في نقد النوسطالجيا (11): الخاتمة: المرجعية/ القيمة (الحضارة) لا السلطة/القوة../ د. عبد الله البياري

تيار النوسطالجيا ليس بشذوذ عن ذلك الانتماء الفكري الإنساني (مبدئيا)، ومن هنا فأي مقاربة للفكر الإنساني يمكن تطبيقها عليه من حيث أن الفكر يمكن تقسيمه إلى عدة مستويات (أبعاد) فاعلة ومترابطة عضويا

في نقد النوسطالجيا (11): الخاتمة: المرجعية/ القيمة (الحضارة) لا السلطة/القوة../ د. عبد الله البياري

إن ما تشهده الإنسانية ومجتمعها الإنساني كونيا من الثورات والتحولات والانهيارات والإخفاقات والإنجازات، والمطالب الوجودية والعناوين الحضارية، تكشف عن ديمومة حركية وحيوية المحرك الإنساني الأول: الفكر.

وتيار النوسطالجيا ليس بشذوذ عن ذلك الانتماء الفكري الإنساني (مبدئيا)، ومن هنا فأي مقاربة للفكر الإنساني يمكن تطبيقها عليه من حيث أن الفكر يمكن تقسيمه إلى عدة مستويات (أبعاد) فاعلة ومترابطة عضويا، وهي بالترتيب:

 

1.المستوى الأول: الهوية:
الهوية بكل تعاريفها ومقارباتها، هي ما يعطي للحيز الوجودي حدوده وتفاصيله ودوره، بما هي ازدواج والتباس، أي أنها –بعبارات أخرى- ليست كائنا أو كينونة صافية ثابتة، تتساوى / تتماهى مع ذاتها، إنما الهوية هي عملية "إدراك" و"مساءلة"، و"تحول" و"انفتاح"، أي أنها بقدر ماهي مركبة وملتبسة، فهي سوّية ومفتوحة على تعدد الأبعاد والوجوه، وديمومة القراءة الذاتية ومنها للتحول، ذاتيا وعلاقاتيا، مع الذات والآخر.*1.

لدى التعامل مع "الهوية"، يجب تذكر –على الدوام- أن "الهوية"، إنما هي نقيض الثبوتية والجمود، إلا في حالة الموت بجميع صوره منها الحضاري والسياسي وليس الجسدي فقط - أو التعبير الراديكالي المختزل عن الذات، وفي جميع تلك الحالات فالتعبير عملية معطوبة-. وبما أن "المرجعية" باعتبارها مصدرا من مصادر التعريف الذاتي للهوية –وليس الوحيد أو هكذا يجب أن تكون- فإن القول بثبوتيتها وجمودها إنما هو حكم على الهوية كعنصر فاعل على الساحة الإنسانية فيما عبر عنه مالك بن نبي عامل مؤثر في "التحليل النفسي للثقافة"، ومن ثم حالة من الموت الفكري.

لذا فالمرجعية هي "أداة" لفهم الإنسان والكون والمحيط والعالم والمجتمع الإنساني والغيب، وليس الإنسان والعالم والمجتمع الإنساني والكون أدوات إثبات لتلك المرجعية، وهذا بناءا على أن ازدواجية العلاقة بين الطرفين (الإنسان – المرجعية) هي علاقة بنيوية مبنية على الحركية الدائمة لا ثبوت طرف لصالح الآخر، حيث:
- الإنسان: حركية فكرية.

- المرجعية: حركية استيعابية (تنتهي بالتفسير والاحتواء).

ومن هنا فالقول إن المرجعية هي أقرب ما يكون لـ"إطار" تعريف، إنما هو قول ينتفض نقيضا على نفسه وعلى الادعاء بالاستيعاب، فتلك المرجعية – الإطار، وما يقتضيه القول الإلهي بكمالها الإلهي المطلق، يجب لذلك أن تتحرر من تفاصيل تفترضها تفاصيل الخطاب الوصفية لها كإطار:

أولا: القصور في "الإستيعاب" لما وقع خارج إطارها، فالاستيعاب – ومن ثم المواجهة – هو فقط لما يقع ضمن فضائها المحدد بالإطار – إطارها، والإطار مهما اتسع فلن يحتوي إلا الصورة.

