Biutiful" ": أوروبا المتبخترة نحو الجحيم / راجي بطحيش*

يقول الفيلم من وجهة نظري بصريا ومشهديا، جملة استراتيجية جارفة وجافة: "أوروبا ماضية نحو الانفجار المأساوي طالما بقيت الضفة الجنوبية للمتوسط على هذه الحالة من اليأس والفقر"، وما يعزز هذه القراءة، اختيار مدينة "برشلونة"، أجمل مدن إسبانيا وأوروبا قاطبة، ومحج السياح الباحثين عن السعادة غير المشروطة، لتكون محور أحداث الفيلم.

Biutiful

هنالك أكثر من ألف زاوية يمكننا من خلالها قراءة الفيلم الحدث، والأشهر في السينما غير الناطقة بالانجليزية لهذا العام، "بيوتيفول"، فقد استقبل بعض النقاد الفيلم الاسباني بفتور، وأحيانا بامتعاض، أولا لأنه يطرح قصة بطله الأربعيني الذي يكتشف إصابته بالسرطان، فيمضي بإعادة إنتاج علاقاته بكل من وما حوله عبثا، في أشهره الأخيرة، وهي قصة تم تقديمها عشرات، إن لم نقل مئات المرات، على الشاشة، وقد أصبحت بالفعل ممجوجة؛ وثانيا لأن الفيلم يحوي العديد من المشاهد التي ترقص على الحدود الفاصلة بين القذارة المحتملة، وبين القذارة الإباحية (البورنوجرافية) غير المبررة.. ولكنني ومع كل هذه الملاحظات التي تبدو بعضها جديرة بالبحث، قد شاهدت الفيلم للمرة الأولى بشحنة مختلفة كليا، حيث تمركزت حواسي حول هم واحد وصادم طرحه الفيلم بعنف بديع.. ولا شك أن الحراك الثوري المتأجج في الضفة الأخرى من المتوسط، لم يساهم بشكل كبير في خروجي خارج هذه الدائرة المشحونة...

يقول الفيلم من وجهة نظري بصريا ومشهديا،  جملة استراتيجية جارفة وجافة: "أوروبا ماضية نحو الانفجار المأساوي طالما بقيت الضفة الجنوبية للمتوسط على هذه الحالة من اليأس والفقر"، وما يعزز هذه القراءة، اختيار مدينة "برشلونة"، أجمل مدن إسبانيا وأوروبا قاطبة، ومحج السياح الباحثين عن السعادة غير المشروطة، لتكون محور أحداث الفيلم.

يدخل المشاهد الفيلم ويبحث يائسا عن لقطة أو حتى لمحة سينمائية تقدم ملمحا من برشلونة التي يعرفها أو سمع عن سحرها.. مدينة الجمال والسعادة الكتالونية، والرخاء الاقتصادي، والحرية غير المحدودة، والأناقة، والخيار المتوسطي الأقرب من المثالية... بينما يلقي المخرج بنا في المستنقع البرشلوني الصادم، حيث المهاجرين الأفارقة، وتجارة الرقيق، والبيوت القذرة، والنقيض المطلق للسعادة الاسبانية، وتغلغل المأساة الافريقية/العربية، واختراقها حاجز الضواحي - مركز المدينة، حيث نشاهد المطاردات بين الشرطة والمهاجرين في قلب "البوستكارد البرشلوني"، أي جادة الرامبلا والبلدة القديمة..

يرسم المخرج لوحة قاتمة جدا للمدينة الجارحة الجمال، وكأنه يقول لنن: لن تستطيع أوروبا كنس بعبع المهاجرين وبؤسهم بعد الآن عن مراكز باريس، وبرلين، وروما، ومدريد، وبرشلونة.. وأنا أقول، وبوحي من موقف أوروبا الرسمي المتواطئ مع الأنظمة النفطية المجرمة  في جنوب المتوسط (كما شاهدنا مع القذافي)، إلى أن أصبح النفط مهددا بالانقطاع، إضافة إلى تغذيتها للفوضى العارمة في أفريقيا جنوب الصحراء، كي يتسنى لها نهب ثرواتها واستعبادها من جديد، تاركة الفتات للنظم الاستبدادية الفاسدة الحاكمة هناك، وتاركة المجاعات والفقر المدقع  ينهش بالبشر..

تبدأ أوروبا في Biutiful متمثلة بعروس مدنها، بدفع ثمن نفاقها واعتقادها أن الحرية والرخاء من حق مواطنيها البيض فقط... في Biutiful أيضا نشاهد رد الفعل الأوروبي الشعبي المتمثل بنمو الفاشية من جديد، ولا شك أن إيطاليا برلسكوني ماضية بقوة في هذا الاتجاه... ولكن الفيلم يذهب بعيدا في هذا الاتجاه حيث يرسم سيناريو أسودًا، يعيد أوروبا إلى عهودها المظلمة... وذلك حين يشتري بطل الفيلم مقاول العبيد  مدافئ غازية معطوبة لسعرها المنخفض، مما يؤدي إلى اختناق  وموت عشرات الأطفال والنساء والرجال العاملين الأجانب في مخيطة، والنائمين في غرفة صغيرة، والإلقاء بهم في أعماق البحر لتلفظهم الطبيعة من جديد إلى شاطئ، برشلونة المترف، كشهادة على المأساة المحدقة.

 

* كاتب وقاص من فلسطين.

التعليقات