الشاعر بشير البكر: المتظاهر السوري يخرج الى الشارع وهو يعرف أنه قد لا يعود!

الشاعر بشير البكر: المتظاهر السوري يخرج الى الشارع وهو يعرف أنه قد لا يعود!

الشاعر بشير البكر: المتظاهر السوري يخرج الى الشارع وهو يعرف أنه قد لا يعود!

اجرى الحوار : مازن معروف ـ بيروت: بعد اكثر من ترحال بين مدن العالم، استقر الشاعر السوري والكاتب السياسي بشير البكر في بيروت. مجموعته الشعرية الأخيرة 'ما بعد باريس' (دار النهضة) حملت ملامح شعرية مغايرة لما سبق للشاعر ان نشر. تخفف النص عنده من أثقال بلاغية، واستعارات رمزية، وأضحت الجملة الشعرية اكثر التصاقا باللحظة الشعرية، وان لم تنعتق منها كليا. في بيروت، كان هذا الحديث عن الشعر والسياسة والثورة السورية.
*كيف تجرؤ أن تسمي مجموعة شعرية وفقا لظرف حياتي خاص جدا أو انتقال شخصي من باريس إلى بيروت، فتتعمم حالتك تلك على القصيدة والشعر، فتسمي مجموعة شعرية 'ما بعد باريس'؟
*التسمية لا تعكس بالضرورة جو العمل الخاص. نقرأ أحيانا مجموعات شعرية لا صلة منطقية رياضية بين محتوى العمل وعنوانه. إذا لم يستطع الشاعر أن يركب عنوانا لمجموعته الشعرية ليشكل وعاء للقصائد المتضمنة في الداخل، فلا يمنع أن يلجأ لعنوان شخصي من وحي فانتازيا الحالة. تجد احيانا مجموعة شعرية بعنوان هو صيغة رياضية، أو أرقام. 'ما بعد باريس' هي مجموعة قصائد تمثل نقلة من حيز مكاني وحياتي وتجربة إلى حيز آخر. هي نوع من العودة إلى الشرق ومحاولة تفقد هذا المكان الأصلي وإعادة بناء صلة جديدة معه. محاولة إيجاد علاقة مرة أخرى. 'ما بعد باريس' هي بيروت، بيروت المدينة التي لها موقع خاص في نفسي. أنا خرجت من سورية شابا في الثامنة عشرة. أتيت إلى بيروت. هنا عشت أول علاقة حب بحرية عشتها، وقرأت أول كتاب من دون رقابة أو خوف. أول مرة رأيت فيها البحر كانت في بيروت.في بيروت كانت ولادتي. ولادتي الاولى. وباريس مدينة تكونت فيها. 'ما بعد باريس' تعني نقطة على السطر. نقطة على سطر القصيدة وسطر تجربة حياتية. تجربتي في أوروبا وباريس استنفذت وبدأت أكرر نفسي على المستوى الابداعي والحياتي. وأنا في العادة لا احب ان أكرر نفسي. حتى في علاقتي مع المرأة. المرأة يمكن أن اعيش معها فترة طويلة إلا أنني ألعب معها كل يوم.أحاول أن أعشقها من جديد. أن ابني معها علاقة جديدة كل يوم. أن أكسر روتين الهوى. باريس مدينة ساحرة وتقدم لك في كل يوم شيئا جديدا، لكنها أيضا تحتاج إلى طاقة إضافية لكي تستمر. أنا شخصيا شعرت بأنني استنفدت هذه الطاقة في ذلك المكان، لذا عدت إلى بيروت ابحث عن بحر وموجة.