القصور في الاستيعاب مع أن الأصل في الفعلين (داخل وخارج الإطار) إنما هي أفعال جذرها الإنسان ونماذجه الفكرية أيا كانت، وهنا يصبح الفعل الإنساني – فكريا واقعا ضمن فضاء تلك المرجعية بالاستيعاب والمقاربة والقياس، أي أنها أداة بقدر شرحها للعالم والكون والغيب والإنسان، من منظور بذاته إلا أنها تحتويه أولا وأخيرا.

ثانيا: لوصف "المرجعية" بالـ"إطار" منظور أيديولوجي يختزل أي مقاربة موضوعية لها باعتبارها فعلا أيديولوجيا، تستلزم قاعدته "شذوذا" حيويا لصحة تلك القاعدة المرجعية. بلفظ آخر، لا تستوي تلك المقاربة من دون وجود طرفين لا تعدو "المرجعية" أن تكون تعريفا رأسيا للعلاقة بينهما: "مع" أي داخل الإطار، و"ضد" وهم القاطنون خارج ذلك الإطار، أي أن الإطار وجوده لايعتّد به لذاته ولا لقدرته الإلهية –المدعاة- على الاستيعاب، إنما هو من يعطي للـ"نحن" والـ"هم" صفتهما.

ومن هنا ولدت الكثير من الأعراض المرضية الأيديولوجية، كالرفض الجهوي، وهو الرفض الذي تحدده الجهة: خارج الإطار، والذي لا يعد رفضا – كمقاربة موضوعيا، بقدر ما هو إثبات وجود وعلاقة طرفية مع الآخر وليست علاقة موضوعية على أرضية فكرية (أرضية تضمن حق القبول والرفض الموضوعي)، وإن استند على خطاب مطعم بالكثير من الأدوات السوسيولوجية الصحيحة، الذي يعتمد على منطقة اللامنطق وليس تحليله.

ثالثا: ولأن أي ثابت أيديولوجي – مقدس كما في الحالة بين أيدينا -، يستلزم ربطا عضويا بين السلطة والمعرفة، وهو – الربط- أولى أدوات الأيديولوجيا، نشأ هناك نوع من التراتبية السلطوية (الهيراركية)، داخل تلك الحدود الثابتة والمؤطرة، وهو ما يتجلى واضحا على الساحة السياسية، من القول بأن "الإسلامي" أفضل من "المسلم"، فقط لأنه اعتبر العمل السياسي وحدة تعبيرية أيديولوجية فرضها على الآخر هو نوع من التقرب لله، وإحقاق شريعته في الأرض، فتحول الدين من منهج روحاني قيمي إلى منهج سلطوي أو أقرب ما يكون برنامج حزبي.


ولذلك الطقس السلطوي الهيراركي المتدثر – كذبا- بالدين في تاريخنا السياسي العربي إرث متراكم، ولكنه يظل شاذا على العقل السياسي العربي – الإسلامي جذرا- والذي أثبت انفتاحا على الآخر – أي آخر، بشكل متميز. من ذلك الإرث –دوما- الحيلة الأيديولوجية الأولى التي تمثلت في رفع المصاحف على أسنة الرماح، وتلاها للمثال لا الحصر: عندما ربط الأمويون بين طاعتهم والاستسلام لهم، وبين "الإسلام" ربطا لغويا، وعلى الساحة الحالية نجد الكثير ممن يستخدم نفس الربط، وهنا يحضرنا مقولة أبي ذر الغفاري الشهيرة: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولا يشهر سيفه"*2.

إن المقاربة الأكثر دقة – من منظورنا- لفكرة "المرجعية"، إنما تحول تلك الأخيرة من حالة التماهي والتطابق التام مع "الهوية"، بما يضمن موتها وشلّلها، إلى "أداة" لفهم ديناميكية وعلاقاتية العالم والكون والمجتمع والإنسان، وليست أداة تثبيت أو تقرير له، لما في ذلك من أدلجة ما لا يؤدلج.


