إلى حفيدي عثمان: عد لتمسح دمع القمر وتفتح أبواب المدينة / هالة الشريف أبو غربية

بعد محاولات مضنية في ذلك اليوم لدخول مدينة المدائن، نجحت برفقة صديقتي القادمة من عمان بالعبور إليها، كانت سعادتنا لملاقاة المكان لا توصف، فلا هي ولا أنا كنا قد استوعبنا بعد ما يجري. كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء تقريبا، وجدنا أنفسنا عند باب الأسباط على أسوار مدينة القدس.

إلى حفيدي عثمان: عد لتمسح دمع القمر وتفتح أبواب المدينة / هالة الشريف أبو غربية


بعد محاولات مضنية في ذلك اليوم لدخول مدينة المدائن، نجحت برفقة صديقتي القادمة من عمان بالعبور إليها، كانت سعادتنا لملاقاة المكان لا توصف، فلا هي ولا أنا كنا قد استوعبنا بعد ما يجري.

كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء تقريبا، وجدنا أنفسنا عند باب الأسباط على أسوار مدينة القدس.

لم أحب الليل من قبل كما أحببته هذا المساء... وكانت فرصتي الأولى لرؤيتها ترتدي الليل، فأضاءته.. كان بريقها طاغيا على بقايا خيوط نهار منصرم وعلى ضياء القمر الفضي الذي كان بدرا قبل يومين، وعلى الرغم من الإضاءة، إلا أن نورها ألقى على المكان شعاعا سحريا تدرج بألوان فريدة في تناغمها زاد في حسنه، وأضفى عليه ضياءً جعل النجوم لا تتلألأ من السماء فحسب، وإنما من كل زاوية فيه... تطلق بريقها وتجذبك، ثم تمسك يدك وتأخذك في جولة لتحكي لك - إن أردت - تفاصيل أسرها منذ البداية… قالت: تطل عليك القدس محاطة بهالة من النور الفضي تنبعث من كل ذرة فيها، تدعوك للبقاء لوقليلا في المكان المليء بعبق نادر تدمن عليه منذ اللحظة الأولى، يذكرك برائحة الأم الدائمة التي تنقش في ذاكرتك إلى الأبد، وتحرسها بوجدانك... كيف لنا ألا نضعه في مقل أعيننا... وإن رأينا غيره، فما هي دهشة الإبصار الذي لا تُرى فيه درة الدنيا.

في الحرم القدسي توأمان لا يفترقان، يحرس أحدهما الأخر منذ الأزل بمعاهدة أبدية تتجدد تلقائيا، لا مجال للتراجع عنها طالما يحوم الخطر، تقول بنودها الأولى إنه لا بد من التضحية بكل ما نملك في سبيل الآخر، وإذا تعذر ذلك لا بد من نداء الفجر، ليلتف حولها أطفال، ونساء، ورجال الأمة في حلقة بشرية تتحدى العالم قائلة: إذا أردتموها فعلى جثثنا... لقد سئمنا انتظار وعود حولت روحنا إلى رماد، وضيعنا تيه بيانات الشجب والاستنكار والمؤازرة.

وحين تواصل طريقك في رحاب صحنه، يظهر لك فجأة أحد التوأمين، تشعر أن المكان لا يسعه، كوكب نزل لتوه ينشر وميض أنواره في كل الاتجاهات، يبقى مستيقظا في حالة استعداد دائم، لا يغفل ولا ينام، يصب كل تركيزه على توأمه الذي شاب وظهرت علامات العمر على وجه قبته السوداء، يحرص على ألا يفقده ويصيبه أذى، يحيطه بذراعيه ويحميه بدرع صنعه من خلايا روحه.

وعلى الرغم من ذلك يكمل الأقصى مشواره في درب الآلام، يلتقط أنفاسه، يتوجع من توغل السهام في خاصرته، يستبسل توأمه فيتلقى الضربات عنه، وتطوف أناته الكون، ويرجع صداها إلى المكان ذاته، طالبا تعزيزات بات يعرف أنها على الأرجح لن تأتي.

لقد أصبح ذلك حلمهما اليومي... يحاولان تضميد جراحهما المثخنة على الرغم من إمعان الجلاد في رش الملح عليها، يقفان على الرغم من الوجع العميق بهيبة وصمود وشموخ أسطوري... تتباطأ خفقات قلبيهما، يتشبثان بكل إرادة ببقايا نبض يكاد أن يتلاشى في حرب بقاء غير متكافئة.

