في قصيدة النثر أسباب تكفيها/ سليم البيك

في الحديث عن الشعر، في كتابته، هنالك عدة طرق، أسلمها ما سلكها السلف، والذي عادة ما يكون "صالحاً"، أي أن أسلم الطرق في الكتابة هي الاحتماء بأسماء تحول مكانتها تاريخياً وأدبياً دون نقضها أو حتى نقدها

في قصيدة النثر أسباب تكفيها/ سليم البيك

في الحديث عن الشعر، في كتابته، هنالك عدة طرق، أسلمها ما سلكها السلف، والذي عادة ما يكون "صالحاً"، أي أن أسلم الطرق في الكتابة هي الاحتماء بأسماء تحول مكانتها تاريخياً وأدبياً دون نقضها أو حتى نقدها، قد يكون ما كتبوه في حينه جديداً، تجديداً، تجريباً أو مهما يكن، وقد يكون سائراً على تقاليد يحتمون هم من خلالها بأسلاف سابقين وبمعاصرين لهم يمارسون الفعلة نفسها ويحتمون ببعضهم بعض.

 تلك حالة إنسانية عامة لا تخصّ قوماً بعينهم كما أنها لا تخص مجالاً حياتياً أو إبداعياً دون غيره، والأدب والفن مشمولان بذلك.

 تخطر لي هذه الحالة كلما تذكرت احتماء بعض كتّاب قصيدة النثر بالشعر الموزون، باستباق التشكك من شعرية نصوصهم النثرية (أو للدقة أقول: من أن نصوصهم قصائد نثر، وأنها بالتالي شعر) بالدفاع المسبق الذي عادة ما يميّز الخطّائين المدركين لأخطائهم المتتابعة، والمتأهبين (تالياً) مسبقاً، القلقين من فعلتهم، المعوزين لحجة تأتي عادة من خارج نطاق فعلتهم تبرر أو تسوغ أو تسند، بِلَي العنق أو بدونه، ما "اقترفوه".

من هنا يحرص عدد لا بأس به من كتّاب قصيدة النثر على التأكيد بأنهم كتبوا أو يكتبون أو يفهمون (جيداً) في الشعر الموزون والعروض، وكأن تعليمات الفراهيدي جواز مرور قصائد النثر إلى حالة "المعترف بها". من هنا تجيء فكرة الطريق الأسلم وهي الاحتماء بكلاسيكيات شعرية أو بأسماء محصّنة تجلب السلم والأمان لقصائد وإن كان لها منطقها الآخر.

وحده الجبن يكون عندما يبرر المحدّث والمجرّب الحداثة والتجريب بأدرعة كلاسيكية تبسط شرعيتها (رغم أن قصائد النثر تعدّت مرحلة التجريب، إلى أن لها قابلية ضمنية للتجديد لما تتمتع به من حرية ومرونة، يكفيها انعتاقها من الوزن).

لم أفهم حتى اللحظة ذلك الربط التبريري بين قصائد العمودي أو التفعيلي وبين قصائد النثر التي تبنى على منطق وأساسات تخصّها تختلف تماماً عن منطقي السابقتين. وإذا أخذنا بآراء بعض النقاد والشعراء بأن قصيدة النثر جنس ثالث، فلا داعي لمجرد التفكير بذلك الربط التبريري لأن كاتب القصة القصيرة، مثلاً، لن يبرّر قصته بعروض الفراهيدي أو بتمكّنه منها.

 لابد من التنبّه لأمر هنا، أن الشعر الموزون يقوم على معايير تقنية يسهل تبيان علاّته، وهذا ما قد يجعل كاتب هذا الشعر إن أحسن هندسة قصيدته مهما حوت من ابتذال وسطحية ومباشرة، أن يجهر بأنها شعر، أما موضوع الاختلاف فسينحصر في مدى قوة/ضعف هذا الشعر، وهو ما لا نجده في قصيدة النثر التي لا تقوم أساساً على معايير هندسية شكلية، بل على الكثاقة والمجانية والوحدة العضوية وهي أمور أعمق من إمكانية حسابها رياضياً أو إيقاعياً، وهذا ما قد يراه البعض بأنه ثغرة يسهل من خلالها التسلل إلى قصيدة النثر بكتابات قد تكون نثراً شعرياً متخلخلاً. ويتوقع من هؤلاء، إن قيل لهم بأن كتاباتهم ليست قصائد نثر (أو حتى قبل أن يقال لهم) أن يرددوا بأنهم يعرفون كيف يكتبون شعر التفعيلة، مثلاً، وأن كتابتهم لقصائد النثر لم يأت كونهم يجهلون تقنيات شعر التفعيلة!

في الكلام السابق انتقاص لقيمة قصيدة النثر، وكأنها "مكبّ" لنصوص يريد كتّابها أن يعبّروا عن حالة عاطفية ما، ولا يُقبل بهم في "نادي" شعر التفعيلة، فيتصدّقون بنصوصهم إلى "خيرية" قصيدة النثر.

 أقول ذلك رغم أن هنالك نصوصاً نثرية عربية تختلف في مدى قِدمها قد تعتبر البدايات الأولى لقصيدة النثر بشكلها الحديث، لكنها لا تصنّف ضمن خانة الشعر، وبالتالي، فالاستناد عليها لن يلبي الرغبة اللحوحة عند كثيرين من الكتّاب الجدد في إرفاق صفة الشاعر/ة بأسمائهم حيثما حلوا، ولعل ذلك يكون من أسباب (لا نتائج) كتابة القصيدة لديهم.

لكن، ما أساس تلك الحاجة إلى نصوص تراثية يركتز عليها ويحتمي بها بعض كتّاب قصيدة النثر؟ إن توفّرت تلك النصوص، فليكن، ممتاز. لكنها لن تكون مبرر وجود قصائد كهذه. ما المشكلة أساساً في خلق كتابة جديدة لها منطقها الذي يميزها عن كتابة شعر التفعيلة أو العمودي أو عن كتابة القصة والأجناس الأخرى؟ هل إمكانات وآفاق اللغة والأدب العربيين عقيمة إلى هذه الدرجة؟ وما المشكلة في تقارب هذا "الجنس الثالث" من الكتابة مع "أجناس ثالثة" في لغات أخرى حيث تعيش قصيدة النثر حياة أكثر استقراراً ووثوقاً مما تعيشه في لغتنا العربية؟

في الحديث عن الفن، من سيحاكم الانطباعيين مثلاً بأن عليهم إتقان الرسم الكلاسيكي ثم منه يتوجهون إلى حيث يريدون؟ أن عليهن أن ينالوا شهادة اعتراف من الكلاسيكي ليبرروا بها لوحاتهم الانطباعية؟ وإن كانا كلاهما رسماً (كما أن كلا قصائد النثر والتفعيلة شعراً أو أدباً) لكن لكل منهما منطقه وأسباب الجمال الخاصة به، ولا يمكن تقييم أي منهما بمعايير الأخرى أو اشتراط المعرفة بمعايير إحداهما لممارسة الأخرى.

إن كان لابد من دفاع عن قصائد نثر، فلتكن لأنها تحمل بنية قصيدة النثر وتسير في منطقها، لتكن أسبابها منها وفيها. وفي قصائد النثر ما يكفي من أسباب لتبقى، ولتستقبل شعراء جيدين، يحترمونها لذاتها.

www.horria.org

التعليقات