وتلك المقاربة، قد اعتمدت نفس اسلوب القياس التمثيلي "الأليغوريا أدبيا"، الذي اعتمد المرجعية باعتبارها "إطارا"، فالمرجعية هي أقرب ما يكون إلى "مركبة فضائية" منها يستمد "رائد الفضاء" الحياة ليعيش في ظروف لا تتناسب وإياه ولا توفر له أساليب الحياة وشروطها، ولا يستطيع حينها –رائد الفضاء- الابتعاد عن تلك المرجعية – المركبة، إلا بما تسمح له هي من "أدوات"، باعتبارها مصدر الحياة في تلك الظروف بعينها.


ولكن ضمن حدود الأرض، تصبح المركبة – المرجعية أداة لتحصيل وتقنين المعرفة (ماديا وروحانيا) وتقديمها ضمن النسق الإنساني كاملا بما تمثله الأرض من أرضية مشتركة لكل البشر وليست استحواذا لفريق دون آخر المتمركز ذاتيا، وذلك باعتبار سمو ما تقدمه المرجعية من إجابات مختلفة تتعلق بالكون والإنسان والعالم والغيب.

المفارقة بين "الإطار" و"المركبة":

ولأن الكينونة البشرية – إنسانية في بذرتها وستأتي الإشارة للأساس الإنساني الفردي في متن المقال- تحتوي على عنصري الوعي واللاوعي، متلازمين معا، فالفعل الإنساني لا بد له أن يتلقى شيئا مفهوما له – ضمن تفاصيل الحاجة الملموسة النسبية -، بما يمكنه من الاستدلال على ما يفوق إدراكه، والعقيدة الشاملة – بمرجعيتها المدّعاة – يجب عليها أن تلبي حاجة هاذين الجانبين من دون تصنيف لما هو خارج وداخل إطارها، فتصبح حينها كاملة الاحتواء للجذر الإنساني كاملا، وإلا حولت إثباتا لنسبية الملموس لا إثباتا لإطلاق غير الملموس، مؤديا إلى تحول تلك التلبية والاستيعاب، إلى فجوة قيمّية إستحواذية، مؤسسة لمشهدين أيديولوجيين سلطويين وليسا حضاريين هامين:

1. الغاية تبرر الوسيلة وبالذات إذا كانت غاية تحقق القيمة الضدية (مؤمنون وكافرون / خير وشر...إلخ).

2. داء الإصطفاء.

إلا أن لتلك الفجوة القيمّية الضدية مستويين:

أولا: نسبي: يتعلق بقضايا المعرفة نفسها، لا بأدلجتها، واستحواذها وفصلها المستحيل عن النسق الإنساني، ذلك الفصل الذي لا يستطيع إلا أن يكون فصلا رأسيا، في حين أن المعرفة الإنسانية وإن تمت "نمذجتها"، إلا أن حل تلك النمذجة بهذا الشكل الانفصالي لا يزيد الفكر الإنساني إلا تمركزا وزيادة في منسوب الأيديولوجيا، في حين أن المعرفة الإنسانية، هي نتاج تشبع القيمة الروحية بمظاهرها المادية كأجوبة لتساؤلات فكرية مبررة لا تقف أما موانع، ولا يمكن أن تكون مظاهرا اصطفائية.

ثانيا: المطلق: المتعلق بالأسئلة الوجودية الكبرى، وهو لا يتحدد بالأجوبة الشافية عن أسئلة مثل اصل الإنسان والوجود والخلق ومصير الإنسان، مهما ادعى أي دين حيازتها، بقدر ما يتحدد بارتباطه بالمستوى الأول ليصب في النهاية في البعد الأهم من المرجعية: القيمة.


ومن هنا يمكن القول إن "الهوية " وإن كانت مرتبطة عضويا بالمرجعية، فديناميكية المرجعية وليس ثبوتها وتصلبها وقدرتها على التصنيف الرأسي الأيديولوجي، لا بد لها أن ترتبط بالقيمة كعامل مؤثر ويؤثر في المرجعية كعنصر محدد للهوية.


وهنا تحضرنا قاعدتان فقهيتان هامتان: فيما يتعلق بالمرجعية: "لا إنكار في مختلف فيه" و"من وسع علمه قلّ إنكاره"، وللقاعدتين أهمية خاصة لاحتوائهما على توصيفات ديناميكية حركية تنسف ثبوتية الإطار وصنميته: الإختلاف وتوسع العلم.