في تلك اللحظة الحرجة، تنقطع نسمة الهواء عن المكان، ويكف شجر الزيتون عن الهمس، وكذلك النخيل والصنوبر، وتعتكف أسراب الحمام الذي تعشقه عن الهديل... ويسكن الصمت المطبق الفضاء، يصارع قلبيهما في معركة بقاء، وبأعجوبة يستردان خفقاتهما، ومثل طائر الفنيق تتسلل إليهما الحياة من جديد منبعثة من كل اتجاه من الهواء، ومن السماء، ومن الأرض، ومن نقوش تكاد تحكي أسطورتها، استمدت ألوانها من قوس قزح، ومن نيازك المكان الفريد حولت ليل الأقصى إلى نهار صيفي مشمس.

تنهدت النجوم بعد أن حكت قصتها مرات لم تعد تعرف عددها... حفظتها عَلّ رؤوس أصابعها ترددها حتى أثناء نومها.

كانت صديقتي في حالة ذهول، فالمرء منا لا يكاد يصدق من شدة لهفته بأنه اجتاز تلك البوابة التي أخذتنا إلى زمنها، وراحت تحدث نفسها في صدمة وذهول غير مصدقة أنها على الرغم من كل الصعاب استطاعت اختراق "أنظمة الدفاع المستحيل" لتهنأ بلحظات هي الأجمل.

أما أنا، فالزيارة التي أصفها في كل مرة أراه بيوم من أيام العمر، حولت لقائي به إلى عمر آخر يغمرني بسعادة تمتد من ذوباني لرؤيته، إلى مرار بعجزي حيال وضعه السليب، أحاول عبثا ألا يشوشني ذلك، وأفتش بين كلماتي وثناياها لعلني أنصف المشهد الذي تفننت فيه عقول وضعت كل إبداعاتها تحت تصرف المكان، أنتج ذلك معالم لا تستطيع حتى تصنيفها، فاقت في ندرتها كل الأعمال مجتمعة، زخرفت ونقشت ورصعت بحب وحرص وإتقان.

تنتشر حول قبة الصخرة مجموعة من الأيقونات عبارة عن قناطر وقباب ومدارس وأسبلة، تخفف من وحدة قبتان ومسجد يحرسان المكان بأهداب أعينهما، يتناوبان عليه منذ الأزل لا يكحل النوم أعينهم، يكاد أن ينال منهما التعب ولا يستسلمان.

اقتربت لأنعم بمشاهدة نجم ظهر أمامي... بدا عملاقا في مكان ضيق قليل عليه، يبهر بصرك، تغمض لتستوعب عيناك الطيف ذا الألوان الرقيقة، فلا تقوى على الشعاع الفيروزي والذهبي المنبعث منه... تحاول ثانية وثالثة لتعود بصرك، بالكاد تستطيع، يسحقك ويؤلم فؤادك حضوره، يعصرك سحره، يطيرك في الأعالي، تختلجك مشاعر هي مزيج من الإجلال والإعجاب والتقديس يصعب عليك تحمّلُ جمالٍ بهذه الرقة دفعة واحدة، يتسلل إليك شعور أن الشمس أخذت إشراقتها من هنا، وأن القمر سرق سحره من المكان ذاته، وأن الطيور غردت لأول مرة على أغصان شجره المجروح، وأن مقاييس الجمال هنا صارمة جدا... تخضع لمعايير في غاية الدقة.

وحين تتمكن من النظر إليه مباشرة، يتحداك الأقصى برونق جلسته وشموخ إطلالته الفريدة... ومشاعر الحب التي يبعثها فيك... مهما ادعيت أنه يحكمك العقل والمنطق... أما قبة الصخرة فتسلب منك إحساسا فريدا من نوعه، هوشعور عالٍ بالاعتزاز وبكل ما تمثله وترمز إليه، للحظة تكاد أن تنسى نكبتها وتنسجم معها، ثم سرعان ما تتذكر فتصيبك مرارة وحسرة في صميم روحك، تفطر قلبك.

