انتشار الموسيقى البديلة وتراجع العهد الفضائي اللبناني / راجي بطحيش

فجأة وبين الأعوام 1996 و2005 أصبحت جميع النساء وكأنهن خرجن من قناة فضائية لبنانية، كما أصبحت قضايانا المحلية الأشد إلحاحًا هي تلك التي تم تناولها في "سيرة وانفتحت" مثلا من تقديم زافين في خلط غرائبي ولكن منطقي بين ما يحدث من جرائم اجتماعية في صيدا وحيفا مع أن الحدود موصودة بين المكانين، كما صارت النساء في السهرات يتمايلن ويحركن أيديهن طربا بشكل متطابق تماما وبطريقة مذهلة لما كان يظهر في البرامج الترفيهية الطربية مع "مريل مزرعاني-حصري" وغيرها من برامج مثل "سهار بعد سهار"، كما انتشرت موضة الاسم المدمج والمكون من كنية المرأة قبل الزواج وبعده أما على الصعيد الأكثر ثقافة وتنويرًا فقد كان برنامج خليك بالبيت للشاعر زاهي وهبي في مقابل برنامج "حوار العمر" لجيزيل خوري عبارة عن مرجعية ثقافية حقيقية كانت أوساط المثقفين والمتثوقفين تتداولها طويلا وحتى الحلقات التالية وخاصة برنامج "خليك بالبيت" الذي لم يقم باستضافة نجوم في الفن والثقافة والأدب فقط ، بل ساهم في صناعتهم وليس دائما بشفافية أو بمبررات مقنعة، حتى أنني وضمن كتابي السردي "غرفة في تل أبيب" 2007 جعلت خلفيات بعض الشخصيات الملتبسة ثقافيا وأخلاقيا هي برامج مثل "خليك بالبيت" و"سيرة وانفتحت".

انتشار الموسيقى البديلة وتراجع العهد الفضائي اللبناني / راجي بطحيش


- راجي بطحيش -

قبل عشرات السنين من انطلاق العهد الفضائي المبجل كان أجدادي وأجداد أجدادي يقطعون الحدود من فلسطين إلى لبنان بالدواب ثم بالقطارات ومن ثم بالسيارات العجيبة للغرف من بحار الحضارة والحداثة والأناقة والموضة، وكانت الرحلة إلى بيروت بمثابة شهر العسل المفضل لكل فلسطيني من الميسورين ممن استطاعوا إليها سبيلا.

وكان الشبان (وعلى ذمة روايات أبي رحمه الله) يذهبون لهناك بكامل أناقتهم ليقضوا الليالي العامرة بالمغنيات والراقصات والغانيات والكحول ليعودوا من بعدها متثاقلين سيرًا على الأقدام ومفلسين ينامون بعدها أياما متواصلة وعيونهم نحو الشمال، كما كان الشبان الآخرون (الأكثر تهذيبا) يقصدون بيروت للدراسة في جامعتها الأمريكية وفي مؤسسات أخرى، ثم جاءت تلك السنة السوداء وانتكبنا وحكم علينا بعشرة مؤبدات، وانقطعت الصلة الجسدية المشتهاة بلبنان وتحولت العلاقة إلى طبقات وطبقات من التعقيدات من أسوأها تحوّل جزء من شعبنا للاجئين في بلد "الستايل" في واحدة من أكثر حالات اللجوء فضائحية وقسوة عبر تاريخ منطقتنا (ما علينا.. شو بدنا بهالنكد؟!).
 
حدثت الهوجة الإعلامية الفضائية اللبنانية في منتصف التسعينات وكان الشعب الفلسطيني في الداخل، والذي يشعر بالدونية أصلا ودون جهد يذكر تجاه كل ما هو قادم من الشمال، أول المخلصين لهذا المشهد الإعلامي وخاصة الترفيهي منه والاجتماعي ويمكن بالتأكيد فهم ذلك وتفهمه، خاصة وأن الإعلام الإسرائيلي كان (ولا زال) يتصرف باستعلائية منمقة مع رعاياه العرب وفق معادلة تقول "نحن نملك الحقيقة الحياتية والفنية والاجتماعية ولكنها للأسف غير ملائمة لنمط حياتكم المتخلف وغير القابل للزحزحة".

بين ماغي عون والشيف رمزي ونصائح كارلا
وهكذا، جاء الإعلام الفضائي اللبناني في وسط التسعينات ليقلب هذا "اللاتوازن" ويجلب مشهدية كانت أقرب للاستهلاك الإعلامي السطحي منه للتنويري، كانت المنافسة بين LBC وبين "المستقبل" على أوجها، فكنت تجد جارتك في الصباح قد خرجت لتشتري الخبز مثلا وقد تحولت بقدرة قادر إلى ماغي عون أو هيام أبو شديد وذلك لشدة التأثر ومحاولة المحاكاة، كما كان برنامج "عالم الصباح" بمثابة الدستور الروحاني والمعنوي للشخوص، بحيث ترخي أحكام الطالع في أبراج كارمن ظلالها على ما سيأتي من أيام وليال، أما وصفات "الشيف رمزي" فتجدها تتكرر وتعيد إنتاج ذاتها في كل جلسة وجمعة أقرباء تحترم ذاتها وفي كل ثلاجة واقفة في كل بيت صامد في ما بعد بعد الجنوب. أما نصائح كارلا الغذائية فقد كانت الناموس المتداول في كل نادي لياقة بدنية وفي أحاديث الرجال النادمين، العائدين من أكلة كنافة نصراوية أو نابلسية.