المستوى الثاني: المنطق:

بمعنى أن الخطابات المتصلة بإنتاج المعارف حول الواقع، ليست مجرد أجهزة برهانية أو آلات منطقية أو حتى براهين قاطعة، أو إجراءات، إنما هي ضمن أجساد معرفية ونماذج معرفية.
وهنا تكمن الإنتاجية المعرفية والفكرية (الثقافية في المجموع)، والتي يجب أن تتحرر من الربط العضوي الأيديولوجي، بين النموذج المعرفي وإجراءاته (أولا) وتراتبية العمل بتلك الإجراءات (ثانيا)، وذلك التحرر يضمن الفصل بين الإجراء واستخدامه واستحضار النموذج المعرفي، محولا الإجراء إلى أداة، بلفظ آخر: تعطيل العقل الكلي (أهد أهم مميزات العقل الأيديولوجي).

بمعنى آخر، فإن استحضار عبارة مثل: "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم"، كمنهج وهدف فكري، هو استحضار يجعل من المخالفة – لمجرد المخالفة هدفا، فتصبح العلاقة مع النسق الإنساني هي علاقة إما "مع" وإما "ضد"، ولا يخفى على أحد مدى قصور هذه المقاربة وإن ادعت الفكر منهجا. كما أن الوصفية القيمية (أهل جحيم) تستلزم ربطا عضويا بـ(أهل النعيم)، فتصبح المقاربة الفكرية هي مقاربة مستحيلة، فمن يرتضي أن يقارب فكر (أهل الجحيم)!! من متلازمات "داء الإصطفاء" الكاذب.

أي أن القبلة الفكرية هنا –وكأي قبلة أيديولوجية- لا تتحدد لذاتها بل تتحدد بمدى مخالفتها (أو بالأصح تضادها) مع القبلة الفكرية لهؤلاء "أهل الجحيم"، أي أن الخطاب المتناول لـ"المرجعية" هنا يفعل ذلك ثبوتيتها كخط مستقيم وصراط فيصل بين "نعيم" و"جحيم" لا لذات تلك المرجعية واستيعابها... فالفرق بين النعيم والجحيم واضح، ولا مجال للمقاربة.

قد يرى البعض أن استحضار و/أ وتوظيف خطاب مطّعم بالكثير من الإجراءات التي تنتمي لنموذج معرفي بذاته، إنما هو استحضار لذلك النموذج، ووجهة النظر تلك على وجاتها – ظاهريا-، تعريها حالة الجدب الفكري وغياب الابداع، لارتباط العقل القياس – في هذه الحالة- عضويا بالنموذج المعرفي للآخر – أهل الجحيم -، فيصبح النقد حينها هو نقد أيديولوجي لا يستوي إلا باستحضار فشل النماذج المعرفية الأخرى ككل، وليس لنجاح النموذج المعرفي ذاته*3، فيحول الاختلاف الحضاري هدفا بذاته ولو كان اختلافا من باب إثبات الوجود الأجدب. (من دون المساس بالعناصر الهوياتية المعبرة حضاريا).

وشهد التاريخ الأمثلة الكثيرة من مفكرينا الذين رفضهم العقل الجهوي الأيديولوجي على مدى تاريخه القديم والمعاصر والحديث، وإشهار سلاح التكفير كمشهد صراعي أثبت العقل أنه سلاح الجاهل والفقير، وإن طعّمه بقراءاته المشلولة للنصوص الدينية والتاريخية، وقد تمت الإشارة لعقلية التكفير وارتباطها بالمصلحة والمادة في جزء آخر من الدراسة*4.