*تعتبر ان ولادتك في بيروت، وها أنت تعود إلى هذه المدينة من جديد. لكنني أود أن أسألك عن مرحلة ما قبل بيروت أول مرة. نشأتك في سورية، ماذا قدمت سورية لبشير البكر المراهق النيء، الذي كان يعيش ظروفا اجتماعية وسياسية صعبة. كيف استطعت أن تحافظ على العلاقة مع سورية؟ وما هي المقومات التي جعلت لك روابط في سورية حتى بعد مجيئك إلى بيروت؟
*انا بدوي ولدت في الصحراء.فضائي مفتوح دائما والبدوي وراثيا عابر للمكان، ولا يعترف به والرحيل بالنسبة له قدر خاص. والترحال هو فيروس يهيم في دمه. أقمت لسبعة وعشرين عاما في باريس، لكن عدد الأيام التي عشتها خارج باريس، تفوق تلك التي عشتها فيها. كما أن عدد الأيام التي امضيتها في الفنادق والطائرات يفوق تلك التي امضيتها في سريري في باريس. ما أن أقضي أسبوعين أو ثلاثة في مدينة واحدة حتى يداهمني الشعور بضرورة الرحيل. هذا احساس دائم. ولدت في سورية في البادية بين الفرات ودجلة بين اقوام قهرت الرمال والحر وعاشت على القصيد، كانوا يدللون الخيل ويآخون الضواري، الواحد منهم على استعداد لأن يموت وهو يدافع عن نقطة ماء. ولدت حاملا معي مرض السفر والترحال. القاعدة هي الترحال والاستثناء هو الإقامة. في البداية، ما أن تفتح وعيي بالقراءة، حتى نما عندي حس السفر بعيدا عن الفضاء المتواجد فيه. ونتيجة للقراءات، والقراءات الشعرية تحديدا، أصبح عندي هاجس للسفر إلى فرنسا. عندما أتيت إلى بيروت في الثمانينات، كان مشروعي أن أغادر إلى فرنسا، أن أقيم هناك واكتب واتعلم. وعندما خرجت من سورية أدرت ظهري إلى كل شيء هناك، وبي ألم من ترك خلفه حبل المشيمة.
*هل تقول انك حين غادرت سورية لم يتبق فيك شيء منها؟
*كلا. لا أقصد هذا. بالتأكيد كانت هناك أشياء كثيرة، انت لا تستطيع ان تشطب الذاكرة، يمكن ان تقرر ألا تنظر الى الخلف لكن الماضي يسير الى جوارك، وفي كثير من الاحيان تجده يقف امامك، ليملي عليك قدرك في هذه اللحظة، حتى عندما قرأت ميشيل فوكو فإني قرأته بذاكراتي وعيني الصحراوية الثاقبة، صحيح اني قرأته على ضفاف نهر السين لكني ما كان يتولد في رأسي من صور وخيالات كان يأتي من الجزيرة السورية مسقط رأسي. في مجموعاتي الشعرية، هناك قاموس خاص لهذا المكان. لعناصره كاملة. من الرمل إلى الشمس إلى الماء إلى الخضرة إلى الصحراء إلى الطير إلى علاقات الطفولة والشباب. كلها ظلت موجودة. سورية بقيت كالوشم، الذي لا يمكن ان تمحوه. وسورية وبيروت كانتا المكانين الابرز في تكويني الأول، المكانين حيث عشت وكبرت. بيروت الولادة الاولى إلا أن سورية هي النور الذي سكن العين وظل هناك. ما بعد باريس، اختلف قاموسي الشعري. في باريس، كان قاموسي الشعري مليئا بالبوح والنوستالجيا لهذه المنطقة. حتى لو كبرت وأدرت ظهرك لهذه المنطقة وهذا الشرق. لطالما قلت أن هذا الشرق ملعون وإن أراد المرء الإقامة فيه، فلا بد أن يجف وينهزم ويعجز، وإذا أراد أن يحلم فلا بد أن يوسع حدود حلمه إلى أقصى ما يمكن. أن تروح إلى فضاءات اخرى، إلى أوروبا العظيمة التي فيها غنى ثقافي وإنساني. مجتمعاتنا وعوالمنا محدودة ومقفلة. كما ان تجاربنا تصل إلى سقف معين وتقف عنده. ونبدأ بتكرار أنفسنا فيما بعد. لكن في لحظات الصفاء بينك وبين نفسك، لابد أن تعود إلى هذا المكان لأنك غير قادر على الفكاك منه.
