يشار كمال يعيد خلق أساطير الأولين في "جبل اغري"/جورج جحا

يشار كمال يعيد خلق أساطير الأولين في
يعيد الكاتب التركي يشار كمال في روايته المعربة "أسطورة جبل اغري" وبقوة شعرية حارة خلق أجواء الأساطير وقصص الاقدمين المنسوجة برؤى رافقت طفولتهم الفكرية الملونة وبمشاعر مباشرة نفاذة.. وتسهم في إعطاء عمله روعة خلابة ترجمة مميزة بدت الرواية من خلالها كأنها كتبت بالعربية.

الرواية التي ترجمها عن التركية شوكت اقصو تتسم في إعادة خلق الاسطوري بدفق شعري و"بصنعة تأصيل" مؤثرة ربما جعلت القارىء يستعير حديث نقاد عرب قدامى عن "الجهد لإخفاء الجهد" في العمل الفني ويعدله كي يصبح الجهد في "إخفاء الأصل " أو لجعل الاسطورة المصطنعة في معظمها حديثا.. تبدو ابنة الازمنة الماضية.

اذن النص هنا مكتوب بعمق وحذق جعلاه -على كونه وليد جهد مركب- ناجحا جدا اي خداعا الى درجة توحي بانه ابن البساطة او الفطرة الاولى التي نتجت عن اجواء يختلط فيها سحر رعوي بقساوة العيش ضمن عقلية وتقاليد قبلية "جبلية" تجمع بين نقيضين هما الاستقرار من جهة.. ومن جهة ثانية الترحال للغزو ولطلب "الامان" لا لطلب الكلا والماء كما يفعل البدو. وقد صدرت الرواية في 112 صفحة متوسطة القطع عن دار بدايات للنشر والتوزيع في مدينة جبلة السورية. اما الاستشارة الفكرية والادبية لدى الدار فهي للشاعر ادونيس.

تبدأ الرواية بما ينقل القارىء الى طبيعة لا يشوب ملامحها تدخل من "الخارج" فكأننا مع الملاحم والأساطير القديمة أو كأننا في عالم حديث التكوين لا يزال طازجا. يقع "المكان" على ارتفاع أربعة آلاف ومئتي متر "وعلى امتداد مساحة شاسعة وبأعماق متفاوتة سحيقة أحيانا تشكلت بحيرة... وسط صخور لماعة حمراء كحد السكين" هي بحيرة كوب على أطراف جبل اغري. وكما في مُخيلة الأقدمين والاطفال تبدو الطبيعة في النص حية تتنفس. "في كل عام عندما تذوب الثلوج ويستيقظ الربيع ويمور اغري بحياة ثرية نابضة تزدان شطان البحيرة والخط الثلجي الذي يحف بها بازهار نضرة... متعددة الالوان وتفوح رائحة نفاذة من ماء البحيرة الازرق."

يضيف "يتوافد الرعاة الى تلك البحيرة بعيونهم البنية الواسعة الحزينة يجلسون على الضفاف ويلقون عباءاتهم المنسوجة من اللباد فوق العشب الممتد لالف عام ويحملون ناياتهم ويبدأون بالعزف" منذ الفجر حتى المغيب. انهم يعزفون لحنا هو "غضب جبل اغري" فاللحن يؤثر في الجبل والجبل يؤثر في اداء اللحن أيضا. وحالما تشرق الشمس "يشرع طائر ابيض صغير أقرب الى السنونو بالتحليق فوق البحيرة يدور بسرعة راسما حلقات متداخلة فوق المياه... ومع المغيب ينطلق هذا الطائر وينقض على سطح البحيرة مبللا جناحيه. يعيد الكرة ثلاث مرات ثم يرحل مغادرا ويغيب عن العيون. وحينئذ يبتعد الرعاة فرادى وجماعات صامتين ويغيبون في الظلام."

تبدأ الرواية بمنظر امام بيت احمد هو وقوف حصان ابيض بسرجه ولجامه المزينين بالذهب والفضة وبغطاء تحت السرج رُسمت عليه صورة شمس برتقالية اللون "ترمز الى قصة من زمن غابر" وانتصبت وراءها شجرة حياة خضراء وعلى يسار الحصان ايضا كانت هناك شمس وشجرة... لقد راى "الصوفي" هذه الشجرة وهذه الشمس في مكان ما. انه يتذكرها كما في حلم. لا بد ان ذلك الرسم يرمز الى عشيرة أو قوم... ولكنها أثارت الخوف في قلبه فمثل هذه العلامة مشؤوم."