 

المستوى الثالث: البنية:

إذا كان الواقع الانساني ككل واقعا متحولا ومتغيرا، فالمعارف المنتجة حوله لا بد لها أن تكون كذلك ايضا، بل إنها لا تقبض عليه، وإنما تسهم في استقرائه وتحويله واستشرافه، ومن هنا فالأفكار الفاعلة (بإجراءاتها ونماذجها) ليست قوالب محضة (على عكس فكرة الإطار)، بقدر ما هي شبكة متعددة ومركبة من العلاقات تسهم في تحويل الواقع، بقدر ما تنفتح على التحوّل (عكس الدوران في فلك الثبوتية المؤطرة)، ومن هنا فمصداقية الفكرة الخصبة بل وحتى "المقدسة"، على فتح إمكان للتبادل والتفاعل والتحول والتجاوز، على سبيل إعادة التركيب والبناء بلغة التحويل الخلاق، لا باعتبار ثبوتية نص لا يمكنه إحتواء الحقيقة المطلقة، مع تعطيل "السؤال الحر".

وتلك البنية فيما يخص النوسطالجيا – على الساحة الحالية – يعري عورتها الأيديولوجية، حالة الاستيراد المطلق لمنتجات ما فتئت أن "أكلت آذاننا" بخطابها الدائم الرفض لها باعتبارها إجراءات من نماذج "أصحاب الجحيم"، في حين أن تلك الإجراءات "التي يشيطنها ذلك العقل الأجدب" هي التي يستخدمها العقل الأيديولوجي في صراعاته للسلطة، تبعا لقاعدة نسبية – سياسية بحتة: "الغاية تبرر الوسيلة"، ولكن الدين ليس نسبيا.

 

المستوى الرابع: الفاعلية:

الفاعلية تبنى على ديمومة مساءل البنية، ضمن متغيرات تفاصيل الزمان والمكان، فالفاعلية هي الجزء البراغماتي والخلاق والمنتج، فالأفكار ليست كائنات فراغية لا أبعاد لها، إنما هي "إمكانيات للتداول"، تحتاج لمعالجات خاصة، لا يحددها التنظير أو القيم المطلقة للفكرة فقط، إنما تحررها من قيود الاستحواذات الأيديولوجية، وتفعيل عنصر أخلاقي هام: "القيمة الإنسانية"، وهي القيمة التي تحددها الفردانية كبذرة للجماعة وليس العكس، وإلا تحولت "القبيلة" إلى "القبائلية" و"الطائفة" إلى "الطائفية" و"المذهب" إلى "المذهبية" *5، وما يكشفه الفرق الاصطلاحي من شحنات موجبة محايدة وغير منحازة في الأولى، وسلبية انحيازية قائمة على الإقصاء والتمييز في الأخرى.


من هنا كانت المقاربة للنوسطالجيا باعتبارها "فكرا"، يجب – في منظورنا- أن تتم من خلال تلك المستويات الأربعة: الهوية / المنطق / البنية / الفعالية، مع التركيز على أن العلاقة الرابطة بين تلك المستويات لست علاقة فراغية، إنما هي علاقة:

 1.هرمية: تبدأ من القاعدة الأعرض (الهوية) للقاعدة الأضيق (الفاعلية).

2.عضوية: أي أن الإرتباط بين تلك القواعد أو المستويات هو إرتباط عضوي تفاعلي، فشل الأول (الهوية )، ينتهي بفشل ما بعده. (كما يعري لنا واقعنا).

 

إن الخلل العضوي والهرمي في المستويات البنائية السابقة، يتمظهر في الكثير من شواهد ساحتنا الفكرية العربية، باعتبار تراكبية وتداخل العلاقة بين العروبة والإسلام تداخلا حيويا لا يستوي من دون الإسلام كعنصر ثقافي وقيمي وفكري وحضاري (وليس فقط سلطوي) هام جدا في القياس النقدي، ومن تلك التمظهرات:

 

أولا: الاستقراء التاريخي:

الاستقراء التاريخي، لمجريات التاريخ السياسي العربي – الإسلامي تحولت بفضل الكثير من العوامل *6 لاستقراء "خرائطي"، لمجموعة من الجزر السلطوية وليست القيمية في "أرخبيل" سلطوي، العلاقة بين جزره علاقة مكانية – مادية - سلطوية وليست زمانية –قيمية- فكرية. بكلمات أخرى أصبح الارتباط التاريخي ارتباطا "تراكميا" بدأ من "المدينة" و"مكة" وصولا إلى "الأندلس" و" بـ"البصرة" و"الكوفة" و"دمشق" و"القاهرة"، و"القيروان"، وغيرها وليس ارتباطا "تعاقبيا بين كل تلك الجزر، مما يعني التورط الفكري والحضاري مع الآخر ومنتجه. هنا نشير للإرث الخلدوني التاريخي، حيث ذكر ابن خلدون في كتابه:

" أما بعد فإن فن التاريخ، في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطوف بها الأندية، إذا عضها الاحتفال (...) وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق..."

