وإذا الموؤودة سئلت...(5)/ د. الياس عطالله

وإذا الموؤودة سئلت...(5)/ د. الياس عطالله
وقبل أن نقلّب صفحات مجمع أمثال ستّي، أشير إلى أنّ المأثور عن بعض جدّاتنا في الرامة، كما أخبرني الأخ الفنّان المهندس أشرف حنّا، مؤكّدا الرواية بالعنعنة وصولا إلى ستِّهِ، أنّهنَّ يقُلن: "اللي بغدرش للزرقا وعليقها، يزيح عن طريقها"، ولا بأس في الأمر، وقد يروى المثل أيضا بكلمتي: " يبعد"، "يحيد/ يحيّد"، بدلا من " يزيح"، أمّا الزّرقا الرامويّة وغير الرامويّة، فتلائم السياق موسيقا ودلالة، بل قد تلائم سميرة توفيق في " يا خيّال الزرقا" إن خرجت عن إقليميّة الأردن، رغم أنّها، أي سميرة توفيق بملامحها وزيّها البدويّ، أزاحت الحدود حين ظهرت، بإجماع رجوليّ عربيّ ينتظرها، تتغامز فيه بالعيون، وتُفْتَلُ فيه الشّوارب- ولو كان المتنبّي حاضرا لنظر إليها كشعرة في مفرقه، أو لمحا عددا من قصائده-، وكنتُ آنذاك فتًى، التمّّ وأترابي وعددا من الرّجال في مقهى متلفز- والتلفزيون بضاعة نادرة في أوائل سبعينيّات القرن الماضي- عند العين في كفر ياسيف، لنتابع بطولات الأخوين سعادة في المصارعة، وغمزات سميرة توفيق... والزرقاء في لغة الألوان عند العرب القدماء هي البيضاء أيضا، وعن ابن سيده في المخصّص: الزرقة هي البياض حيثما كان. والعين الزرقاء، شديدة الصفاء والبياض، ولا يعني هذا أن تكون الزّرقة لونا بديلا للسواد المحيط بالبؤبؤ أو إنسان العين. وإن كانت الزرقاء تلتقي دلالة في هذا المجال مع الحمراء، فإنّ علاقتها بالفرس مشهورة أيضا، فهي اسم علم بالغلبة لفرس نافع بن عبد العزّى، الأصيلة السريعة، حتى أصبحت مضرب الأمثال، وإن لم تكن كالغبراء التي اقتحمت تاريخ العرب شهرة وشؤمًا. وإن كنّا نذكر الخيل فلا بأس أن نعرف أن "ميار" وهو من الأسماء التي بدأ الوالدون الشباب يسمّون وليداتهم به، هي فرس قُرط بن التّوأم، وتسمّى الميّار أيضا لسلاسة سيرها وسرعتها، وتعني الكلمة أصلا اللين والسرعة والسير الغنج المتموّج، وهي بالواو" مور، موار" أشهر منها بالياء... بوركت الميارات، وبورك الوالدون الباحثون عن هذه الأصالة العربيّة.

وإلى أمثال ستّي أعود. فقد عاصرت زواج إخوتي، ورأت "العرايس" وصويحباتهن، وفيهنّ شيء من الزينة والتبرّج، وهي- ولربّما لسنّها، أو لأنّ الزمن توقّف عن حركته، فظلّت بعمرها حتى وفاتها- لا تحبّ الزينة ولا المتزيّنات، تدير ظهرها، وتتحرك مغناجا بقامتها الميّاسة، وعلى وجهها ابتسامة ملؤها الخبث والذكاء، ومن شفتيها تنساب همسة صارخة:

حواجبه يا عيونه عَ المغتَسَل يبان
وكان أن انتهى عصر " أطيب الطيب الماء"، وما عاد الوَطَفُ خلقةً ربّانيّة، ولا النَّجَلُ، واندرس مع الأطلالِ وجهُ خولةَ الّذي ألقتِ الشمسُ رداءَها عليه فلم يتخدّد، وكفّ المغنّون عن التغنّي بالخدود التي كتفّاح الشام، وبالشفاه العنّابِ الكرَز، وغاب الرمّان من الاستعارات والكنايات... وساد عصر البلاستيك والأصباغ، وظلّ الماء فاضحا، يسقط كلّ القشور، ويجلو الحقيقة... والمغتسل الفصيحة هذه، ليست المصدر الميميّ من اغتسل فحسب، فهي اسم المكان واسم الزمان واسم المفعول، وسبحان ربّي! ولله دَرُّ اللغة العربيّة! كيف اختصرا الأصالة في صيغة واحدة، فالجميلة الربّانيّة، يزيدها الماء وضاءة، أما الجمال المصطنع، فيتساقط مع الاغتسال، لتبقى الحواجب منتوفة بعد أن خطّتها الأقلام، وليعود الوجه إلى كرمشته بعد أن شقطت عنه المساحيق أو شقْوَطَت، وتعود الشفاه إلى حجمها الطبيعيّ، وهنالك صباحا، في المغتسل، وأمام المرآة، تنجلي الحقائق المستورة، وتأخذني الصفنة، وتركب رأسي آلاف العفاريت جامعةً بين النقيضين؛ أبي الطيّب المتنبي وبعض "الفنّانات" المطلات علينا من بعض الفضائيّات العربيّة. وتخيّلت أبا محسَّد يبتسم بنيوب الليث، وينام ملء الجفون مطبقا أهدابه على خولة الحمدانيّة وأعرابيّاته ذوات الجلابيبِ، ممّن سهّدنه وابتلينه بتعذيبِ، فالحسنُ عنده بدويٌّ لا يعرف مضغَ الكلام ولا صبغَ الحواجيبِ، وزارني طيفه في اليقظة يوشوش عاصفا
ومِنْ هَوَى كلِّ مَنْ ليستْ مُمَوَِّهَةً تركتُ لونَ مشيبي غيرَ مخضوبِ
وتخيّلت جثاما يعيشه هذا أو ذاك من أزواجهنّ صباحا، بعد أن تبدأ الملغمَطات بعمليّات تقحيط المساحيق والأصباغ والترقيعات التي فرضها الواجب الوطني في "اللوك" الجديد، أو الواجب الكامراتي للتيقّن من تِصواريّةِ الوجهِ
( photogenic )، أو الواجب القوميّ المتجسّد في الـ make up، ودخلت في حالة يائسة من المحاولة لئلا تظلّ ال M منبطحة على وجهها، خوفا من السبونريّة المتشكّلة من «طُبِّ ال M على ثمها...»، راغبا في أن تنهض وتستفيق وتمطّ يديها متجبّدة W، حتى يحقّ لي أن أتَشَكْسْبَرَ مزيحا المقولة الشهيرة:
to be or not to be this is the question...واضعا بدلها
to wake up or to make up, this is the question... وأدركت أنّ حالتي ميئوس منها، وحاولت أن أغفو طويلا، وحضر دونما استدعاء حسين شفيق المصري فارعا دارعا ( الفّارعُ: الصاعد أو المنحدِر النازل)، ( الدّارع:ذو الدّرع- الاندراع: التقدّم في السير) فازعا لأبي محسّد، فلطالما تقزّز هو أيضًا من العجائز المتصابيات المرقّعات، ومن الصبايا المدهونات المنتوفات، وأبحر بي بين عامّيّاته الرائعة، فمن «مشعلقة» عمرو بن كلثوم:

مُسَلْوَعَةً كأنّ البودرة فيها إذا ما الماء خالطها عجينا

إلى لبيد بن ربيعة:
بَدَتِ البناتُ بزازُها فحزامُها وغدا قصيرا ذيلُها وكمامُها
فعجائز النّسوان عرى صدرها محنا كما خبل الرجال كلامها
قافزا عبر الزمن مدركا شقيّ العرب الحاجَّ لغير وجه الله، عمر بن أبي ربيعة الّذي جعل حمّادٌ الراوية شعره كـ: الفستق المقشّر"
مكملا رائعته:
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ غداةَ غدٍ أو رائحٌ فمُهَجِّرُ
بقوله:
على أنّها شابتْ وتصبغ شعرها وتحسبُ أنّ الشّيبَ بالصبغ يُستَرُ
ولكن سواد الشعر خلقة ربّنا يبن، وبرضو صبغة الشعر تظهر
وهب أنّ هذا الشيبَ تخفيه صبغةٌ فكيف اختفاء العظم وهو مكعبر
أرى العظم تحت الجلد يبدو بوجهها فهل يستبيكم وجهها المتحجّر
وفيه تجاعيد تراها كأنّها لمصلحة التنظيم إذ هي تحفر
ومهما يكن لون المساحيق فهي لا تخبّئ لون الوجه حين يجنزر
فيا نُعْمُ! ما هذا الدلال وقد مضى زمان الصبا والموت نحوك يزغر

أما " عَ" الجارّةُ، فهي شائعةٌ في محكيّتنا، وكانت شائعةً في فصيح كلام العرب، ولم يجد سيبويه غضاضةً في إيرادها في الكتاب، قال: " عَلْماءِ بنو فلان، فحذف اللامَ، يريدُ على الماء بنو فلان. وهي عربيّة". أمّا المبرّد فقد أورد في الكامل في اللغة والأدب قصيدة لِقَطَريِّ بنِ الفجاءة، ومنها:
غداةَ طفتْ عَلْمَاءِ بكرُ بنُ وائلٍ وعُجْنا صدورَ الخيلِ نحوَ تميمِ

وتظلّ في نفس ستّي كلمة يجب أن تبقّها، حتى تكتمل فشّة الخلق... فالصِّبا والجمال توأمان، فلِمَ اللغمطة؟ واللغمطة خادعة ساترة مموِّهة، ولذا، ترفع ستّي درجة التعنيف و " لا تستثني أحدا":

لا يْغُرَّكِ الْبَرْدُونْ حينِ طْلُوعُه، يِرْجَعْ لَلْجِدينْ حِينٍ يِأرَحِ

والبِرْذَوْنُ، والذي يخرجُ من شفتي أهلنا كلافظ كلمة فرنسيّة: بَرْدُونْ، هو دابّة مؤنّثها بِرذَونة، وهو من صنف الخيول غير الأصيلة، وغالبا ما يسمّى به البغل، يعيننا في هذا مقابله السريانيّ : بَرْدونا» والألف في آخر الكلمة أداة التعريف، ولنقارن بالعبريّة פרד، وهنالك أكثر من رأي في أصلها، فمنهم من جعلها فارسيّة بمعنى الحصان، ومنهم من جعلها لاتينيّة بمعنى البغل- وفي الحالتين هي هندوأوروبيّة-، ومهما يكن أمر أصلها، فالحيوانات الوليدة على الغالب، تمسحها الطفولة بمسحة من الجمال... فحاذر أن تنخدع ممّا ترى، فحين الكبر تعود الأشياء إلى أصولها وأهلها، فهذه اللطيفة الحسناء، شأنها شأن البراذين، تكبر لتأخذ قبح البغال، والبغال في عرفنا نتاج تزاوج حصان وأتان، أو حمار وفرس. أما حينٍ المنوّنة تنوين كسر، فهي اختصار لـ: " حين إن/ أن"، ويأرح، والتي أراها ترقيقا لـ " يقرح" الفصيحة، ففيها استعارة لمعنى الكبر أو النموّ، أما من الناحيّة الحرفيّة، فالقارحُ هي النّاقة أوّل ما تحمل، أو أوّل بداية تعشيرها، بلغة العامّة والخاصّة، والفرس القارح التي بلغت السادسة، أو التي سقطت أسنانها.
أعرفتم لم قلت مقولة مظفّر النّوّاب؟ فستّي لم تكتف بتوجيه سهامها إلى المتمكيجات فحسب، بل نالت منهن ومن أهلهنّ وجدودهنّ، وكأنّها عالمة بالمورّثات/ الجينات، وبفسيولوجيا تطوّر الإنسان... وكم علينا بعدُ أن نتعلّم من كبارنا!
ولنا لقاء.

التعليقات