*هل لهذا السبب اختلفت المفردة الشعرية في 'ما بعد باريس' واختلف التعاطي مع المكان بوصفه مكانا بديهيا وليس مكانا إشكاليا لإطلاق مخيلة شعرية؟ وهل تأجلت هذه المخيلة الشعرية أو بردت بسبب مجيئك إلى بيروت؟
*المخيلة الشعرية لم تبرد. المكان قوي جدا هنا. بيروت مدينة مفتوحة على البحر، وفضاؤها واسع وكريم. وهي لا تضعك في إطار. المدن الأوروبية فضاءاتها مقفلة. نزهة العين فيها دائما مفتوحة لكنها تضعك في إطار. بيروت مدينة مفتوحة، تفتح دواخلك نحو العالم الخارجي. صارت مقاربتي للأشياء ورؤيتي لها بطريقة مختلفة. أصبح لي عامان في هذه المدينة، ولا اتحرك إلا في شارعين منها. باريس ولندن مدينتان كبيرتان. كنت أصاب فيهما بالضجر بعد وصولي إلى أية واحدة بأيام. الآن اتساءل: كيف يحدث أنني لا أصاب بالضجر هنا في بيروت؟ عندي حياة داخلية غنية من جهة، وقادر على ملء وقتي بالقراءة والكتابة من جهة أخرى. اكرر لك: بيروت مدينة مفتوحة. يعني أن البحر مفتوح على السماء مباشرة. هناك ما يفتح ذاكرتك ووعيك الشخصي ويجعلك تعيش بكل جسدك وتشهد بكل قلبك في فضاء لا نهائي. مناخ المدن الاوروبية ضاغط عليك. حتى ان بودلير يهجي في إحدى قصائده السماء في باريس. المكان يؤثر على دورة حياتك اليومية وكتاباتك.وفي بيروت صرت احس ان نشوتي يمكن ان تكون بلا نهاية، ثمة وقت للحياة، وآخر للشهادة على الحياة.ربما تحتم علينا الظروف بعد تجربة طويلة في مكان أن نهتدي الى نوع من العزلة في مكان آخر، لكنها عزلة الارتواء هذه المرة.
*لكن كما نلاحظ في القصائد، فإن الاولوية الشعرية تعطى للمرأة، بلغة تتمايز عن لغة مجموعاتك السابقة بالخفة. هناك خفة شعرية وخفة مجازية، ولم تعد القصيدة مثقلة بإشكاليات عميقة حد الإبهام. تخفف النص أتى مقابل توهج حضور المرأة.
صحيح هذا التشخيص. كتبت هذه المجموعة خلال وجودي في بيروت. كتبتها لامرأة عشت معها علاقة حرية. في باريس كنت أشعر بأنني مقيد، اجتماعيا وشخصيا. علاقتي بالمرأة هناك كانت مرتبكة. كنت فاقدا القدرة على الإندفاع والخفة. أرى المرأة من جديد مختلفة. رأيت في هذه المرأة التي أحببتها في بيروت، كل النساء اللواتي مررن في حياتي، اللواتي رأيتهن في الشوارع والكتب والأفلام. عشت معها علاقة جعلتني أتحرر كثيرا من الأثقال الشخصية، وانعكس هذا في الكتابة، واللغة تحررت من أثقالها التقليدية وأمراضها وأحمالها القديمة. وكثير من المجازيات والمعالجات التي تستعمل في القصيدة تأتي من تلبك رؤياك. الشعر رؤيا. كما لو أنك ترى مناما بعد يوم طويل قضيته على البحر، سيكون المنام أزرق. يختلف الأمر فيما لو كنت في المكتب وعدت إلى المنزل بعد يوم عمل شاق. سترى عندئذ كوابيس. بالتالي، ما يختزنه ذهنك، يخرج في الليل فيما أنت مستغرق في النوم. اللغة هنا تغيرت تماما. تحررت بفضل انها كسرت الكثير من الحواجز. وهذه المرأة حررتني من الكثير من الحواجز الشخصية والاوهام والعقد وجعلتني أتعامل معها يوميا على انها امرأة جديدة، او انها الحب الأخير. وكنت في حالة توتر دائم بفضلها. توتر إيجابي وأحيانا توتر سلبي، كثيرا ما ظننت ان هذا الحب دون مخرج مثل الجدار الأخير. لذلك كنت اتوق للتجدد يوميا وأن اكتب كل يوم قصيدة من اجلها. نعم الفضل يعود لها في هذه المجموعة. علاقتي مع المدينة اختلفت. في غالبية الاوقات، كانت علاقتي مع المدينة تعني علاقتي مع المرأة. إذا لم أر المرأة لا اعتبر أني رأيت المدينة. وإن لم تكن موجودة، تختلف علاقتي مع القصيدة. وإن كانت غائبة تختلف علاقتي مع البحر.هزتني كريح قوية طوال عام، ودوختني مقاومتها، وبت احيانا لا أعي ما اكتب، كتابتي صارت مصقولة بريح هذه المرأة، وان بت مهترئا حتى الروح مثل حصاة صقلها المد والجزر، وكان عناقها الجريح يهبني عزلة عمود او شجرة زيتون تحت سماء الصيف.صرت الى جانبه مثل رجل محكوم بالسجن المؤبد، وكل شيء حاضر امامه.