أشار الإرث الخلدوني فيما يتعلق بالتاريخ، لنوع من الربط العضوي بين "العمران" و"التاريخ"، ولكن ولأن عطبا عضويا و/أو هرميا في علم الأفكار متى تأدلجت، يؤدي لحرمان "التاريخ" من أرضيته المعرفية، وتحويلها إلى أرضية " سردية"، تنقسم إلى نصفين منفصلين وثابتين: تاريخ"هم" وتاريخ"نا"، والفيصل بينهما حد السيف.."المرجعية"، وهي تمظهرات أيديولوجية، لا تعد أدلجة المعرفة (وفي ألفاظهم أسلّمتها)، هو نوع من أنواع الإنفصال عن التاريخ والنسق الإنساني، وهي مظاهر لا تظهر غلا في عصور الضعف والانحطاط، بينما في عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس للمثال، كانت الملكة الإسبانية إيزابيل التي تمت برعايتها محاكم التفتيش بـ"تطهير" الأندلس من الإرث العربي، كان فستان زفافها مطرزا بحروف عربية.


وبالعودة لذلك الاستقراء للتاريخ، فذلك "التأريخ" ليس له أن ينتج "معرفة"، أو أن يفسر الأحداث بالأسباب، إنما هو يقرأ التاريخ في فلك "إقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم" وما يستلزمه ذلك من إثبات الفروق القيمية، وللتأريخ هنا أن يعظ وللحاضر أن يتعظ، بما يؤسس للإطار فقط فاصلا بين "الجحيم" و"النعيم" وأهلهما، وتصبح العملية التاريخية إنما هي سرد مسطح يقفز على تفاصيل تاريخية وحضارية خلقت لكل حضارة ونموذج تمايزه وفعاليته وإنتاجيته ضمن تفاصيله، وهو ما يعرف بالخطاب التاريخي الأيديولوجي*7، وهنا يتحول "التأريخ" إلى مفهوم "حكائي" يدور في فلك الناقل وموقفه لا المنقول وسببه، كل ذلك على حساب "العمران" البشري كعلم، لصالح مادية الملموس العمراني كمنتج، لا مسببه. إن التأريخ هو علم "بكيفيات الوقائع"، وليس مجرد "إخبار"، وتلك قضية معرفية أساسية لها علاقة بتحديد المفهوم العلمي للتاريخ، فالخبر من حيث هو مادة "المعرفة التاريخية" –ومشهدها الملموس- يسمح ويستلزم السرد، أما الواقع فهو كمادة للمعرفة التاريخية، لايسمح بالسرد لأنه في بنيته المعقدة ليس حدثا، بل علاقة، أو مجموعة شبكية مركبة من العلاقات، التي هي بالقطع أكبر من المرجعيات المؤطرة، لوقوع أجزاء منها داخل وخارج المنظومة التعريفية الثابتة للإطار، لذا فهي أكبر من ثنائياتها الثابتة وأبعادها.

إن تلك المركزية الذاتية الأيديولوجية المعطلة في عملية الاستقراء التاريخي، تتمركز متخذة من ذاتيتها مركزا للفعل الإنسان وهي أحد أهم تجليات "داء الإصطفاء" الميكافيللي، محولة من تلك المركزية الثابتة، مركزية قيمية، وتصدر منها خطابها الأيديولوجي المتعالي، بهدف الحفاظ على جميع التراكيب العقائدية الدوغمائية الهادفة لتبرير وتنميط الأيديولوجيا، وإختصار وعي المؤمن في السلطة كالطريق الأول للقيمة*8، والسلطة هي دوما منتج إجتماعي (أي أنه وليد المجتمع: أكثر من فردين – طرفين حاكم ومحكوم ) وذلك يبرر القراءة الخلاصية الدائمة للخطاب الأيديولوجي، في حين أن الحضارة هي فعل إنساني.