في حضرة القدس يرفض القمر كل عبارات الإطراء والغزل التي قيلت عنه ويخجل البقاء في الأعالي، ينزل ليؤلف لها خصيصا سيمفونية خالدة على شرفها، وضعها بكل إحساسه المرهف، هوالشاهد الملك لما جرى.. يغمض عينيه مستلهما ومركزا، يعصر فؤاده ويستذكر بنوتاته الحزينة، والأسى قد زاد من آلامه المزمنة.

تنهد من صميم أعماقه، ومسح بكل كبرياء دمعة تسللت إلى خده لم يرد أن يراها أحد، حركت بحرقة جرحه الدفين، ثم تناول كمانه العتيق الذي يلجأ إليه في المناسبات الاستثنائية جدا.. حيا الحضور بكل خشوع وعزف واقفا على شرفها، ترافقه النجوم بتراتيلها الملائكية، وقد عزفت عن استخدام ضوء الشموع أمام نورها المتسلل من كل الجهات، انطلقت النغمات خافتة ومرت في الفضاء الرحب مغمسة بإحساس الخيانة، والعزلة، والوحدة، كسرت كل حواجز اللغات، وعبرت إلى الروح وانتشرت مثل رائحة بخور نادر، وعبرت المسام، ثم تململت وتمايلت صعودا يخنقها واقع الحال، هزت بحزنها العميق مشاعر الحضور، وعبرت عن جروح بقيت مفتوحة منذ زمن أدت إلى تقرحات مزمنة، ثم انتفضت رافضة حتمية ما يجري هنا، وانهمرت مطرا غزيرا، وزادت إصرارا كصوت البرد في ذروة العاصفة.. أبدع المايسترو(ومن غيره يجيد ذلك) بالعزف على أوتار الكمان التي انفعلت وعبرت وتحدثت بصوت بشري مقهور، بالغضب تارة والتمرد تارة أخرى، هزت كيان المكان... ثم تصاعدت وثارت حازمة لتبعث الأمل من جديد في غد مشرق.

انحنت الكواكب والنجوم والمجرات خشوعا له، خاب ظنهم.. منذ لحظة وقوع الأمر الجلل.. وقرروا الاعتزال حتى لا يصبحوا كغيرهم شركاء في الجريمة والمذبحة، وتعهدوا بحمايته، مستذكرين قائدا من أساطير المكان زارهم وحلم بالصلاة هنا وفدا المكان بروحه.. نقشوا مقولته الأولى والأخيرة على أفئدتهم: "يريدوني إما أسيرا، أوطريدا، أوقتيلا، وأنا أقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا"، حلموا بأن يسير الكل على خطاه مهما كلف ذلك.

حين تقترب، تفتش في قاموسك عن عبارات لا تخرج منك إلا في المواقف الיستثنائية.. لعلك توفق في محاولة الوصف فلا تتمكن من إيجاد الإيقاع المناسب بين شعورك نحوها ووصفك الموضوعي لما تراه أمامك.. كأنه درع فارس أسطوري ذوحكمة كبيرة أخذ استراحة محارب.

إنها الفريدة جدا والمميزة والساحرة والجميلة الأنيقة التي لا يوجد لها مثيل تأخذ من روحنا، من ذاكرتنا من وعينا تُخطف منا ونجد كل الذرائع لذلك... قبة الصخرة.. مزيج من عدة أساليب هندسية ومعمارية وفنية اجتمعت وتجاذبت هنا لتحيي الإبداع المجسد في مكان واحد، ذهبية اللون تراها كما لولم تشاهد أجمل منها، يتكرر الإحساس ذاته في كل مرة.. تلمحها ويتكرر ذات الإحساس بأنك تفقدها للأبد.

يحتوي المعلم على لوحات فريدة في نمطها وألوانها وتنسيقها يصعب ان تتواجد في مكان غير هنا.

تفننت أياد في رسمها وتشكيلها بلغت قمم الأبداع جمعت في المستوى الأول منها بين واجهات من الرخام المعرق استخدم بكل أشكاله وألوانه المختلفة، يجعلك تنبهر أمام كل واجهة من واجهاتها، ومن أمامها أعمدة من الحجر الجميل بألوانه الطبيعية يميل جزء منها إلى اللون الزهري، تعلوها نوافذ وجدران زينت بنقوش وزخارف من القاشاني والرخام الملون والفسيفساء طغى عليها اللون الفيروزي الجذاب والأزرق النيلي والأخضر الزمردي والذهبي اتسمت بدقة النقوش وبجاذبية الألوان وجمال إنسيابها استمد فنانوها من الطبيعة أشجارها وسنابلها وأزهارها وورودها وأوراقها ونجومها تتميز بالتناسق الفريد مما يجعل طرازها فريدا من نوعه يتجلى فيه فن العمارة العربي والإسلامي.

