قد تصحو على رواية حول الأمومة الفائضة؟ / وليد أبو بكر

قد تصحو على رواية حول الأمومة الفائضة؟ 'بعد أن تنام الملكة' بين يدي حزامة حبايب

قد تصحو على رواية حول الأمومة الفائضة؟ / وليد أبو بكر

منذ الخربشات الأولى لحزامة حبايب في الكتابة، شعرتُ بأنّ صوتاً خاصاً هو الذي يفعل. كانت سميرة عزام، وما زالت، النموذج الذي يثير الانتباه في كتابة القصة، خصوصا حين تكتبها امرأة. ورغم كثرة من جرّبن، وبعضهنّ نجح، إلا أنّ واحدة منهن لم تكن امتداداً حقيقيا لرائدة القصة الفلسطينية، والعربيّة إلى حدّ كبير.
ربما لمست حزامة حبايب هذا التوق. لا ألمّح إلى أنّها قلّدت، فهي جاءت في زمن آخر، وبأدوات أخرى، لكنّي أشير إلى أمر له أهميته يجمع الكاتبتين اللتين لا أخفي انحيازي إلى كلّ منهما، كجزء من الانحياز إلى ما هو أصيل في الكتابة: إنه خروج الأنثى الكاتبة، فيما تكتب، عن ذاتها الضيّقة، إلى مجتمعها الأكثر اتساعا. وهو ليس مجرّد خروج؛ بل هو تمدّد في مجال الرؤية يوسع دائرة التقاط الأفكار، فيدخل الذات في الناس، لتصبح جزءاً منهم.
وليس هذا أمراً سهلاً في الكتابة عموما، وفي الكتابة العربيّة التي كثيراً ما تميل إلى السيرة خصوصاً، ولا في الكتابة النسويّة منها على وجه أكثر تحديدا، لأن غالبيّتها تجعل الذات مركزاً، وتجاربها العاطفية منطلقها الأساس.
حتى حين خرجت حزامة حبايب عن فنّ القصة الذي برعت فيه، لتكتب روايتها الأولى 'أصل الهوى'، لم تغيّر طبيعتها في التقاط التجربة: إنها تتأمّل ما حولها، بعين مراقِبة، تعيش ما ترصده، ثم تعيد ترتيبه، بأولويّاته الواقعيّة، وبلغة تتسم بالهجوم النّهم على الحياة، دون أن تمنح الأنثى دوراً غير دورها: ما هو عليه بالفعل، وما تعمل على أن يكون. لذلك لن يفاجأ القارئ الذي يعرف كتابتها، حين يجد أن الشخصيّات الأساسية، التي تحمل بطولة الفصول، في روايتها تلك، كلّها من الرجال، حتى وإن لم تغب بطولة المرأة، ممارسة حياة، ومواقف وصراع علاقات.
رواية حزامة حبايب الجديدة، تكاد توحي بأن الكاتبة خرجت عن طريقها القديم، لتدخل في الذات، وقد توهم القارئ بأنّها رواية سيرة. سوف أقول إنها كذلك، لكنّها سيرة خادعة تماما. قد تكون الأمّ في هذه الرواية هي الكاتبة نفسها، ولكنّها ستكون كلّ أمّ أيضا. وأحداث الرواية تبدو سرداً لما حدث في الواقع، وبعض عناوينه معروف، مثل رحلة النزوح الفلسطينيّة الصعبة من الكويت. قد تكون الأحداث كذلك، لكنّ صياغتها ومزجها وإعادة ترتيبها، حتى تؤدّي دورها في العمل الفنيّ، تخرج بها من الواقع الطبيعيّ إلى الواقع الفنيّ، فلا تعود كما عايشتها الكاتبة على الإطلاق، إن كانت عايشتها بالفعل، وإنما تصير جزءاً من بنية جديدة لها شروطها الخاصة بها، وهي تنتمي إلى فنّ السرد الذي تقدّمت الكاتبة في التعامل معه بجرأة (قد لا تحسد عليها).
