تساؤلات حول الموسيقى العربية المعاصرة/ فرج سليمان

كما وتلاحَظ محاولة الموسيقيين العرب تقليد كلّ ما يعزفه الأتراك اللذين بدورهم فضلوا وضع جذورهم جانباً وتبني الجاز، نحن إذًا نستورد الجاز الأمريكي المكرر. الإنفتاح على حضارات وثقافات أخرى مطلوب لكن الهدف الحقيقي منه كان دائماً الاستفادة من التجربة الغربية الغريبة والتعلم من خطواتها فقط ومراحل تطورها وليس النسخ، إنها ليست محاسن الانفتاح بقدر ما هي لعنته.

تساؤلات حول الموسيقى العربية المعاصرة/ فرج سليمان

 

- فرج سليمان -

سأحاول في هذه المقالة تلخيص ما يحدث في العقود الأخيرة على الميدان الموسيقي العربي بهدف فتح أبواب التساؤل والنقاش ومراجعتنا لكل ما يؤثر على سيرورة الموسيقى العربية. إن للسبات القاتل الذي يمر فيه عصرنا (وليس “هبوط في الفن” برأيي – كما يدعي البعض) عدة مركبات حيوية تتفاعل يومياً لتنتشر عبر الإذاعات والتلفزيونات وصالات العرض مسببة “خمولاً ذهنياً” للمستمع العربي الذي بدوره يعتاد على علك الموجود وبصق كل ما هو غير ذلك.
 
بداية… الكلام
 بعد بحث بسيط لمواضيع الأغاني التي يتم تداولها يتضح بأنها تتلخص بعدد قليل من القوالب الكلامية المستعملة والدارجة فتكون إما عن الحب أو الوطن أو السلطنة وما يسمى بالطرب ومواضيع قليلة أخرى. أعتقد أنه حان الوقت للتجرؤ ومحاوله تأليف/ تلحين نصوص عن مواضيع ليست مضمونة الربح، عن مشاعر لم تنل ما يكفي من الأغاني كخيبة الأمل (من الذات بدلاً من الحبيب) أو كالعصبية، الجبن، الملل، القرف، ألا نشعر بالقرف أحياناً؟ أو ربما الإستعانة بمحاور الفلسفة أو بعلم النفس؟ الخوف مثلاً؟ لقد لحن الألماني فرانز شوبرت نصًا للأديب الألماني غوته يروي أسطورة طفل يحدث أباه بخوف شديد ويصف له وحشًا يظهر له مرارًا ويدعوه بإستمرار للمغادرة معه (في إشارة إلى طفل مريض سيخطفه الموت من أبيه كل لحظه) .
 
اللحن
يلاحَظ بوضوح نسخ تجارب موسيقية غربية (نسخ غير مهني يدل على عدم الاحتراف) وإضافة نص عربي إليه كالـ”روك العربي” والـ”راب العربي” والـ”ريجي العربي” و”الجاز الشرقي”(!!). يتضح عند السؤال عن ماهية هذه النماذج وعلاقتها بنا كمجتمع شرقي بأنها تحوي نصاً عربياً فقط لا غير، فالألحان والآلات المستخدمة وطرق الغناء غربيه بحتة. هذا المركب البسيط الحزين لا يكفي لخلق جانر جديد كما لا يعطي شرعية العبث بالقالب الأصلي فهذه القوالب مرت بمراحل تاريخية وتطورات كان للعوامل الاجتماعية السبب المباشر لإبتكارها وقد صُممت كمرآة لمجتمع معين في ظروف معينة. ننتفض غضباً عند محاولة إسرائيل سلب الفولوكلور الفلسطيني بإستمرار وإستعمال أغانٍ منه باستبدال الكلام بكلام عبري ومحاولة ضم إحدى أهم آلاتنا (العود) للائحة المسروقات عبر إقامة “مهرجانات تكريم”. ألا يشابه هذا السلوك تبنينا للجاز والبلوز والريجي والروك وما يتبعها كبديل لموروثنا الموسيقي، وإن كان بحسن نية؟ ربما لا نقصد السرقة لكننا بالتأكيد نساهم في قتل ثقافتنا الموسيقية وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
 
كما وتلاحَظ محاولة الموسيقيين العرب تقليد كلّ ما يعزفه الأتراك اللذين بدورهم فضلوا وضع جذورهم جانباً وتبني الجاز، نحن إذًا نستورد الجاز الأمريكي المكرر. الإنفتاح على حضارات وثقافات أخرى مطلوب لكن الهدف الحقيقي منه كان دائماً الاستفادة من التجربة الغربية الغريبة والتعلم من خطواتها فقط ومراحل تطورها وليس النسخ، إنها ليست محاسن الانفتاح بقدر ما هي لعنته.
 
