كمال الصليبي في رؤية متميزة لدور المسيحيين العرب

الأرض اللبنانية "بتتكلم عربي"، وهي العروبة الحضارية الجامعة بين القوميات والأعراق والأديان التي تنتشر على امتداد لبنان والعالم العربي

كمال الصليبي في رؤية متميزة لدور المسيحيين العرب
احتل الصليبي، في حياته وبعد رحيله، حيزاً واسعاً من السجال الدائر الآن على الساحة اللبنانية والعربية حول موضوعات تاريخية بالغة التعقيد، تداخل فيها الماضي بالحاضر والمستقبل، كما تداخل التاريخي بالجغرافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي وغيرها.
 
ورغم معرفته الأكيدة بأن الظاهرة التاريخية متنوعة ومتعددة الرؤى والأبعاد، آثر في دراساته التاريخية على الجانب الجغرافي / السياسي بالدرجة الأولى. لذلك تعرض لانتقادات عدة، أبرزها تجاهله للقضايا الاقتصادية والاجتماعية وللانتفاضات الشعبية، في مرحلة شهدت فيها الساحة اللبنانية بروز عدد كبير من المؤرخين الاجتماعيين الذين أعطوا اولوية للدراسات التاريخية ذات الأبعاد الاجتماعية المتنوعة.
 
لعل من أول واجبات المؤرخين المعاصرين، خاصة اللبنانيين منهم، أن ينكبوا على مجمل أعماله لاستخراج نظرية متكاملة بنيت على مقولات علمية رصينة، جعلت الصليبي عصياً على النسيان، بصفته واحداً من كبار المؤرخين العرب الذين حركوا الساحة الثقافية العربية، وأيقظوا فيها أكثر من قضية حساسة، تاريخية ودينية على حد سواء.
 
إن قراءة متأنية لدراسات الصليبي حسب تسلسلها التاريخي تشكل المدخل الأكثر علمية لفهم مقولاته العلمية المتطورة على ضوء تاريخيتها. فقد أعد الصليبي أطروحة الدكتوراه بإشراف المؤرخ برنارد لويس، وكانت بعنوان: "المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى"، فأنجزها في العام 1953 ونشرها في العام 1959. فكانت كثافة الفكر الايديولوجي اللبناني واضحة جدا في العنوان كما في الوثائق المسندة. فمصطلح لبنان في العصور الوسطى مفهوم أيديولوجي بامتياز، وكانت الغاية من استخدامه إثبات أولوية الموارنة في بناء لبنان الحديث والمعاصر. وقد تكررت هذه المقولة مع جميع المؤرخين الذي نظروا إلى تاريخ لبنان نظرة طوائفية. لكن مقولات الصليبي الشاب لم تعمر طويلاً. فقد عاش في وسط الجامعة الأميركية بين كوكبة من المؤرخين والمثقفين العروبيين بامتياز، فتخلى طوعاً عن بعض المقولات الفكرية التي طبعت بدايات مسيرته العلمية. وحين نشر "تاريخ لبنان الحديث" عام 1965، برز لديه ميل لتمجيد الصيغة اللبنانية الفردية ودور المسيحيين في إنتاج ما عرف بالمعجزة اللبنانية التي رفعها مؤرخو الصيغة والميثاق إلى مرتبة متقدمة جعلت من لبنان "سويسرا الشرق".
 
بيد أن انفجار الحرب الأهلية في نيسان 1975 دفعت الصليبي إلى إعادة نظر جذرية في رؤيته للصيغة اللبنانية. ورغم تمسكه أحياناً بمفهوم "القومية اللبنانية"، نشر كتابه "مفترق طرق نحو الحرب الأهلية" 1976، وفيه تحذير واضح من سقوط الصيغة اللبنانية على رؤوس اللبنانيين لأن زعماءها فضلوا الدفاع عن مصالحهم الشخصية على حساب الوطن. وكان آخر عهده بالدراسات اللبنانية "بيت بمنازل كثيرة". فضمنه عصارة أبحاثه في تاريخ لبنان بعد أن بات على قناعة تامة بأن زعماء لبنان يسيرون بالبلاد نحو الفتن والحروب الأهلية. فهم يتجاورون ولا يتحاورون، وليست لديهم رؤى مستقبلية لضمان أمن لبنان واستقراره بعد أن ارتبطوا تبعياً بقوى إقليمية ودولية.
 
