وإذا الموؤودة سئلت...(12) /د. إلياس عطاالله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(12) /د. إلياس عطاالله

جِيبُوا لُه ْطَاسْةِ الرَّعْبِة


 


قد يتبادر إلى الذهن، أنّ من أصيب بحالة من الرُّعب أو الهلَعِ، يسرعون في إعطائه "طاسة" فيها ماءٌ له ميزاتٌ خاصّة، كأن يكونَ مقدّسا مثلا، فما إن يشربه، يزول رعبه، ويعود إلى طبيعته، ويعود اللون إلى وجهه بعد أن كان أصفر كالليمونة... ومن هنا سمّيت هذه الطاسة الخاصّة ب " طاسة الرعبة".


لا علاقة للرَّعْبِة التي وظّفتِ الطاسةُ لها، بالرُّعب أو بالخوف، وهذه الرَّعْبة مأخوذة من الرَّعْبِ، الذي هو الرُّقيَةُ من السّحر، وهو كلام مسجّع على الغالب، فيه شيء من الآيات المقدّسة، والدّعوات، أو بعض الشعوذات، يتمتمها الرّاعِبون أو الرّعّابون، أي الرّقاة أو الرّقّاؤون، على الماء المسكوب في هذه الطاسة، وبعدها يشرب منها المريض، أو من كان مصابا بسبب أي قوّة شرّيرة وفق المعتقد، كالجنّ أو الشيطان أو الأرواح وما إليها ممّا اتّهم بأنّه وراء العديد من الأمراض، وبخاصّة، الأمراض النفسيّة أو العقليّة، وللدقّة اللغويّة والطبّيّة، الأمراض غير العضويّة.


والإيمان بهذه "الوصفة"، ممتدّ عبر التاريخ البشريّ، ونخطئ إن ربطناه بالتخلّف أو الحضارة، أو بتوزيعة عرقيّة أو دينيّة أو مكانيّة... فكثير من "المتحضّرين"  يؤمنون بتعويذات شتّى، أو برقًى، يرون فيها سبب نجاحهم أو إخفاقهم... وأذكر، وأظنّ أن الكثيرين يذكرون، أنواعا من الرُّقى، وأنواعا من الطاسات، ويعرفون فعل الكلمة المنطوقة في الرّقى، والمكتوبة في الحجاب، إن خيرا أو شرّا، ونعرف، من حياتنا أو ممّا نقرأ، أن هذه الأسلحة تُستَلُّ لمحاربة بعضها، فمن كُتِبَ له حجابٌ مُؤذٍ، فهنالك الحجابُ المضادُّ، ومَنْ لَقَعَتْهُ العين-1-، فهنالك الرُّقى، والرّصاص المسكوب- أوّل طريقة بوليسيّة لتحديد المجرم، حيث تظهر صورته جليّة أمام الرّاقي أو الرّاقية -، والسّحر لا يزيله إلا السّحر.


أوَلَمْ تزلِ التعويذاتُ أو التّمائم من الخرز الأزرق والكفّ " خمسة وخميسة" تزين  صدورَ الأطفال ردّا لعين السّوء من ذوات "العيون الزرق والأسنان الفرق"؟ كلّ سلاح له وظيفة خاصّة، وبعضها متعدّد الوظائف، فإن كانت الخرزة تردّ عين السوء، فإنّها تحبِّبُ المرأةَ إلى زوجها، والعكس صحيح، أو تجعل الواحدَ منهما شُغْلَ الآخر، فلا يفكّر بتركه أو خيانته.


        أما الحجاب فوظائفه لا تحصى، يصلُحُ لكلّ شيء، والأمر وَقْفٌ على ما خُطّ فيه من رموز لا يفهمها إلا كاتبها المقرّب من " الأسياد".


 أما العزيمة، فإنّها تبعد الجنَّ عن المريض، وهي من عزَم يعزِمُ، من قول العرب: عَزَمْتُ عليكَ لَتَفعلَنَّ: أي أقسمْتُ عليك... وكأنّ الراقي أقسم على الجنّ والأرواح الشرّيرة بالله العظيم، وما عليها إلا الطاعة، ومنها "عزائم القرآن"، وهي الآيات التي تُقرأ على ذوي الآفات رجاءَ الشّفاء منها.