وبعد حوار وأخذ ورد بين احمد والصوفي أخذ الحصان الى مكان بعيد ثلاث مرات لكنه كان يعود الى المنزل كل مرة. اقتنع احمد براي الصوفي ان هذ الحصان هو هدية له من الله ولا يمكن رده. ما يهبه الله لا يمكن التفريط به. ووسط اجواء اسطورية وشبه دينية وان بمفهموم "خاص" يقتنع احمد بقول الصوفي ان الحصان هنا رمز للنعمة الالهية التي تهبط على الانسان. الا ان هذه "النعمة" سرعان ما استخدمت لاحقا في الغزو والقتال.

نتبين بعد مدة ان محمود باشا الحاكم القوي باسم السلطان العثماني افتقد حصانه الهارب واراد استعادته فطلب اعادته اليه ووسّط "بيكاوات" الاكراد في ذلك فقيل له ان تقاليد اهل اغري تمنع اعادة حصان في مثل وضعه. جرد الباشا حملة عسكرية لكنه وجد ان اهل قرى منطقة اغري اختفوا كما اختفى احمد والحصان وكأن الارض انشقت وابتلعتهم ولم يجد غير الصوفي الذي رفض النزوح فاخذه ورمى به في السجن. توسط موسى بيك لحل المشكلة وجاء باحمد الى قصر الباشا بعد تعهد بالامان لكنه سجنهما عندما رفض احمد تسليم الحصان.

وانتشرت قصة احمد والحصان والصوفي وموسى بيك والفت الحكايات والاغاني حول ذلك. وعلى طريقة الاسطورة اليونانية "اورفه" الذي كان يعزف فيحرك الجماد والحيوان والطير تناول احمد الناي واخذ يعزف. كول باهار ابنة الباشا التي مالت الى الصوفي واحبت احمد سمعت العزف "هذا الصوت الجديد.
كان مختلفا كليا بالرغم من انه يروي قصة غضب اغري ايضا بصوت يستنهض الجبل والحجر ويذيبهما كليا." تتعلق كول باهار باحمد وتستغل حب رئيس السجانين "ميمو" المكتوم في نفسه لها كي يسمح لها بان تراه. قرر الباشا اعدام الثلاثة. عرضت كول باهار على ميمو كل ما يريده كي يساعدها فلم يطلب منها سوى خصلة من شعرها احتفظ بها قرب قلبه ثم افرج عن الثلاثة في الليل ولما حل الصباح اعترف بعمله وقاوم جند الباشا بشراسة قبل ان يلقي بنفسه من أعلى القلعة فيموت.

تلافيا للفضيحة تظاهر الباشا بقبول تزويج ابنته بأحمد شرط ان يتسلق جبل اغري وهو يعلم انه ما من انسان استطاع ذلك لان الجبل كان يتمسك به فلا يعود بل تنتهي حياته. وبسبب غضب الجبل وشعور الناس بالظلم تجمع ألوف الناس من كل القرى المحيطة وهم في حال غضب وأنظارهم مسمرة على قمة الجبل انتظارا للنار التي قال احمد انها ستكون اشارته الى انه وصل الى القمة. قال مستشار الباشا له ان احمد سينتصر لانه يحب وان عليه ان يرضي الناس بالتظاهر بانه تراجع عن شرطه خشية ان يهاجم الجمهور القصر ففعل لكن احمد كان قد نجح في الوصول الى القمة. فرح الناس وعقد قران العروسين عند شيخ جليل لكن أحمد لم يقرب كول باهار.

توجه العروسان الى كهف الجبل ليمضيا أياما لكن أحمد الحزين لم يقربها. سألته عن السبب فسألها بدوره عما أعطت رئيس الحراس ليفرج عنه فقالت انه من أجل حياة أحمد عرضت عليه كل ما يطلبه لكنه رفض كل شيء. سألها "كل شيء.." وأنهى أحمد حياته في المكان واختفى في بحيرة كوب فبكته كول باهار "ومنذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا كل من يمر بتلك البحيرة يرى كول باهار جالسة على ضفتها بشعرها الأسود الطويل المنسدل على ظهرها وهي تحدق بالمياه الزرقاء."

ينهي يشار كمال الرواية بالطريقة التي بدأها تقريبا فكأن النهايات والبدايات تتوحد "عندما ينتفض الكون من سباته ويزهر فصل الربيع كل عام ياتي رعاة الجبل من كل الجهات يخلعون عباءاتهم... ويلقون بها فوق التراب ويجلسون فوقها... فوق تراب المحبة الذي عمره الف عام وعندما تبدأ خيوط النور بالتسلل الى جنح الظلام يخرجون ناياتهم... ويعكفون على ترديد قصة حب وغضب جبل اغري. وما ان تشرف الشمس على المغيب حتى ينطلق الطائر الابيض الصغير محلقا."

التعليقات