اما أبوابها النحاسية فتكاد لا تزال تسمع نقر النقش عليها علت أسقفها زخارف نسقت عليها الأشكال الهندسية مجتمعة، يدهشك ذلك الذوق في استخدام ألوان الشمس على اختلاف درجاتها، يعلوذلك رقبة للقبة الذهبية الشامخة والمعتدة بنفسها،خططت عليها آية الكرسي تلفت انتباهك بجمال خطها، تعلوها قبة ذهبية شامخة ومعتدة بنفسها تجذبك لمعتها من أي مكان تراها، فتزلزل كيانك من جذوره.

وحين تصبح المسافة صفرا لا تقاوم... تضع خدك على واجهتها.. تفاجئك بدفء ساحر يعبر إلى روحك مباشرة، تتمنى أن تصبح جزءا منها تشدك كمغناطيس تثير لديك إحساسا لا حدود له بالذنب والتقصير تجاهها يكاد يقتلك... تحتبس أنفاسك في كل مرة تجد نفسك في ذات المكان الذي يصيبك في العمق، وتبقى متسمرا أمام سحر المنظر الذي يفيض برموز الحضارات المتتالية عليه، هنا تفانى الأنبياء وتسابق السلاطين والفاتحون والملوك والأمراء والعلماء والحرفيون والمؤمنون والمناضلون بوضع بصماتهم على المكان، هنا كتبت آيات قرآنية بماء العين لتحفظ المكان الجليل، ونقشت أسماء من بنى وجدد وزخرف ولوّن ورمّم،هنا ذابت الأصابع في الإتقان ولم تشتكِ... هنا ركعت وسجدت الآلاف المؤلفة هنا تعبٌ لسواعدِ شعوب، آمنت بحضارة فلم تبخل بشيء عزاؤها الوحيد الإيمان والبقاء والخلود.

دخلنا قبة الصخرة، وجدتها كلؤلؤة نادرة تشع بالالوان من داخل محارتها وكأن البحر تفنن في تشكيلها، تنقلك إلى العصور التي أقيمت فيها تمتع نظرك الذي لايعرف أين يستقر وهويتفحص المكان يحتار أين يركز... كل زاوية فيه تدعوك لزيارته تجذ بك بمقدار الإبداع الذي وضع فيها، بأشكالها الأنيقة الجذابة وزخارفها الخشبية ورسوماتها المعبرة إلى حد لا تستطيع أن تميز فيه أيهما الأجمل والأحلى والأكثر بهاءً؟ الجدران أم السقوف؟ أم المحراب، أم القبو.. بواجهته الخشبية المزخرفة التي تحيط بالصخرة المشرفة،هنا أقيم عرس للفن اليدوي بالنقش والحفروالتنميق والتلوين دعيت إليه كل أنماط الكتابات والزخارف والنقوش، إنها قطعة فريدة يستحيل عليك ايجاد العبارات الدقيقة في وصفها جمعت بين الفن والعراقة والجمال والحضارة، وتتساءَل هل فعلا أياد بشرية قامت بكل ذلك العمل الخارق؟ ومضت تاركة لنا إرثا أكبر من كل قيمة.

غادرنا بعد صلاة العشاء، وجلسنا خارجا في الساحات التي تعج بالقناطر والقباب والسلالم الحجرية، تنزل عبرها لتقابلك أروقة وأبواب تاريخية وأسبلة وبرك وآبار حفرت عليها نقوش بدت رسائل ووصايا من أسلافنا حافظوا عليها بأفئدتهم طيلة فتراتهم.

كان الجولطيفا متأثرا بوجوده في هذا المكان الإستثنائي الذي فرض شعورا خاصا به، فترى المصلين وهم يغادرون جماعات يسود بينهم جومن الالفة والمحبة والحديث الممتع، تتعالى ضحكات الأطفال، فتلك أم تحاول إقناع أطفالها بالعودة إلى البيت فيرفضون...فتهمس قائلة " حان وقت العودة إلى البيت " أجابوها بصوت واحد "لا" فقالت نأتي كل يوم إلى هنا...ألا يكفيكم؟"

كيف لهم أن يضجروا من القدوم إلى هنا يوميا...للعب وتَشرّب أبجدية المكان. وذلك الرجل عزم صديقيه لتناول الشاي فتنافس الأصدقاء على الدفع.