حتى المؤذي القاتلُ من الزّواحف كالأفاعي، له طبيبُه الخاصّ؛ الحاوي أو الحوّاءُ    ( صيغة المبالغة... لا الأنثى)، وما خلت قرانا من هؤلاء الذين يُخرجون الحيّة من المنزل أو من منطقة مسكونة بالناس، إمّا بالرُّقى والعزائم، أو بالدّخان.


وإن كنّا ذكرنا التمائم، وهي جمع تميمة، فإنها خرزة مرقّطة تُثْقَبُ وتُوضَع  في سَيْرٍ/ سلك، وتُعقد كالقلادة حول عنق المواليد، دفعًا للشّرّ أو الحسد، أو القضاء والموت، ولذا أبطلها الإسلام، وعدّها ابن مسعود منَ الشِّرْك، وإلى لا جدواها في حضرة الموت أشار أبو ذؤيب الهذليّ في مرثيته الشهيرة:


وإذا المنيّةُ أنْشَبَتْ أظفارَها      ألْفَيْتَ كُلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ


والمسلم المؤمن يلجأ، دفعًا للأذى والمرض، إلى ذِكْرِ المعوّذتَينِ: " قلْ أعوذُ بربِّ الفلق..."، و" قلْ أعوذُ بربِّ النّاس..."، ولا أقطع يقينا بأنّه، كبقيّة خلق الله من المؤمنين وغير المؤمنين، قد تخلّى عن الرّقى، فنحن جميعا، لكثرة شرِّ الخلق، شرّنا، وحسَدِ الحاسد، والوسواس الخنّاس، والنّفّاثات في العُقَد-2-... نتعوّذ بالسّورتين الكريمتين، وبـ" أبانا" و      " السلام عليك يا مريم"، وبالعزائم والرُّقى... ولا ننسى الطبيب، أو بعد أن نكون قد يئسنا منه، ولا تبقى إلا حقيقة واحدة: الله هوّ الشافي.


ونبقى مع الطاسة، وهي فنجانة( فنجال/ فنجان من العامّيّة) بلا عروة، مصنوعة من النّحاس على الغالب، ولم يرد في المعاجم الفصيحة إلا الطاس، فهي على ما يظهر من الدخيل الفارسيّ: تاشت، ونعرفها شائعة بالألمانيّة  eine Tasseبالمعنى المعروف بالعربيّة، ولها سيادة في مقاهي البيرة الألمانيّة، وقد تُعرّب هذه الفارسيّة إلى الطَّسْت أو الطَّشت ( ونضمّ الطاء أو نكسرها في محكيّاتنا) ، وهو إناء نحاسيّ- أو غير نحاسيّ- واسع يستعمل للغسل، ولذا رجّحتُ كونَها من الفارسيّة الملتقية مع الألمانيّة عائلةً، على كونها من أصل سريانيّ كما رأى فريحة في معجم الألفاظ العامّيّة، والسيّد أدّي شير في كتاب الألفاظ الفارسيّة المعرّبة، أما الطّاس والطّست فلا أرى بينهما علاقة دلاليّة، وإن كانت طست أو طشت شائعتين، فهما ليستا من العربيّة في شيء، إذ لا ترد كلمة ثلاثيّة عربيّة تجتمع فيها الطاء والتاء.


 


تخدّري سمالله يا زينه


 


وبعد أن نرجو ألا تعنّسَ-3- الزينة، خاصّة إذا شهّلَتْ-4-، وأن تجد ابن الحلال الذي تحلم به، أو يحلم أهلها به، وليأتِ كما يشاء، بالنّصيب أو بالتسبيب، فالمهمّ أن يأتي، رأفةً بها من باب السترة من طول اللسان واللقلقة والتأويلات والاجتهادات الواجدة مَعَرَّةً في السلوك، فإنّ العروس، في صيفنا المفرِغِ للجيوب، القاتل للوقت، ومسبّب الطَّرَش ومدلّي الكرش، لا بدّ أن تتجلّى، وفي "التجلاية"، يجود "المطربون"، بعد تعتيم الأضواء من باب الرومانسيّة في قاعات الأفراح، بأغاني التجلاية الخاصّة، تُستقبل بها العروس وهي تتهادى بين شمعتين، بادئين بالأغنية الترحيبيّة الواردة في العنوان، وتحلّ "تحضّري" ولا علاقة لها بالحضارة، بدلا من "تخدّري"، ولا علاقة لها بالمخدّرات، وتغيير الفعل لا يأتي من دراية المغنّي، فهو ضَرْبٌ من الجهل لا الإبداع... وغناء الأفراح ميدان واسع لفضائح التغيير المفرداتي الواشي بالجهل. وتخدّري، وهي الكلمة الصحيحة في هذا المقام، مأخوذة من الخِدْر، والخِدْر هو الذي اقتحمه شاعرنا الملك قليل الحياء؛ امرؤُ القيس، على "عنيزة" والتي قد تكون فاطمة الوارد ذكرها في المعلّقة، مخلّدا الفضيحة في معلّقته:


ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ         فقالَتْ لكَ الويلاتُ إنَّكَ مُرْجِلي


والخدر هنا هو الهودَج، الّذي تحته " تعانقنا" في أغنيتنا النصراويّة، أو تعالقنا في رواية أخرى، أو تعالجنا في رواية ثالثة، وصار سحب السيوف يا ويل حالي، والجيم المصريّة وراء التغيير في الأخيرتين، والخدْر أيضا عرين الأسد أو الأجمة التي يكون فيها... وبقدرة مطرب، لا بقدرة خالق، تصير تخدّري "تحضّري"، أي استعدّي... والعروس، قد "انطَفَتْ" وانطفأ أهلها معها وهي تتحضّر للقاء عروسها، الّذي يُطْلَبُ إليها أن " شوفي عريسك شو ماله؟" وكأنّها لا تعرف ماذا تريد وماذا يريد "عريسها"... وسبحان موزّع الذكاء، وسبحان من جعلنا ننتقل من الخدر مباشرة إلى "الصالو/ الصالون"، المستقيمة وزنا لا معنًى مع "مالو"... قفزة حضاريّة في فنّ العمارة وفي المصطلحيّة، عليك أن تبلعها حتّى تدوم الأفراح في ديارنا العامرة.


وتنتهي " تخدّري"، التي أصابنا التخدير لكثرة ما سمعناها، لتأتي بعدها، وفق الأصول،  "يا نو يا نور"، ويبدأ قلع الثياب وتبديل الألوان، فتشلح البنّي وتلبس البنّي، "ولبست بياضي وقلعت بياضي"... وتنتهي ألوان الطيف ومشتقّاتها... والعروسان ينتظران انفضاضا للسهرة طلبا للخلوة، وصاحب القاعة ينتظر تفريغ الخزنة... والمحتفون، كَلَيْلِ امرئ القيس.


 


-1- لُقِعَ فلانٌ بالعين: أصيبَ فلحق به سوء أو مرض، فهو ملقوعٌ أو مَعْيُون، وقد نجري إعلالا لنقول " مَعين" جريا على قياس العربيّة.


-2- " ... النفّاثات في العقد"، الواردة في سورة الفَلَق، وتعني السّاحرات اللاتي ينفثن سحرَهنَّ في وَتَرٍ أو سلكٍ يعقدنَهُ، ليلحقَ الأذى بمن يُرِدْن إيذاءَه، وكان الرسول العربيّ الكريم قد اشتكى من مرض، فأتاه مَلَكانِ، فقال أحدُهما إنّ هنالك سحرًا تحت صخرةٍ في بئر، فأرسل الرسولُ عمّارَ بنَ ياسر، فاستخرج السّحرَ، وكان وترا قد عُقِدَ إحدى عشرة عقدة، فبدأ ومن معه يحلّون العقدةَ تلو الأخرى، وكلّما حلّوا واحدة أحسّ النبيّ بالعافية... ومن هنا أمِرَ بالتّعوّذ بسورتي الفلق والنّاس، ومجموع آياتهما إحدى عشرة آية، بعدد العقد التي كانت في الوتر المسحور.


-3- عنّست الفتاة: مُنعَت عن الزّواج، أو امتنعت هي عنه. والكلمة فصيحة دلالة وصيغة.


-4- شهّلت المرأة أو الفتاة: بلغت الثلاثين، أو فوق ذلك. والكلمة فصيحة دلالة وصيغة.


 

التعليقات