتيقّنت من أنّ الشكوى لغير الله مذلّة.


وحماكم الله من كلّ مكروه، مذكّرا كان أم مؤنّثا أم خنثى.


 


-1- العاطل: عديم الأخلاق. الفاسد. والعاطل هو الخالي من المال والأدب، ومنها عدم العمل، ومنها العطلة، وهي فترة الراحة. والأصل في هذا كلّه من المرأة العاطل، وهي التي لا تتزيّن ولا تتبرّج، ومنهم من جعل العَطَلَ خلوَّ الجِيدِ من القلادة. أمّا علاقتها بانعدام الأخلاق، فهي من باب كون الأخلاق أهم زينة في الإنسان. استخدم أهل اللغة الكلمة مصطلحا ليعبّروا به عن الحروف غير المنقوطة أو غيرِ الْمُعْجَمَةِ، نحو: ل، س، و، ع، د...


-2- المسبّة: السبُّ وهو الشتم، ومما يتّفق دلالة مع حكمتنا، ما أوصى به أبو هريرة:    " لا تمشِيَنَّ أمامَ أبيك... ولا تَدْعُهُ باسمِهِ... ولا تَسْتَسِبَّ له..." أي لا تعرّضه للسبّ بأن تسبَّ أبا غيرك، فيردّ لك الشّتيمة بمثلها أو أضعافها.


-3- ثمّ: الفَمُ والفُمُّ والثُّمُّ واحدٌ. والكلمة فصيحة، وتعاقب الفاء والثاء في بعض المفردات العربيّة معروف، نحو الثّوم والفوم، وفُمَّ وثُمَّ، وثروة وفروة، وعَِفار وعَِثار... ومنهم من خرّج الأمر على أنّ الفم سمّي ثُمّا من الإثم- أي القبيح من الكلام- الذي يخرج منه، وهذا نوع من التأثيل الشعبيّ.


-4- ذكر الميدانيّ قصّة هذا المثل في مجمع الأمثال، قال: " قال المفضّل: بلغنا أنّ فتاة من بنات العرب كانت لها خالاتٌ وعمّات، فكانت إذا زارت خالاتها ألْهَيْنَهَا وأضحكنها، وإذا زارت عماتها أدّبنها وأخَذْنَ عليها. فقالت لأبيها: إن خالاتي يلطفنني وإن عمّاتي يبكينني. فقال أبوها وقد علم القصّة: أمرَ مبكياتِكِ، أي الزمي واقبلي أمرَ مبكياتك. ويروى أمرُ بالرفع أي أمرُ مبكياتك أولى بالقبول والإتّباع من غيره".


أمّا الزمخشريّ في المستقصى في أمثال العرب، فقد أورد المثَلَ بخطابٍ للمذكّر، قال: " أمرَ مبكياتكَ لا أمرَ مضحكاتكَ: أي أطع أمرَ مَن يأمركَ بالصّلاح وإن أبكاكَ لثقله عليكَ، ولا تُطِعْ أمرَ مَن يأمركَ بالفساد وإن أضحككَ لإعجابكَ به؛ يُضرب في النّهي عن اتّباع الهوى، وقيل: هو أنصحُ مثلٍ قالته العرب، وأصله أنّ غلامًا قال: أتيت خالاتي فأضحكنني وأمرحنني، وأتيت عمّاتي فأبكينني وأحزنني، فقيل له ذلك، أي إنّ العمّاتِ أنصحُ" ( منَ النّصيحة).


-5- القوم: وهم مجموعة الرّجال دون النّساء، والكلمة جمع لـ " امرؤ"، وتقابلها       " نساء" جمعا لـ " امرأة". ومن اللّغويين وأصحاب المعاجم من يرى أنّ القوم شاملة للرّجال والنّساء معا، والرأي الأوّل أكثر انتشارًا.


-6- الولايا: على وزن بلايا ورزايا وقضايا... وحيايا إن شاء عشّاق الانحطاط الدّلالي، ومفردها في محكيّتنا: وْلِيِّه، وفي فصحانا: وَلِيَّة، مؤنّث وَلِيّ، فعيل بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول وفقا للسياق والاجتهاد. والوليُّ من أسماء الله الحسنى، وتعني النّاصر القائم المدبّر لأمور الخلائق جميعا. والوليّة في استعمالنا العاميّ والفصيح هي مَن تحتاج إلى من يتولّى أمرها، وحتى أمر زفافها، فزواجُها باطل إن لم يوافق وليُّها عليه... والوليّة على الغالب اسم مفعول لأنّها لا تتولى الأمور ولا تدبّرها، ولأنّ هناك وليّا عليها... وتتغير الأزمنة، وترقى أسلوبيّتنا، ونجنح إلى المساواة، فنجعل المرأة وليّا لأمر ابنها/ ابنتها الطالب/ ة، رغم أنف المعجمات والموروث. ذكرت بعض المعجمات الوليّة وجمعها ولايا بمعنى البرذعة على ظهر البعير، ولا مكان لها، أو هكذا آمل، في هذا السّياق.


-7+8- البقباقُ اللّقلاقُ: كثير الكلام واللَّغْو والخوض في ما لا فائدة فيه، ومثلهما الهتّاتُ، وكلّها مستعمل فعلا واسما في محكيّتنا وفصحانا.


 

التعليقات