*لكن الا ترى أن في رؤيتك هذه لمدينة بيروت رومانسية عالية، وإجحافا بحق الواقع السياسي المشؤوم، والمليء بالتناقضات والآفات والأمراض. انت ترى بيروت من باب امرأة، لكن بيروت تشتمل على تعقيدات سياسية واجتماعية فهي مثلا مدينة عاجزة اليوم عن إطلاق تظاهرة واحدة مؤيدة للثورات في العالم العربي وسورية تحديدا. اناسها متأخرون كثيرا عن ركب التطوير والمطالبة بالديمقراطيات في العالم العربي. هذه أيضا بيروت، وهي ليست المدينة التي فضاؤها مفتوح كما تقول، فهي على العكس، مقفلة الفضاء على مستويات كثيرة.
*اولا، اذا حكمت على ان الغد سيكون مشابها لسائر الأيام، فمعنى ذلك انك لن تعود تنتظر شيئا لا من المدينة ولا من المرأة. المرأة التي أحببتها تنتمي إلى بيئة غنية جدا، على مستوى قوة المكان. إنها من الجنوب ومعها كنت اسعى على امتداد هذا المكان وراء شيء كطعم الموت المشترك بيننا. المكان هنا قوي جدا على المستوى الإنساني، وحياله اشعر اني اخلو لنفسي دائما، واحصل عليه بكل خلاياي. وهو مكان قدم الكثير من التضحيات وذلك متجذر في فكرها. أشعر أن وعي هذه المرأة يتجاوز وعيي احيانا، وعيها عملي. هي ليست مفصولة عن المدينة. حياتي معها كانت ضمن المدينة بدينامياتها السياسية والفكرية والثقافية، بأوجاعها وأمراضها، بطموحاتها وأحلامها وآمالها. هي امرأة تجربة غنية جدا. علاقتي معها كانت تجربة إنسانية على مستويات عدة. لقائي بها صقلني وبدلني كثيرا ، اكتشفت معها معاني خاصة للبحر والجنوب. لكن، ولأول مرة اكتشف كم لهذا المكان من حضور خاص. بيروت ككل المدن الكبرى. إذا كنت تريد أن تعرف البلد بحق، عليك أن تغادر العاصمة. العواصم هي مدن معولمة. ولا يمكنك ان تحكم على شخص العاصمة بوصفه إنسان البلد. في بيروت، أشعر نفسي باريسيا. باريسي في بيروت، لكن في جنوب لبنان، أشعر بانني جنوبي، وهذا يستهويني كثيرا. عندما خرجت من بيروت، بدأت أشعر بأنني انتمي إلى الشرق.قد يكون هذا شيئا من التبسيط، لكني ربحت التألق، وبعد أن ظللت انظر طويلا الى العالم وجها لوجه احسست باني يجب ان اخطو خطوة جانبية لارى نفسي في صورة جانبية، واذا كانت هناك ايام تكذب فيها الطبيعة، فهناك ايام تصدق فيها المرأة القول.