انصرف الصليبي إلى تعرية الأساطير التي رافقت المرويات الطائفية حول تاريخ لبنان الحديث، وأعطى نماذج كثيرة حول دور المرويات الطوائفية، وفي طليعتها المرويات المسيحية لأنها الأكثر كثافة، في تشويه تاريخ لبنان أو تزويره بصورة متعمدة. ثم انتقل إلى تعرية الأساطير التي بني عليها المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين. فكانت أبرز دراساته التاريخية في هذا المجال: "التوراة جاءت من جزيرة العرب" 1985، و"خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل"، 1988. وفي العقد الأخيرمن حياته نشر مذكراته بعنوان "طائر على سنديانة" عام 2002، و"بيروت والزمن" 2009، وطبعة مزيدة ومنقحة من "الموارنة"، عام 2011.
 
مسيرة الصليبي العلمية إذاً حافلة بالعطاء المتنوع، وأبرز ما فيها نقد الأساطير والمرويات المكوِّنة للكيان اللبناني وللأيديولوجيا اللبنانية، ونقد الأساطير والمرويات الدينية المكوِّنة للأيديولوجيا الصهيونية. وليس من شك في أن قراءة نقدية متأنية لهذه المسيرة بشموليتها تساعد كثيرا على تقديم صورة منصفة لهذا المؤرخ الكبير. لكن تلك المسيرة لم تحظ بدراسات نقدية رصينة توازي الجهد العلمي المبذول فيها. فما كتب عن الصليبي حتى الآن، في الغالب الأعم، لا يتجاوز الدراسات السجالية من منطلقات ايديولوجية لبعض أعماله. وهي أكثر من أن تحصى، وقد رافقته أثناء حياته المديدة وقد تستمر طويلا بعد رحيله. ومن السهل تقديم قراءة ايديولوجية مجتزأة لبعض أعماله يستعجل كاتبها إطلاق أحكام شمولية تسيء كثيرا إلى مقولات الصليبي العلمية. فهناك من فاخر بتقديم الصليبي مؤرخا لبنانيا من دعاة القومية اللبنانية كما كان فعلا في مطلع شبابه. وهناك من قدمه مؤرخاً تقليدياً مدافعاً عن الصيغة اللبنانية الطائفية في "تاريخ لبنان الحديث"، أومشككاً بفاعليتها في "مفترق طرق نحو الحرب الأهلية"، أو محذراً من نتائجها السلبية في "بيت بمنازل كثيرة". ونادراً ما كتب مؤرخون منصفون عن دوره في فضح الأساطير التي بني عليها التاريخ اللبناني، أو عن الأسباب العميقة التي جعلته يصر على تعرية الأساطير التوراتية وانعدام وجودها على أرض فلسطين. وهي دراسات رصينة عرّضته للنفي الطوعي ومواجهة سيل من الدراسات التي تعرضت لشخصه دون أن يرد على أي منها.
 
كان الصليبي متنبهاً لمخاطر تلك القراءات الجزئية المتسرعة. ولم يكن الذين ناصروا مقولاته الأولى على استعداد لقبول تحولاته الكبيرة في رؤيته لتاريخ لبنان واللبنانيين، أو لتاريخ فلسطين وفق المرويات الدينية التي تأسست على أراضيها. وفي مقابلاته الأخيرة بدا الصليبي مسيحياً عربياً شديد التمسك بعروبته لدرجة جعلت دعاة القومية اللبنانية يتهمونه بالانحراف عن كتاباته الأولى في وقت بقي فيه العروبيون التقليديون على موقفهم منه وإصرارهم على تصنيفه بين دعاة الفينيقية والقومية اللبنانية. مرد ذلك إلى أن القراءات الجزئية المتسرعة لأعماله هي المسؤولة أولا وأخيراً عن الاستنتاجات الخاطئة التي أوصلت كتّابها إلى تعميمات دوغمائية أبعد ما تكون عن شمولية الفكر التاريخي لدى الصليبي. فللدراسات التاريخية أيضا تاريخها الذي تقرأ على ضوئه الوثائق والمصادر والمناهج المعتمدة في تحليلها والفرضيات والاستنتاجات التي توصلت إليها.
 
نشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى كلمته المتميزة عن أسباب تراجع الدور المسيحي في العالم العربي، التي ألقاها في مؤتمر "إحياء الدور المسيحي في المشرق العربي" في بيروت بتاريخ 25 ايلول 2010 ونشرت في جريدة "السفير" في 27 منه.
 
فقد أزعج منظمي المؤتمر بمقولاته النارية، كما أثار دهشة أشد العروبيين حماسة. ومما جاء في كلمته: "إن مجرد طرح هذا الموضوع من قبل العرب المسيحيين هو في رأيي افتراض في غير محلّه لأنه يتجاهل حقائق تاريخية وحضارية ووجودية. لأنه يعني، ضمناً، أن العربي المسيحي لا يعتبر نفسه عربياً بكامل معنى الكلمة لمجرد وجوده حيث هو، مهما كان موقف العربي الآخر منه". وفي جوابه على تساؤل منهجي حول مصير العرب كشعب تاريخي في حال زوال النصارى من بينهم، رأى الصليبي "أن العرب لن يبقوا عرباً، في حال زوال النصارى مما يُطلق عليه حتى الآن اسم العالم العربي. لن يبقى العرب عرباً على أرضهم التاريخية. لن يكون هناك شيء في العالم اسمه عرب بالمعنى الكياني التاريخي الوجودي المطلق ودون تحفظ. وبعبارة أخرى، لن يبقى هناك في أي مكان من العالم كينونة عربية قائمة بذاتها لا تتصف إلا بعروبتها، ولا يختلط أمرها بالإسلام". وختم قائلا: "المطلوب من المسيحيين العرب فقط استمرار وجودهم حيث هم، حتى تستمر الظاهرة التاريخية التي اسمها العرب النصارى، والتي بدونها لن يكون هناك شيء اسمه عرب. فواجب علينا تجاه أنفسنا فهم أوضاعنا على حقيقتها على أننا جزء من كل، والكف عن العيش في الأوهام، وإعادة الثقة الى أنفسنا، بهويتنا العربية التي نستمد منها كل ما نتميّز به". شتان ما بين الفكر التاريخي لدى الصليبي في بدايات أعماله وما توصل إليه في اواخر أيام حياته. وما قام به الصليبي في مقولاته الأخيرة يجد شبيهاً له في ما أطلقه البطريرك الماروني بشارة الراعي في خطبه الراهنة، والموقف المثير للجدل للبطركية المارونية داخل الطائفة المارونية خاصة، ولدى الطوائف المسيحية العربية عامة.
 
كمال الصليبي مؤرخ مسيحي عربي عميق الانتماء إلى لبنان العربي المنفتح على جميع ثقافات العالم وليس الثقافة الغربية وحدها. وهو من دعاة لبنان المتنوع في تعدديته العرقية والدينية والثقافية، ليستحق فعلا صفة الأكثر طليعية في دنيا العرب. وقد أثبت شعبه، على اختلاف مكوناته العرقية والطائفية والسياسية، أنه الأكثر صلابة في التشبث بأرض لبنان التي وصفتها الكتب الدينية بأنها أرض اللباين، أو جبل البخور. وفي جميع دراساته التاريخية يبدو الصليبي مدافعا عن بقاء اللبنانيين على أرضهم رغم فشلهم في بناء نظام سياسي طائفي، يتنقل بين لبننة ذات أبعاد محلية أو فينيقية تحتمي بعروبة نفعية. وكان على قناعة راسخة بأن شرائح واسعة من اللبنانيين، وفي طليعتهم مسيحيو لبنان، تؤمن بعروبة الذات، أي الانتماء إلى العروبة الثقافية الحضارية، وليس إلى العروبة العرقية أو الدينية. فالأرض اللبنانية "بتتكلم عربي"، وهي العروبة الحضارية الجامعة بين القوميات والأعراق والأديان التي تنتشر على امتداد لبنان والعالم العربي.
 
 وقد حذر الصليبي مرارا من محاولة الدمج الخاطئ بين العروبة والإسلام، أو الانحراف نحو مسيحية معادية للعروبة في حال دمجها بالإسلام. فكلا التيارين يتقاطعان على قاعدة العداء للعروبة أو استخدامها لقمع القوميات غير العربية والجماعات الدينية غيرالإسلامية.

التعليقات