النقد
إن للنقص في نقاد جديين مهنيين موضوعيين للموسيقى والفنّ حصة لا بأس بها في معايير حقنة السبات هذه، حيث يحاول البعض الكتابة بعد عودتهم من العروض الموسيقية وغالباً ما تكون نصوصهم مليئة بالمشاعر (“الرقيقة” المثيرة للضحك) والوصف الخيالي المبالغ فيه معدومة النقد الجاد أو ربما لتعبئة صفحاتهم الخاصة في المجلات والجرائد.
 
قليل من المهنية لن يضر أو إعطاء الخبز لخبّازه لن يضر أيضاً فالموسيقى تستحق كباقي أبواب الثقافة نقاداً حقيقيين درسوا المهنة وتاريخها ويمتلكون الأدوات الحقيقية والمقدره الكافية ويدركون أهمية النقد ووظيفته.
 
المتلقي وشرعنة ما يسمى ب”الموسيقى البديلة”
عند سؤالك لأحدهم: هل تتابع ذلك الشيء الرخيص الذي يعرض على القنوات الفضائية التجارية فيجيب: “بالطبع لا، أنا أحبّ سماع كل ما هو موسيقى بديلة” وكأن هنالك فرق ملموس بينهما. هنا أود الوقوف لطرح السؤال، ما هي الموسيقى البديلة؟ وعمّ هي بديلة؟ كيف يقرر المستمع إذا كانت “بديلة” أم “رخيصة”؟ هل لباس المغنية كافٍ لعدم صلبها وإعطائها مكانة في لائحة الاستماع الإلكترونية الشخصية؟ هل آراء المغني السياسية كافية؟ هل موضوع الأغنية يكفي؟ ماذا لو لبست هيفاء “أكثر قليلاً” وعزفت على آلة القانون وغنّت هل سنقول إنها “موسيقى بديلة”؟ وماذا سنقول عن مغنية تمتلك صوتاً قوياً وجميلاً تغني لبحر دولتها وجمال دولتها وهي تلبس البكيني على الشاطئ؟
 
أشعر أن الصورة التي تصل المستمع هي التي تقرر وليس الصوت أو الموسيقى فلا فرق من حيث المستوى الموسيقي (من وجهه نظري طبعاً) بين تلك الفرق والمشاريع التي تنبت يومياً بكثافة تحت عباءة الـ”موسيقى البديلة” وبين السيقان التي تتعرى بإستمرار على القنوات الفضائية. أنا على وجه الخصوص أفضل السيقان فهي على الأقل لا تحاول إقناعنا بالبديل وإنما إثارتنا بالجميل.
 
غياب الموسيقى الآلية
في إحدى مقابلاته قال محمد عبد الوهاب عند سؤاله عن مستقبل الموسيقى العربية: سأشعر بالإرتياح والرضى التام عن الموسيقى العربية عندما تؤثر الموسيقى الآلية في وجدان الشعب العربي مثلما تؤثر الأغاني، في إشارة إلى ضرورة خلق موسيقى تعزف من غير كلام تكون بقوة الأغاني وإمكانية التعبير عن مشاعر ومواضيع عدة من دون استخدام الكلمات. تحاول بعض الفرق كتابة موسيقى آلية لكن الملل ينتاب الجمهور بعد مقطوعتين أو ثلاث ولا نستطيع لوم الجمهور لعدم رغبته بتغيير أفضلياته، إن ملل الجمهور ينبع فقط من ضعف المقطوعات الموسيقية المعزوفة فالملحن الحقيقي المبدع إله يستطيع إقناع الجمهور وإيصال الرسالة التي يريدها.
 
بالنهاية يُلقى اللوم على الجميع، على الملحن والكاتب والعازف والناقد. يجدر بنا الوقوف قليلاً “خمس دقايق بس .. ونتسمع عالموسيقى” هل هذا فعلاً ما نحتاجه؟ هل يمكن أن يكون تكملة لمرحلة الإبداع التي مررنا بها حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي؟ هل هذه “القطع الفنية” مرآه لعصرنا وواقعنا؟ وهل يمكن ملاحظة التنوع الموسيقي فيها؟ هل هناك فعلاً “موسيقى” فلسطينية وأخرى مصرية؟ لبنانية؟ سورية؟ عراقية؟ أم أن الجميع ينفخ في بوق واحد سيأكله الصدأ غداً أو بعده؟ وهل سندرك طريق العودة إلى جذورنا بعد أن ندرك رداءة ما نقدمه اليوم؟

التعليقات