*بما أنك ترى الشرق من خلال مدن لبنان الثانية، دعني ازجك مجددا في السؤال السياسي. كيف ترى إلى بيروت المدينة الاولى في لبنان، وهي تتفرج على ما يجري من ثورات عربية، ولا تحرك ساكنا. المظاهرات التي تخرج إلى الشارع مثلا تأييدا للثورة السورية، تقابلها بشكل مفاجئ مظاهرات منظمة ومرتبة من قبل أجهزة وأحزاب موالية لنظام الأسد. هناك استباق لأي حركة احتجاجية مؤيدة للشعب السوري، وهناك محاولات لكم الأفواه وإثارة الخوف. هذا تناقض رهيب مع ما تقوله حول رومانسية بيروت وحريتها وتعدديتها. الخوف تصدر من المدن العربية إلى بيروت. أسالك بوصفك كاتبا سياسيا. كيف تحلل هذه الظاهرة؟
*في الحقيقة، لقد فوجئت كثيرا برد فعل الشارع العام اللبناني حيال ما يحصل في العالم العربي. كنت متخيلا أن بعد تونس ومصر، ستنبثق حالة نهضوية من بيروت، لعدة أسباب منها أن لهذه المدينة تاريخيا علاقة متينة بالحرية. ثانيا، هناك جملة من العناوين تفرض على هذه المدينة ان تنجز أيضا مشروع التغيير الخاص بها.لكن الوضع اللبناني معقد، صحيح ان الرقعة العربية مليئة بنماذج غريبة من الديكتاتوريين وأساليب القمع، لكن في بيروت، تشعر أن في كل حي ديكتاتورا، وفي كل طائفة زعيم ديكتاتور، وهناك أمراء حرب ما زالوا موجودين، وأمراء طوائف كذلك. الشارع اللبناني لم يستطع إنتاج نفسه كحالة اجتماعية وسياسية عامة بسبب الانقسمات الطائفية الحادة، التي انعكست تمزقا في النسيج العام اللبناني. المجتمعات ثارت في العالم العربي، لأن هناك قمعا مديدا. خرج الناس الى الشوارع في محاولة منهم لرد الاعتبار لوجودهم، ولأنفسهم بتشكيل قاعدة شعبية واسعة. المشكلة في لبنان أن هناك تسليعا لهذا القمع المديد. ولطالما لاقى متنفسات جانبية لتصريف نفسه فيها. منذ الثمانينات، خطف هذا البلد باتجاهات مختلفة، ولم يبق فيه مشرقا سوى حالة المقاومة. في الخمسينات والستينات كانت هناك حركة نهضوية فكرية وثقافية وفنية. بيروت، في حالة دمارها الآني، لا تزال تنتج كتابا افضل من مصر، وصحيفة في معاييرها افضل من مصر كذلك. اقارن بمصر لان في مصر حركة نشر واسعة. يجوز أن اللبنانيين يشعرون بأن لا شيء ناقص عندهم. مع أنني أعرف فئات شعبية واهلية وجمعيات مدنية وأفرادا كانوا جميعهم متحمسين لما حدث في مصر وتونس واليمن وسورية. أنا أعرف مجموعة من الشابات، اللواتي يخرجن في الليل في بيروت ليكتبن على الحيطان مجموعة شعارات تتضامن مع الشعب السوري وتؤيد المتظاهرين في سورية وتندد بالقمع. وهن لسن خائفات من الأمن اللبناني مع أنه كان يطاردهن مرارا. لبنان ليس ميتا بالمطلق، لكنه محكوم باعتبارات أخرى اقليمية ودولية، ومنها الشراسة الكبيرة من اجل انهاء المقاومة.
*لكن لبنان أيضا غير سوي فيما يتعلق بالمظلة الديمقراطية التي يرى نفسه تحتها امام العالم العربي. اللبنانيون لطالما فاضلوا انفسهم على باقي الشعوب العربية بوصفهم الحضارة والديمقراطية والثقافة والتقدم و'الشعب الأول'. حتى على صعيد موقف المثقفين اللبنانيين، هناك تراجع ملحوظ. بعض الاصوات بقيت مناوئة للنظام السوري، فيما أصوات اخرى تميز نفسها بالليبرالية، لم تستطع حتى الآن اطلاق موقف وإن من باب إنساني وليس سياسيا، تضامنا مع الشعب السوري.
*اعتقد أن اللبنانيين يجب ان يراجعوا أنفسهم على اكثر من صعيد. منها نظرتهم إلى انفسهم، انطلاقا مما يحدث في العالم العربي. يجب أن تكون هناك مراجعة جريئة للسياسي والمثقف والفرد حتى. يجب أن ينتهي هذا الاعتداد الفائق بالنفس، وأن يروا انفسهم بمرآة العالم العربي، كما يجب بالدرجة الاولى أن يعيدوا النظر، بنظرتهم للسوريين. للشعب السوري. هذا الشعب الذي كانوا دائما متشاوفين عليه، ولطالما تعاطوا معه بفوقية واختصروه بجحافل العمال الفقراء الآتين لتحصيل الرزق هنا. ها هم يرون بأم عينهم، كيف أن هذا الشعب السوري ينتج نموذجا خاصا في الديمقراطية والحرية.
*هل ترى أنه نموذج متفوق على النموذج اللبناني، نظرا للظروف الصعبة التي تمر بها ولادته؟
*هو نموذج مختلف عن النموذج المصري واليمني والتونسي والليبي، إنطلاقا من تعقيدات الوضع السوري. المتظاهر السوري يختلف عن المتظاهر المصري واليمني والليبي. المتظاهر السوري ينزل إلى الشارع اليوم عارفا بانه قد لا يعود إلى البيت.