إن الانتقال من الحيز السلطوي لفكر النوسطالجيا للحيز الحضاري، يجب أن ينطلق من الحيز المجتمعي السالف الذكر إلى الحيز الإنساني، وهنا تظهر قيمة "الفردانية الإنسانية" كعنصر مفكك للأيديولوجيا، هو انتقال للفكر من مجال التطبيق ضمن (الأنا والآخر) التي تحولت سلطويا إلى (النحن والهم)، إلى مستوى إنساني قيمي، وهو منشأ الحضارة ولنا في الفكر الإسلامي الكثير من شواهد تلك القيمة الفردانية في خلق الحضارة، ورسولنا الكريم الذي كان إنسانا فردا في مواجهة جمع كامل (الإنسانية قاطبة) وقس عليه جميع الرسل من قبله، وكذلك الكثير من أدبيات التعامل الإنساني في المخيال الجمعي الإسلامي حضاريا كقوله (ص):

(لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فشرطية الإيمان ومن ثم تراتبية الفرد – الأصل، ومن بعده الآخر، هي تراتبية لم تأت اعتباطيا في ظل عدم تحديد "الأخوة"، لتصبح أي أخوة إنسانية، فلا ثمرة – جمعية من غير بذرة فردية، أي أن "الإنسان هو الحل" وليست الأيديولوجيا.

فتلك النزعة الفردانية التي أسس لها الإسلام وإن كانت تخضع للفلسفة القرآنية التي تبتغي رضا الله في كل الخطوات الإنسانية الفردية إنما تجعل مع العلاقة الذاتية مع الله هي علاقة فردية قبل كل شيء، فيقول تعالى:
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)، وذلك مع الإشارة لإلغاء الدين الإسلامي للوسطاء بين الله وعباده، وبأن (كل نفس بما كسبت رهينة) (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. من يعمل مقدار ذرة شرا يره).

 ويقول أرنولد توينبي عن دور النزعة الفردية في بناء الحضارات:

"إذ لكل انسان مواهبه الخاصة وشخصيته المميزة، والإبداع البشري هو دائما نتيجة لجهد فردي معين، وهذه القدرة الفردية الخلاقة هي رأس المال الوحيد الذي يملكه الأنسان، والمجتمعات التي أعطت الفرد الفرص الضرورية للقيام بعمل منتج هي المجتمعات الأكثر تقدما وتطورا، وعندما تقيد هذه الفرص بمطالب سياسية أوعائلية، فمعنى ذلك شلل القدرة الإبداعية للأفراد، والانسان الذي يمتلك مواهب شخصية ممتازة يستطيع استخدام هذه المواهب بطريقة أخلاقية خيرة كما يستطيع استخدامها للإضرار بمصالح الآخرين، وهذا يعني أن النزعة الفردية يمكن أن تؤدي إلى نتائج ضارة بالمجتمع إذا لم توضع تحت السيطرة الأخلاقية ]القيمة الإنسانية كما يطرحها الكاتب[ ويبدو أن الغرب قد أطلق العنان لهذه النزعة فكانت نتائجها سلبية على حساب الصالح العام وعلى صعيد العلاقات الإنسانية"، وهنا تظهر المسؤولية الأخلاقية كواجب إنساني وليست كاستحواذ ايديولوجي*9.

 

في النهاية يجب أن نشير إلى ضرورة التركيز على الواجب الإنساني، باعتباره أصل الإنسانية وليس الأيديولوجيا فيما يتعلق بالدراسات المتعلقة بالنصوص الدينية، والتي نقسمها إلى:

أولا: القراءة الإيمانية أو اللاهوتية، وهي قراءة ذات أدوات أرثوذكسية هيراركية، تعطل العقل لصالح النقل، وتضيق حيز التأويل، لتبقي العقل الفردي حبيس الدوغمة المغلقة، لصالح تمظهر الجماعة سلطويا لا حضاريا، وتلك القراءة تستلزم نوعا علاجيا من الفكر التفكيك أو بالمصطلح الفوكوي "الحفر المعرفي"، من خلال مناهج كشف القيمة، وهذا سينتهي بنا إلى القراءة الثانية وهي قراءة يتحول فيها النص من المركزية الاهوتية إلى مركزية إنسوية، ضمن حيثيات النقد التاريخي والتحليل الألسني المتعلق باعادة إكتشاف المعنى والقيمة كمرجعية ديناميكية وهي قراءة تطبيقية تركز وتنطلق من مسؤولية الإنسان الحضارية.