"خليك بالبيت" لتشاهد "سيرة وانقتحت" و"حوار العمر" و"سهار بعد سهار"
فجأة وبين الأعوام 1996 و2005 أصبحت جميع النساء وكأنهن خرجن من قناة فضائية لبنانية، كما أصبحت قضايانا المحلية الأشد إلحاحًا هي تلك التي تم تناولها في "سيرة وانفتحت" مثلا من تقديم زافين في خلط غرائبي ولكن منطقي بين ما يحدث من جرائم اجتماعية في صيدا وحيفا مع أن الحدود موصودة بين المكانين، كما صارت النساء في السهرات يتمايلن ويحركن أيديهن طربا بشكل متطابق تماما وبطريقة مذهلة لما كان يظهر في البرامج الترفيهية الطربية مع "مريل مزرعاني-حصري" وغيرها من برامج مثل "سهار بعد سهار"، كما انتشرت موضة الاسم المدمج والمكون من كنية المرأة قبل الزواج وبعده أما على الصعيد الأكثر ثقافة وتنويرًا فقد كان برنامج خليك بالبيت للشاعر زاهي وهبي في مقابل برنامج "حوار العمر" لجيزيل خوري عبارة عن مرجعية ثقافية حقيقية كانت أوساط المثقفين والمتثوقفين تتداولها طويلا وحتى الحلقات التالية وخاصة برنامج "خليك بالبيت" الذي لم يقم باستضافة نجوم في الفن والثقافة والأدب فقط ، بل ساهم في صناعتهم وليس دائما بشفافية أو بمبررات مقنعة، حتى أنني وضمن كتابي السردي "غرفة في تل أبيب" 2007 جعلت خلفيات بعض الشخصيات الملتبسة ثقافيا وأخلاقيا هي برامج مثل "خليك بالبيت" و"سيرة وانفتحت".

كارثة مريم واغتيال الحريري
 
 أما الكارثة الحقيقية فقد جاءت بمراحل لاحقة عندما ظهرت "مريم نور" ليتحول الجميع إلى روحانيين يسفون تراب الأرض ويمضغون أوراق شجر الخروب ويقسمون العالم إلى "طاقات سلبية" وأخرى "إيجابية"، كما صرت تجد بعض النسوة الباحثات عن جدوى ومعنى يتجولن بثياب متهدلة أشبه بستائر البيت وصرنا نتحسر على أيام الشفاه المنفوخة وحركة اليد الطربية إياها.
 
وجاءت أزمة اغتيال الحريري في عام 2005 وما تلاها من ربيع لبناني أعاد إنتاج الطائفية في لبنان وترسيخ ذاك النظام فيه ليحول المشهد الفضائي هذا إلى غاية في التسييس و"اللت والعجن" والتجنيد الكلامي واعتقاد كل طرف أنه يمتلك "الحئيئة" لوحده، ليفقد الإعلام الفضائي اللبناني بريقه وشعبيته في أوساط التيار المركزي العربي المستهلك للتلفزيون في ظل صعود القنوات المصرية الخاصة وأدائها قبل وفي أثناء وبعد الثورة، أما ما جعلني أكتب كل هذا العرض التاريخي فهو مشاهدتي لبوست عبر الفيسبوك قبل يومين لمقطع من برنامج "نكات جنسية" لبناني لا أذكر أو لا أريد أن أتذكر أسمه، لأجدني أصحح نفسي وأقول: ما تبقى من مشهد فضائي لبناني أو ما انحدر إليه هذا المشهد بعيون عربية هي هذه البرامج الغاية في الصفاقة والشوفينية (بصفتي كارها للنكات) والسوقية أيضًا، لم يقدم الإعلام اللبناني في زمن "الربيع الثوري العربي" سوى النكات الجنسية، آه وستار أكاديمي والانقسام "مع" أو "ضد" النظام السوري.. وتلك القنوات المسيحية التي تشاهدها أمي والتي تعمق من شعور "الضحية" لدى المسيحيين وتعزز لديهم الرغبة بالاغتراب الاختياري والعزلة في هذا الشرق... وذاك موضوع آخر!

لحظة الموسيقى الثورية الجديدة
تنتشر في أوساط الشبان (الأصغر مني) موسيقى بديلة لم ينتبه لها جيلي سوى مع مطلع هذا العام وتحديدًا مع انطلاق الربيع الثوري العربي وقد جاء الالتفات للموسيقى البديلة مصاحبا لما كان يتواتر عبر الفيسبوك والتويتر من كليبات يوتيوب لهذه الأغاني والفرق التي باتت تأخذ حيزًا هامًا في المجتمعات الشابة، ومن هذه الفرق أذكر "مشروع ليلي" اللبنانية و"أوتوستراد" من الأردن و"جوان صفدي" و "دام" من فلسطين و"اسكندريلا" من مصر وغيرها.

ولكن، العجيب أنه باستثناء on-tv التي تبث أغاني بعض هذه الفرق المصرية منها.. فإنها كظاهرة شاسعة وملفتة ومثيرة للجدل فهي تختفي فضائيًا بشكل شبه تام مع أنها أكثر ما يحمل تعبيرًا عن اللحظة العربية الراهنة حيث أنها تدمج بين الهم الفردي- الاجتماعي- السياسي دون مساومات على مستوى الموسيقى المقدمة، وهنا أنا لا أطلب من روتانا أو ميلودي أو مزيكا وغيرها استبدال واحدة من قنوات الأفخاذ الهيفائية بقنوات لموسيقى "الواقعية الثورية الجديدة" (هذه تسميتي) التي أتحدث عنها ولكن على الأقل أن يتم إدراجها في قناة متخصصة أو ببرامج غنائية محددة أو بين البرامج، ولكني مقتنع تمامًا أن هذه هي اللحظة المناسبة كي تقتحم الموسيقى البديلة الوجدان العربي من أوسع بواباته.. ألا وهي الفضائيات.
 
 
* عن القدس العربي.

التعليقات