*كيف تفسر هذه الظاهرة، فبغض النظر عن الرواية الرسمية السورية، بوجود متطرفين أو سلفيين، في النهاية هناك شعب ينزل إلى الشارع، ولا يبدو منطقيا على الاطلاق ان يكون هؤلاء الناس جميعا، منقادين بفعل خطاب سلفي او تأثرا بمتطرفين؟
*ما يحدث في سورية، هو نهاية مرحلة. السوريون عاشوا لاربعين سنة مع حزب واحد وحكم واحد وطريقة حياة واحدة. هذه الصفحة انتهت بالنسبة لهم، وهناك نوع من الصحوة، وقد أخذوا على عاتقهم أن يستعيدوا حقوقهم المسلوبة، التي سلبها الحزب الواحد والجهاز الأمني. قرروا أن يعيشوا بحرية وكرامة. هذه المسائل كانت مغيبة في السابق. كان هناك من يقرر عنهم، ويحكم باسمهم، ويصوت نيابة عنهم. منذ أربعين سنة، لم يكونوا قادرين على إقامة الخيارات. كما قال احد السوريين منذ أيام: 'الشيء الوحيد الذي اخترته منذ أربعين سنة، كان زوجتي. وكان اختيارا صائبا. لماذا لا تتيحوا لي حق الاختيار في الأمور الأخرى؟'. الآن الناس قررت أن تمارس خياراتها. لهذا فهي تدفع الثمن. هناك نموذج جديد يولد الآن في سورية والكل معني به، بالتوصل إلى توافق حول صيغة لبناء سورية جديدة تليق بكل السوريين، بكل حساسيات وتشكيلات المجتمع السوري. المجتمع السوري يجب أن يبنى اليوم على مصالحة تاريخية بين السوريين، كما في المغرب وجنوب أفريقيا. يعني، تصفية إرث الديكتاتورية ليس بمحاسبة الناس المسؤولين عن هذا الإرث بقدر ما هو انصاف الضحايا والتوافق على صيغة جديدة لسورية المستقبل. كلفة ذلك كبيرة وهائلة. وواضح أن السوريين الذين يقومون بهذا مدركون للثمن الباهظ الذي يدفعونه، مع ذلك، فهم مؤمنون بالمسار الذي يسلكونه اليوم.
*كيف تقرأ رسالة الشاعر ادونيس التي وجهها مؤخرا إلى الرئيس السوري بشار الأسد؟
*أعتقد أن الرأي العام كان ينتظر من أدونيس اكثر من ذلك بحكم موقعه الفكري والثقافي وبحكم تواجده في مكان في اوروبا يمكِّنه من ان يرى الازمة السورية عن بعد وان يضعها في نصابها السليم. أدونيس نظر إلى الأمر، كعادته من حوالى ثلاثين سنة، بنظرة توافقية. ادونيس الجذري، والمفكر المنشق، والشاعر الطليعي، لم يعد موجودا منذ ثلاثين عاما، أي منذ ان أصبح عاملا لدى النظام العربي الرسمي. وهذا ليس اتهاما لأدونيس، أو شتيمة بحقه. لكن ادونيس كان موظفا في الجامعة العربية في باريس، في الوقت الذي كان يقول فيه بأن المشكلة الأساسية هي النظام العربي الرسمي. وأدونيس هو صديق مبجل ومكرم ومعزز لدى العديد من الأنظمة العربية، من مشايخ النفط في الخليج إلى قبائل اليمن. وهو لم يتحرج تماما من ذلك رغم علمه بأنهم على تضاد تماما مع مشروعه الفكري والثقافي. بالتالي، فإن نظرته إلى سورية لم تفاجئني على الإطلاق، لكن الحدث كان يمكن ان يملي عليه أكثر. أعتقد ان دافع ادونيس للكلام ليس إصلاح الوضع في سورية، وإنما هناك ضغوط دولية كبيرة تسلط على الحكم في سورية. ولأول مرة في تاريخ سورية، تبدو هذه الضغوط جدية. لأول مرة، تلتقي الأجندة الداخلية مع الأجندة الخارجية في سورية. لطالما كانت الضغوط السياسية تاريخيا متعلقة بمصالح الغرب وحده خاصة الولايات المتحدة وأوروبا. هذه المرة، الحسابات ذاتها