تكاد شخصيات الرواية تنطلق من ذات الكاتبة، حين تروي ما يتعلّق بها من أفعال. كلّها شخصيات قريبة جدّا من الراوية، حتى يُظنّ أنّها تروي بضمير 'نحن'، بدلا من الأنا؛ وهي شخصيات التقطت من الواقع بالفعل، لكنّها تداخلت، وامتزجت، فلم يعد ممكنا التعرّف على أصولها في الواقع، ولا على أفعالها، لأن هذه الأفعال صارت روائيّة خالصة.
لكن هذه الأفعال لا ترد متتابعة زمنيا، وإنما تتقطع أوصالها خلال السرد، فتخلق نوعا من التشويق، أحدِ أساسيات العمل الروائي الناجح، حين يكون جزءاً من العمل، غير مقحم أو مفتعل. ثم تعود هذه الأحداث لتتجمع في تواصل زمنيّ يروي حكاية متصلة لامرأة، تبدأ منذ اللحظة التي ولدت فيها، وتنتهي قبل أوان اليأس بقليل. وهي تسير معها باندفاع: في طفولة شقية تشتهي الحياة، هي وكلّ من حولها، وتجاهد كي تستمتع بما هو متاح منها، وتدرس حتى تغيّر واقعها، وتحبّ، وتفشل، وتعمل ولا تستقرّ، وتتزوّج، وتفشل، وتنجب، وهنا يكون رهانها الأخير، فتحاول ألا تفشل، وكلّ ذلك يتمّ سرده من خلال تفاصيل صغيرة وكبيرة، لكنها حادة، وذات دلالات مترابطة، تمكن القارئ من استعادة ترتيبها الزمني (والمنطقيّ) في ذهنه، مع فراغه من قراءة النص، الذي لا يتركه فارغا من أثره.
مثل هذا التقطيع / التجميع، وإن لم يكن اختراعاً، إلا أنه صعب، وهو يحتاج، حتى يتقن، إلى ضبط محكم، في الاستيعاب الشامل، وفي الكتابة، وذلك لحماية السرد: أولا من التكرار الذي يقع فيه كثير من الأعمال الروائية، وثانيا من التناقض الذي قد يفلت من الانتباه، وثالثا من الترهّل الذي كثيراً ما تقع فيه الكتابة، حين تخضع لإغراء الأحداث الزائدة التي تفرض نفسها خارج السياق، بسبب التصاقها بعاطفة قديمة مثلا، أو بسبب طرافتها أو بسبب جمالية اللغة التي عبرت عنها، وهو ما عملت الكاتبة بجهد وحرَفيّة على الشفاء منه.
ومع أن طريقة السرد في الرواية، تبدو عفوية، كما هو أسلوب الكاتبة عموما، إلا أن في ذلك إيهاماً متقناً أيضا. هذه الطريقة في السرد، تقف وراءها قصدية مسبقة، استقتها الكاتبة بوعي، من أسلوب ألف ليلة وليلة في القصّ، ليس تحديداُ لأنّ السرد يحدث في توقيته 'قبل أن تنام الملكة'، كما كان يحدث بين شهرزاد وملكها، بل لأنه أعمق من مجرّد التقليد، وذلك واضح في أمرين: الأول هو أنه يختار تنويعاً مختلفاً في أدوار من يروي ومن يستمع، والثاني، والأهمّ، هو الوقوع على آليّة نسائيّة مختلفة، للدفاع عن البقاء، ضدّ ظلم مختلف.
في رواية حزامة حبايب، هناك شهرزاد الأم، التي تروي، وهناك الـ 'ملكة'، البنت التي تسمع وتستمتع وتطرح أسئلة كبرى، كبديل عصريّ لشهريار الذي يتلقى وينفعل وينام. وما بين طرفي السرد في هذه الرواية تاريخ مشترك ترويه الأم، كلّ ليلة، لتضيء حكايتها الشخصية والعامة في تواتر متداخل، يجعل القارئ يتعرّف، دون مباشرة، على جذور عميقة للدافع الذي يقوم عليه التوتر في الرواية كلّها: الخوف المزمن الذي يكمن في قلب الأم. لذلك يفهم القارئ لماذا تتمنّى، كأمّ، لو تعود ابنتها جنينا داخلها، حتى لا تفكّر بالرحيل الذي يثير صراعاً باطنيّا قاسيا، لا يمكن البوح به، لأن إشكالية حقيقيّة تقوم بين حدّيه، فهو ذلك 'التوقّع' الذي يعني استقلالاً لا بدّ منه للصبية التي شبّت، لكنّه بالنسبة للأم (التي لا تملك أن ترفضه) تشرّد جديد، فيه هجر وانفصال ومزيد من الفقد يصعب أن يحتمل، وهو لذلك ينكأ كلّ الجراح التي تراكمت، بعد أن علّقت الأم حياتها بكاملها على وجود ابنتها في حضنها، باعتبارها تعويضها الوحيد عن كلّ ما علق بحياتها من فقد.
