"قايين" خوسيه ساراماغو، ماهية القربان التوراتي كما عرفها ساراماغو/ جينا سلطان

ماهية القربان التوراتي كما عرفها ساراماغو

قايين وهابيل، القاتل والقتيل، صورتنا الحقيقية عن ماهية التحريك في العالم الأرضي، رعبنا الدائم المتذبذب بين المطهر والنعيم، وسؤالنا الذي لا نمل من تكراره حول الجبرية وحرية الخيار، أيهما يحفظ لنا الهيئة الإنسانية وكرامتها. أما تفكيك تلك الصورة الملغزة فيدخلنا في متاهة الغواية الكبرى، وهذا ما فعله الأديب البرتغالي الكبير خوسيه ساراماغو في روايته "قايين" (ترجمة صالح علماني)، بجرأة غير مسبوقة. إذ تناول مفاصل التاريخ التوراتي الحاسمة ليناقش فعل القتل كحرية توسوس للإنسان الممتحن بالخلاص، متخذا من قايين مثالا للبطل الأسطوري الذي دشنت جريمته فجر التاريخ الإنساني.
يتلون خطاب ساراماغو الروائي بالغواية المحرضة على البحث والمساءلة، ويتكئ على إغواء حواء للكاروبيم آزائل استجداءً للطعام، التي أوقدت شرارة حرب الأجناس، فملأت صفحات التاريخ بالدوران والتكرار. وبينما آزائل الملاك العاصي يفتتح تجارة الجسد، تستبق إشارة غامضة الأحداث لتعلن ميلاد زمن متداخل يشهده مراقب أزلي يدعى قايين.
يتغلغل ساراماغو في مسار الأحداث التوراتية ليفسر موقف قايين وشعوره إزاء نبذ الإله السيد لقربانه، ويتوقف مليا عند الازدراء والتجاهل الذي يلقاه منه، ويجعله متلبسا موقف هابيل؛ فبدل أن يشفق على حزن أخيه ويواسيه، يسخر منه، رافعا من قيمة نفسه، معلنا أمام قايين المرتبك والحائر، أنه المختار من الإله. انعدام رحمة هابيل، والتبجح والازدراء، منح ساراماغو الإذن بتسويغ فعل القتل، وإلقاء تبعاته على عاتق السيد باعتباره المذنب الأول لأنه دمّر حياة قايين. بذلك نهضت أساسات التمرد الأولى، وُمنحت صفة الحرية من أجل القتل، وترافقت بتحدٍّ لإرادة السيد وسلطة كبريائه التي رفضت قربان قايين، مع أنه قدم الشيء الوحيد الذي يمكنه تقديمه: البذور والسنابل التي نمت بجهده وعرقه. هكذا أرسى الكاتب قواعد لعبته بين السيد ممثل السلطة وقايين المتمرد الأول الذي أعلن: طوبى لمن اختار الغواية لأن ملكوت الأرض سيكون له. غدا مدنسا للمقدسات، لكن تدنيسه في رأي ساراماغو لن يكون أعظم من سماح السيد بموت هابيل، الذريعة التي فجرت تاريخ الأضاحي البشرية. قايين قدم جوابه حين قتل هابيل لأنه لم يستطع قتل السيد، أما السيد فأقر بأن "حصته من الذنب لا تغفر عن حصة قايين منه"، لذا سيظل مدى الحياة تحت حمايته ورقابته.
رأى ساراماغو في قايين الإنسان المطارد الهائم على وجهه، الملاحق بخطواته نفسها، الملعون قاتل الأخ، الذي كانت لديه مبادئ طيبة لا تتوافر إلا لقلائل. فقد نام ليلة طرده، كما يفترض بحجر أن ينام بلامسؤولية، بلا وعي وبلا ذنب، وإن كانت الكلمات الأولى التي قالها حين استيقظ، لقد قتلت أخي. بدءا من هذه الصورة يدخلنا ساراماغو في قلب التيه التوراتي، وازدواجية المعايير الأخلاقية، التي ترسم ملامح الإله أو كما يسمّيه السيد المتواري خلف قناع القسوة والتعطش للدماء.
في التباس متعمد يخلط ساراماغو الأوراق ليسمي قايين باسم هابيل، ويدخله أول تجربة احتكاكية مع أقرانه الخاطئين، في البلدة التي تحكمها ليليت سيدة الشهوة والفتنة، حيث يغدو أبا لطفلها، وتصبح هي صورة الأنثى المدانة في التوراة، ممثلة كل النساء. ومع أنها تتوقف عن التهام الرجال إلا أن قايين يستأنف تيهه ضمن تداخل في الأزمنة يبلبل التاريخ.
بحث ساراماغو عن ماهية القربان في التوراة فوجده متجذرا كعادة، كتكرار للقصة ذاتها: البدء بخروف والانتهاء بقتل من يجب حبه أكثر من الجميع: الابن. أي أننا نكون قد وصلنا إلى ابرهيم وابنه إسحاق الذي يتجرأ ويسأل قايين: لو كان لهذا السيد ابن، فهل سيأمر بقتله، فيجيب ساراماغو بخبث: المستقبل سيقول ذلك، فليس من مستحيل على السيد. لنصل بعدها مع قايين إلى برج بابل، ومأزق اللغة الواحدة التي تشرذمت لغات كي لا يبلغ البشر السماء، ويكون ساراماغو قد أضاف إلى السيد صفة الغيرة والحسد بعدما سمّاه بالحاقد. ثم يعود قايين إلى ابرهيم ويتوجه بصحبته إلى سدوم وعمورة، حيث أهلك السيد البررة مع الفاسدين من دون أن يستثني الأطفال. ثم يدخل صحراء سيناء، ويصدم بأوامر موسى التي تخمد التمرد بدفع الأخ لقتل أخيه وجاره، لتبلغ التضحية ثلاثة آلاف رجل بمشيئة إله إسرائيل!
