طه محمد علي.. الشاعر الذي شهد صلب المسيح!\ نجوان درويش*

طه محمد علي.. الشاعر الذي شهد صلب المسيح!\ نجوان درويش*

طه محمد علي.. الشاعر الذي شهد صلب المسيح!\ نجوان درويش*

هل عرفتم رجلاً شَهِد صلب المسيح وجاء بعد ألفي سنة ليدلي بشهادة عن واقعة الصلب؟ هذا تشبيه ملائم للانطباع الذي تركته كلمات طه محمد علي، التي ارتجلها قبل سنتين، أمام جمهور احتشد في القدس المحتلة لمشاهدة إحدى قصصه وقد حوّلتها «فرقة الرواة» إلى مونودراما مسرحية. طاقة إنسانية هائلة ملأت القاعة وما يشبه حالة الانخطاف الصوفي مسّت من استمعوا إلى كلمات الشاعر الذي لا تملك إلا أن تحبّه مثلما تحب جدّتك.


حين كرّمته «احتفالية فلسطين للأدب» في المكان نفسه، فإن طه الذي اعتذر في الصباح عن عدم الحضور لأسباب صحية، قرر المجيء في آخر لحظة لأنه كما قال «تذكرتُ أن هناك عشاءً، فدبّت فيّ طاقة عجيبة». ولما كانت الطريق من الناصرة إلى القدس تستغرق ساعتين، فقد وصل بعد الافتتاح. وكان أن أصبح العشاء، الذي تلا المهرجان، عملياً، المكان الذي اجتمع فيه الكتاب المشاركون لتكريم طه محمد علي. حبّ خالص هو نصيب هذا الشاعر، الذي ـــــ مثل جميع الجدّات الطيبات ـــــ بلا سلطة ولا نفوذ سوى نفوذ كلماته والإنسانية الهائلة في أدبه.
مَن قرأه أو قرأ إنساناً مثل سعيد تقي الدين (1904ـــــ 1960)، سيعرف بالضبط ماذا نقصد. ومن عرفوا شخصية عبد الأمير جرص(1965ـــــ 2003) ـــــ الشاعر العراقي الذي رحل شاباً وبقي شاباً ـــــ يستطيعون تخيّل طه محمد علي. لكن أكبر بأربعين سنة ومن دون راديكالية عبد الأمير جرص.

طه محمد علي..


ولد في صفّورية، القرية الفلسطينية التي دمرها الاحتلال عام 1948، وأحياها طه محمد علي في عالمه الشعري والقصصي المشيّد بأسماء وأمكنة واستعادات باهرة لرؤى ذلك الصبي الذي كان يرندح براءته وراء الفراشات الملونة في حواكير صفورية. هذه البراءة سرعان ما كسرتها بشاعة الاحتلال، ومرارة اللجوء وضياع خطيبة الفتى، التي نزحت مع أسرتها إلى لبنان، ولم يرها إلا عند احتلال لبنان عام 1982! وقتها جاءت أميرة إلى بيت خطيبها القديم وقد تزوجت وتزوج هو، وصار لهما أولاد وأحفاد. ورغم أنّه من مواليد 1931 إلا أنّ طه ـــــ بائع التذكارات السياحية في الناصرة ـــــ تأخر نسبياً في النشر. وإن كانت قصائده ظهرت في مجلات فلسطينية في السبعينيات، فإن مجموعته الأولى «القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى» صدرت عام 1983، وتلتها أربع مجموعات شعرية: «ضحك على ذقون القتلة» (1989)، و«حريق في مقبرة الدير»(1992)، و«إله، خليفة، وصبي فراشات ملونة» (2002)، و«ليس إلا» (2006) ومجموعة قصصية واحدة «سيمفونية الولد الحافي» (2003).


شعر طه، في بعض مناطقه، هو المرثاة الفلسطينية الأشد قسوة. وفي مناطق أخرى، تترعه حكايات طفولته وسير أهل صفّورية، شعر يطفح بدعابات معصورة من حياة شقية. وإن كان محمد الماغوط يلقي بظلّه على جزء من أرض طه محمد علي الشعرية، فإن أصالة تجربة طه الشعرية ومعجمه الفريد يتجاوزان ـــــ برأينا ـــــ المؤثرات الماغوطية، ولا سيما مجموعتيه الأولى والثانية.


نشر طه جميع كتبه في فلسطين بطبعات محدودة التوزيع. ولم تحظ بناشر عربي، ما حال دون أن تُقرأ قراءة مناسبة في العالم العربي. لكنه «حظي» بترجمات إلى الإنكليزية على يد مستشرق أميركي إسرائيلي هو بيتر كول، الذي ترجم طه (مع يحيي حجازي) في كتاب صدر بطبعتين عام 2000 و2006. أثار شعر طه اهتماماً ملحوظاً لدى قرّاء الإنكليزية. وفي 2009، أصدرت زوجة كول الأميركية (والإسرائيلية أيضاً) أدينا هوفمان، سيرة ذاتية بالإنكليزية لطه محمد علي بعنوان «فرحي لا علاقة له بالفرح» (عرضت في «نيويورك تايمز» 5/5/2009 بمبالغة فاقعة باعتبارها «أول سيرة ذاتية لكاتب فلسطيني تصدر بالإنكليزية»!). وتذهب الآراء إلى أن تقديم شعر طه بالإنكليزية جاء في سياق سياسي مخل. ويبدو أن صاحبنا الشاعر غفل أو تغافل عن هذا السياق! ولعله يظنّ أن إنسانية شعره أقوى من أي سياق استعماري تُعرض فيه! فكول ما انفكّ يترجم طه وينشره باعتباره شاعراً من «الأقلية العربية التي بقيت في إسرائيل» أو «هندياً أحمر» بالمفهوم الاستعماري. وهو وإن حمل «تعاطفاً»، فإنه لا يحمل إقراراً بالحقوق التاريخية للشاعر وشعبه في مواجهة الاستعمار الصهيوني، فيما شعر طه ـــــ لو يقرأه كول بعيوننا ـــــ هو في عمقه شعر مقاومة، رغم ما يبدو عليه من يأس وتسليم وعرض للجانب الساذج (الفولكلوري؟) من شخصية الفلاح الفلسطيني.


ورغم تماهي الشاعر أحياناً مع شخصية «عبد الهادي الأهبل» التي قدّمها طه وتمثّل العربي الأهبل الذي «لا يعرف شيئاً عن عدوه» و«لو رأى المارينز لقدّم لهم البيض المقلي ولَبَن الكيس»... فالشاعر ـــــ كما يعلمنا طه محمد علي ـــــ له دائماً قلب أُم ومكر بائع سمك.

 

*يونيو2006

التعليقات