إن آلية الدفاع الوجودية هذه لا تشبه مقاومة رجل يسلب الحياة من كلّ امرأة يتزوّجها، انتقاما صبيانيّا من خيانة قديمة، كما كان الأمر عند شهريار، لكنّها دفاع شرس عن المشاعر، عن مجرى الحياة ذاتها، من وجهة نظر الكاتبة، وهي تلاحظ أنها على وشك أن تنتزع منها، بفعل قاس من أعزّ الناس.
لم يكن واضحا أن شهرزاد كانت تحبّ من ينوي قتلها. الواضح أنها انبرت تدافع عن نوعها وحسب، في حالة قد تقود إلى الحبّ؛ لكن الأم هنا لا تشعر بالحبّ فقط، بل هو امتداد لطبيعتها، ربطت به حياتها بشكل نهائيّ، لذلك تجد نفسها ـ مع رعب نفسيّ كبير ـ مقبلة على مأساة أخرى، ستكون أمّ جميع المآسي هذه المرّة، لا خاتمتها، وهي تعرف أنها قد لا تكون قادرة على احتمالها،. يتحوّل الأمر لديها إلى فوبيا حقيقية، تثير الفزع، حتى قبل أن تحدث، وتهوّله أضعافاً، فتضعفها عن مجرّد التفكير فيه، لذلك تطارد ابنتها بالحكاية التي تقود إلى حكاية أخرى، أملا في أن تحتفظ بها زمنا أطول.
الخوف الذي يتسلل خلسة إلى قلب الأم، وقلب القارئ معها، لم ينبت فجأة، وإنما جاء عبر سلسلة من الفقد، تعرّضت لها الأم، وصارت تهديداً يصعب الفكاك منه: هي منذ البداية فقدت وطنا، واختير لها وطن يحمل صفة المؤقّت، لا يسمح لها بأن تكون من أهله، وحين حاولت أن تتكيّف فيه، لم تتهيأ لها وسائل ذلك، رغم التحايل على الحياة من أجل الوصول إلى شيء منها. وقد ظلّ ضياع الوطن يرافقها، ويشكّل كلّ الهواجس التي تنتابها، ومن غيابه تتوالد النكبات، طيلة الرواية التي لا تختفي منها رائحة الفردوس المفقود لحظة واحدة، لتجعل منها رواية فلسطينية المسار، دون أن تصرخ معلنة ذلك.
وعندما انفتحت حياة الأم ـ صبيّة ـ على الحبّ، الذي يمكن أن يمنحها نكهة منعشة، لم تبخل في العطاء. كان الحبّ كما تمنته، ولم يكن، لأن الرجل الذي أحبّها بصدق، لم يكن قادرا على أن يمنح العلاقة كلّ ما تستحقّه، فتواصلت علاقة الحبّ عبر حالة استثنائية وفريدة من العطاء والفقد، ومن الاستمرار والتقطع، لكنّها ظلّت حقيقيّة، عند كلّ منهما، لكن بطريقة لا تسمح بأن تنتهي كما يقتضي التقليد الاجتماعي، ما جعل الضرورة تفضي إلى الاستعاضة عن الارتباط الواقعيّ المستحيل، بزواج يفرضه الواقع، سرعان ما حمل صفة المؤقّت أيضاً، لكنه أنتج ـ بالقوّة تقريبا ـ ما ظنّته الأم رابطها الإنساني الذي لا يتحوّل، في علاقتها بابنتها، قبل أن يتضح لها أن سيرة الفقد لا حدود لطاقتها، لأن في هذه العلاقة أيضا تهديدَ المؤقّت، الذي يجعل الحياة تنفتح على رعب وجوديّ لا يطاق، في عمر قد لا يكون قادراً على التحمّل، ما يجعل الأمر يزداد قسوة مع كلّ رحيل جديد للبنت الذكية الشقيّة التي تستحقّ أن تكرّس الحياة والعاطفة من أجلها، كما تستحقّ أن تكون لها حياتها المنفصلة أيضا، ما يضاعف شعور الأم بحجم الفقد هذه المرّة، وهي تلاحظ أن هذه الرابطة أخذت تتفكك.