 

 

 

___________________________________________________
الهوامش
:

1. الآخر هنا هو متسع بقدر ما من الممكن أن يحتويه الآخر: العالم الإنسان الكون والله والمحيط.
2. بما معناه.
وهنا تظهر لنا مدى الجهل المؤدي في النهاية إلى التطابق مع قراءات المستشرقين للإسلام، باعتباره أيديولوجيا، ففي النهاية كلها أيديولوجيات، في حين أن الدين أسمى وأعلى من عقول البعض وقراءاتهم السلطوية.
3. وهنا تظهر القراءة الانتقائية والأيديولوجية الجاهلة للتاريخ وكأنه علم سردي لا ينتج معرفة ولاهو علم علاقات.
4. التكفير عقلية ميكافيلية:
إن أيدولوجيا التكفير وبالرغم من استنادها إلى إرث تاريخي عقدي، تستمد منه طاقته الدافعة، إلا أنها لا تستطيع البتة إنكار حقيقة داعرة الوضوح بالشبقية السلطوية الباحثة عن شرعية "الرمز"، ذلك الرمز الذي جعل الحياة الرمزية إنما هي تعويض عن الحياة الاجتماعية لا ترجمة لها أو تعبيراً عنها، فشرعية "الرمز" المدعاة، والشبقية السلطوية لاستلابها تفترض خرساً في الرمز يستلزم وكيلاً عنه، يتحدث باسمه، وباسمه يتصرف وعنه ينوب.

في الأسس التكفيرية:

 

تنبني عقلية المُكفِر على عنصرين أساسيين يعطيان بنيته التكفيرية حيزها وماهيتها الثابتة وهما:

 

1. عنصر سياسي: يرتبط بجمل المصالح الاجتماعية التي تمثلها فكرة التكفير وتمنحها الشرعية والسلطة.

2. عنصر معرفي: يتعلق بالبديهيات غير المفحوصة التي تشتغل في وعي المكفر والتي غالباً ما يلجأ حيالها لسلاح التكفير وهو السلاح الأكثر عدمية أخلاقية.

 

 

5. بحسب تعبير المفكر عبدالله الغذامي في كتابه: "القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة" – المركز الثقافي العربي – بيروت والمغرب - 2009.

6. وذلك بفضل عوامل كثير، منها: تقديس التاريخ الأيديولوجي، داء الاصطفاء، الغرق في قدسية السلطة متى كانت توكيدا لعلاقة بين "أصحاب نعيم" و"أصحاب جحيم"، على حساب موضوعية الفكر الإنساني وفصل القيمة عن السلطة.

7. من أمثلة ذلك: وصف المعتزلة بأنهم مجرد فريق ثوري خارج عن الملة، لم يقدموا شيئا للفكر الإسلامي، وكذلك التعامل اللغوي – الديني مع لفظ "فتح" فيصبح الفتح الإسلامي: من فتح الصندوق – اشتقاقا وإدخال النور على ذلك الصندوق المعتم، وما في ذلك من حكم قيمّي رأسي (عتمة ونور) على الآخر المفتوحة بلاده، والتاريخ العربي -الإسلامي أثبت عوار هذه النظرة المتعالية الأيديولوجية واختزاليتها الحضارية.

8. كالادعاء بأفضلية الإسلامي على المسلم، ويصبح المتبع منهج إسلامي سياسي هو أقرب لله من المسلم المؤمن لمجرد قبوله بتلك الأيديولوجيا معبرا دينيا عن صورة السلطة، ولا عزاء للحضارة إذا ما اختصرت في الكرسي والكرش.

9. يجب الإشارة هنا إلى الإرث المعتزلي متمثلا في حي بن يقظان مثالا لا حصرا.

التعليقات