لكن مستفيدة من الضغط الداخلي. ادونيس منذ زمن طويل يعمل على جائزة نوبل. وفي كل سنة، يرمي بالونات لكي يُرى ضمن مشهد الجائزة من جديد. مرة، يجاهر بانه ضد الأصولية الإسلامية. وتارة يقول بأن العرب ماتوا وانتهوا. وأخرى ينظّر للسلام مع إسرائيل. ومرة قال انها ليست ثورات بل تحركات شعبوية منفلتة بلا إطار وليس معروفا إلى أين ستؤدي، وبأن الثورة لا تؤسس بهذه الطريقة، ولا تخرج من الجامع. عنده نظرة خاصة لتأسيس الثورة طبعا. هو يرى بأن الحراك الشعبي في سورية ليس بثورة. أعتقد أن ادونيس يقدم نفسه على أنه مفكر سوري كبير، له صيت ذائع. مبادرته الأخيرة تجاه النظام السوري تظهر أن ليس عنده مشكلة مع الحكم نفسه، ولا مع سياسات البعث. وهو يدعو إلى ان يراجع حزب البعث بنفسه تاريخ حكمه. وهو ليس بجديد، فمؤتمر حزب البعث عام 2005، كان قد نادى بهذا، ونوقشت النقاط واتخذ فيه قرارات لكنها لم تنفذ وحفظت في الأدراج. حزب البعث، حتى بالنسبة للرئيس السوري بشار الأسد ليس مقدسا، فهو حاول القيام بإصلاحات بالفعل. مسألة حزب البعث والمادة الثامنة وإجراء انتخابات ليست المشكلة، المشكلة تكمن في مدى قابلية الحكم لأن يقوم بفعل تسوية مع الشارع. هذا هو المطروح اليوم وهذا ما يجب ان يناقش. كل طرف يحاول أن يحسن اوراقه. الحكم، عبر الخطوات الامنية يحاول أن يضيق الحراك على الشارع وأن يضعه في زاوية محددة، وان يرضيه بجملة من الإصلاحات. حجم التنازل في موضوع الامن، وفي موضوع الاقتصاد، والتمثيلية السياسية والتعددية والحريات. النظام يعرف تماما أن لا طريق سوى القيام بإصلاحات.
*لكن، أين مصلحة ادونيس في أن يتجاهل تماما الشعب السوري في رسالته، وأن لا يشير إلى الضحايا على الإطلاق في رسالته؟ هو شاعر يكتب عن الحرية والمساواة ويطلق النظريات بهذا الشأن ويتجنب إدانة القمع في الوقت عينه؟
*ادونيس لم يكن له موقف من أحداث مصر، ولا تونس. ادونيس ليست لديه قراءة خاصة لما حدث هناك، حيث الشارع حسم الوضع سريعا. لم يقدم قراءة هناك ولا للوضع اليمني الذي يعرفه معرفة جيدة. أدونيس فكريا على ارضية موقف محافظ. تخيل لو أتخذ أدونيس موقفا جذريا مما يحصل في العالم العربي، فإنه سيقطع مع طريقة حياة درج عليها من خلال المصالحة مع مشيخات النفط. ادونيس يركب الموجة في لحظة تزداد الضغوط على النظام السوري. هو يريد ان يكون جزءا من المشهد الدولي، مثقفا كبيرا ينشق بأقل قدر من التكاليف. في عام 2008، كانت دمشق عاصمة ثقافية وكان أدونيس وقتها مستشارا لـ'دمشق عاصمة ثقافية' في الوقت الذي كان له كتاب أصدقاء في السجون، ولم يتخذ موقفا من هذا. في الموضوع الفلسطيني، لم يطلق ادونيس موقفا واحدا لافتا خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة. مثقفو الغرب تحركوا فيما يخص قضية فلسطين من سوينكا إلى ساراماغوا إلى إدغار موران ودوبريه. ادونيس عنده اعتبارات محددة وموقفه الثقافي مبني على حسابات سياسية. عندما يطلق موقفا سياسيا معينا يكون هناك حساب ثقافي وراءه، وعندما يتخذ موقفا ثقافيا يكون هناك حساب سياسي يمليه.

 

____________________

عن القدس العربي




 

التعليقات