سوف ينظر إلى هذه الرواية، للوهلة الأولى، على أنها رواية الأمومة الفائضة، وهي بالتأكيد كذلك. وإذا ما قورنت بالروايات الشهيرة عن صلة الأم بمن أنجبت، لاتضح الشعور بأن تلك الروايات تحدثت عن شجاعة الأمّهات في الدفاع عن أبنائهن، لكن هذه الرواية تشرّح الصلة الطبيعية والصلة الوجدانيّة المكتسبة في علاقة الأم بابنتها، في حدودها القصوى، التي تدقّ أبواب الجنون تعلّقا. وهي لا تكتفي بأن تعرض عاطفة الأمومة وحدها، وإنما تحفر في ذات الأنثى الأمّ، في تداخل عواطف الأمومة لديها مع آلية الدفاع عن آخر خيط يربطها بالوجود. هذه الأم، في لحظة قريبة من الجنون، لا تتردّد في طلب غطاء الرضيع الذي رحل للتوّ بين يدي أمّه، من أمه المفجوعة، لتدفئ ابنتها في الصحراء القاسية، وهي تعلم مسبقا أنها لن تتلقى غير البصاق!
في الرواية تصوير بليغ التأثير للأمومة، ولكلّ فعل إنسانيّ يتولّد منها، بما في ذلك فعل الخوف، بكلّ مستوياته، وسوف يكون هذا التصوير ميّزة الرواية لدى قارئها، ووجوده وحده، كاف لتقبل الرواية، خصوصا عندما ترافقه قدرة الكاتبة على تصوير لحظات الحبّ والفقد، والراحة والتعب، وعندما تتقن مزج اللغة بالفعل الإنساني حتى تصبح أرضية له، وحينما تجعل المكان إنسانيا، بوظيفته ورائحته وألوانه وزواياه؛ يضاف إلى ذلك احتفاء دون تحفظ بكلّ ما تقدّمه الحياة، للفلسطينيّ الذي لا يخفي فلسطينيّته تحت أيّ ظرف.
والرواية فوق ذلك تقصّ حكاية ممتعة، لغتها سهلة، يشعر القارئ معها بأنه يقرأ كلاما عاديّا، ثمّ سرعان ما يكتشف أن صورة حارقة هي التي تتشكّل، لتكشف ألماً عميقا بين لحظة وأخرى، كما أنها تكشف شيئا جديدا لا يعرفه، في شيء يعرفه.
لكن التأمل في الرواية، سيكشف أن ذلك كلّه، على قوته وأصالته، كان وسيلة الكاتبة إلى ما هو أوسع، في بحثها الدائب عما تريد الانفراد به لذاتها ككاتبة، لا لمجرّد أن تضيف عنوانا آخر، كما هي عادة من هم أقلّ موهبة وتعبا.
خلال متابعتي للرواية العربية، وغيرها، عليّ أن أعترف بأنني أتعبت القريبين منّي، خصوصاً من الأدباء الشباب، ومنهم حزامة حبايب، الأكثر جهداً في تطوير ذاتها من الجميع، أتعبتهم وأنا أحثّهم على البحث عن فكرة أصيلة، تشكّل غيمة خلفية للعمل الروائيّ، تكون مما هو عاديّ، مما مطروح على الطرقات، بلغة الجاحظ، لكنه يحتاج إلى عين غير عادية تلتقطه وتعيد صياغته.
سوف أقول إن فكرة الفقد التي تحوم في سماء هذه الرواية، وتشكّل دافع التوقّعات فيها، اقتربت مما أخذت كاتبتها تتطلع إليه منذ زمن. لقد جهدت حزامة حبايب في أن تكتب الحياة، تماما كما جاهدت كي تعيشها، وهي في الحالتين تستحقّ الاحترام.

التعليقات