يناقش ساراماغو بسخرية هامش الأخلاق التوراتية؛ موافقة السيد على زنى المحارم كأمر يومي لا يستحق العقاب في تلك المجتمعات القديمة التي شكلها هو نفسه، يسوّغه بأهمية انتشار الجنس البشري، سواء بالدافع النزوي أو بمجرد الشهوة، أو لما صار يقال في ما بعد من أجل صنع المعروف من دون التدقيق لمن. ليبيرالية السيد في مسألة صنع الأبناء، لها علاقة بالحاجة إلى تعويض الخسائر من الموتى والجرحى التي تتعرض لها الجيوش الموالية والمعارضة كل يوم، مما يجعل الحرب تجارة من الطراز الأول، وربما هي أفضل تجارة على الإطلاق، بالنظر إلى السهولة التي تكتسب بها، في رفة جفن، آلاف الأبقار والأغنام والحمير والنساء الأبكار، لذا يدعو قايين لتسمية السيد بإله الجيوش.   
يتوقف ساراماغو مليا عند يشوع لطرح هشاشة الحياة الإنسانية؛ فقد اعتاد القائد العسكري أن يخلّف وراءه آلاف القتلى بعد كل معركة، لكنه فقد عقله عندما مات له عدد تافه يتمثل في ستة وثلاثين من جنوده. لأجل ذلك رجم السارق جالب الهزيمة حتى الموت كي يهدئ غضب السيد. وانتصر في معركته بعدئذ ليسقط اثنا عشر ألفا من الرجال والنساء. ومع أن مجازر المدن الأخرى التي تم جزر السكان فيها عن بكرة أبيهم، فاتت قايين، لكنه أكد أنه لم يشهد في جميع الأزمنة أعجوبة أعظم من تلك التي جعل السيد فيها الشمس تتوقف كي يتمكن يشوع من الانتصار على ضوء النهار في المعركة ضد الملوك الأموريين.
تحرض محنة أيوب قايين على المناشدة الحانقة لاستبدال الرعب والخوف المتواصل بالرحمة والنقاء الجديرة بالإله. فهو يستشعر أن السيد لا يحب البشر، وصممه إزاء معاناتهم خير دليل على ذلك. فمن أنحاء العالم تتعالى إليه التضرعات، من الفقراء، التعساء، المنكوبين، جميعهم يتوسلون إليه العلاج الذي ينكره عليهم العالم، فيدير لهم ظهره. لقد بدأ بحلف مع العبرانيين وهو الآن يعقد اتفاقا مع الشيطان، لهذا لا يرى قايين موجبا لوجود إله. أما دور إبليس في محنة أيوب فيشرح وضعا بالغ الخطورة يتمثل في تواطؤ تكتيكي، لكنه مضمر، بين الجانب الشرير والجانب الخيّر في العالم. وجود الشيطان يعني أن هناك أمرا لا يمكن الأخلاق البسيطة تفهمه. يتجه قايين للتفكير في منح حياته طريقا أكثر احتراما. ومع أن قايين قتل أخاه، لكنه حضن في داخله حسا أخلاقيا بالوجود، أملى عليه أن يخوض مواجهة شجاعة مع الرب.
يحط قايين طوافه عند نوح وسفينته، آن فسدت الأرض وطغى العنف فيها، وترافق مع بدايات تمرد الملائكة واعترافهم بأن الحياة في السماء هي أشد الأمور ضجرا، وتفضيلهم سعادات الناس العاديين البسيطة. أما فكرة الطوفان فيجدها قايين مؤاسية، إذ كيف يمكن التجربة الثانية أن تكون مرضية في الوقت الذي انتهت فيه التجربة الأولى بسلسلة من التعاسات، مما يعني أن الكائنات البشرية لا تستحق الحياة. تتضاعف نقمة قايين على السيد، ويلقي تبعات الانحراف الأخلاقي للبشر على السيد نفسه، الذي يستخدم سلطته للتحكم بالحياة الحميمة للمؤمنين به، واضعا لها قواعد ومحظورات وتحريمات وتلفيقات. يدعم قايين رأيه بحادثة نوح الغارق في السكر وابنه حام الذي يفعل الفاحشة به، مما يدفع قايين الى تسوية غضبه ضد السيد بقتل زوجة نوح وزوجات اولاده، كي يبيد البشرية ويضع الإله أمام وجهه الحقيقي. أي إن بذرة التمرد أثمرت رغبة حرف التاريخ عن مسار القربان، لكن المحاولة بقيت حلما يراود مخيلة المنظرين، وأملا في جدال يتواصل بين السيد وقايين إلى الآن.
يتبنى ساراماغو فكرة التداخل بين الحيوات إذ يقول على لسان ليليت: لا أحد منا يظل شخصا واحدا، فأنت نفسك يا قايين، هابيل أيضا. وما بين قايين وهابيل، القاتل والقتيل، نتتبع معه كيف رسم القربان البشري خطوط الفصل الوهمية، بين الذاكرة الفردية والتاريخ الجمعي، كي يكون التكرار صورة تشحذ حماسة المتطرفين والشهداء على السواء. 

التعليقات