ينتشر سكان البلدة القديمة في ساحات الأقصى فهي متنفسهم الروحي الوحيد حيث تضيق بهم البيوت المتهالكة والآيلة للسقوط ولا يجد الأطفال متسعا للهو، يحقق لهم المكان حلمهم في اللعب طوال النهار... 
وعلى الرغم من تلك الظروف المجحفة يعتبرأصحاب المكان أنفسهم محظوظون جدا بتواجدهم هنا على الرغم من شعورهم بوحدة موحشة تقشعر لها الأبدان..... تلسعهم وتكويهم وتتركهم لقمة سائغة للذئاب... لا يجدون ملجأ يقيهم سيف الخوف والإبتزاز المسلط دوما عليهم. تُسلب منهم الروح والذاكرة بدون إرادتهم ويطردون من حياتهم...من طفولتهم من أحضان أمهاتهم... يصنفون لدى القادمين الجدد في أسفل السلم...وهم اللغة الأم التي نطق بأحرفها المكان.

هنا تمتهن كرامة البشر والحجر والهواء والشجر والسماء بعدد لحظات النهار، هنا يحرم المكان بمن فيه من سكينته وطمأنينته، هنا يسلخ جلد المكان حيا....ويترك لينزف حتى الموت وفي الرمق الاخير يعيدونه إلى الحياة ثانية فسلخ ثم نزف ثم ألم غير محتمل لا ينتهي... هنا لا يسمح الجلاد المصاب بالإنفصام والسادية حتى بحرية الراحة والموت...، يبقيه حيا تحت سيطرته...يعذبه ويمارس طقوسه في اقتلاع أخر نواة أصلية لتركيبة المكان.

يجوب المكان ذهابا وإيابا يتطاير الزبد منه هوسا وخوفا من أن ياخذ الملاك غفوته ويحلم بأنه لم يعد لأحد سلطان عليه...يكسر قيده ويفتح أبواب سجنه وأقفاص السنونوويجدد كسوته ويوزع حلوى "الهريسة والعوامة والمشبك"..إحتفاءً بمولده حرا من جديد.

أمضي حاملة جرحه بين أضلعي التي تتفتت لعذابه، أحاول التنفس يؤلمني ذلك وأختنق، يغمرني شعور بشع بالقهر....والعجز يزلزلان كياني، تذوب الشموع على أصابعي ولا أنتفض، لم يعد لما يجري حولي اية أهمية بعدما لمست وضعه عن كثب، لا معنى لثورات ولا لهزات ارضية أومالية ولا لأوبئة تجتاح العالم ولم يجدوا لها دواء.... هنا اختزال لما يجري من تطاحن على الساحة الكونية، هنا تكف الأرض عن الدوران وتتشح بالسواد حزنا على أولادها.

للحجر المترامي على الساحات هنا بريق شفاف، رغبت في المشي حافية لعلني أكتشف سر التواصل معه فوجدت ملمسه، دافئا وناعما عند الصخرة، وثلجيا منعشا أمام الأقصى سرت عليه وشعرت بارتباط غامض وبشجن قديم جديد، مرت السنون عليه تاركة آثارها من تجاعيد وانحناءات لا تخلوا من جمال، من هنا مرت جيوش واشتدت معارك وانطلقت سهام ولمعت سيوف وصهلت خيول ومرت قوافل ووقعت زلازل ودوى رصاص وسالت دماء هنا يسقط الشهداء ويغتالون مرتين، تاركين بصماتهم العميقة التي آلمته كثيرا، وعلى الرغم من مأساته، حدثني هوالأخر عن أيام أمجاده ونكباته وهمس لي برغبته الشديدة بالعودة ولوليوم واحد ليشهد ويحتفل بالحرية من جديد.. ربما علي أن أنقش سره على الروح.....خوفا أن تخذلني الذاكرة كعادتها... وأفقد شاهدا حيا على حضارة على حافة الغروب كم هوجميل أن تذوب مع الحجر هنا....إنه يختلف عن أي حجر أخر، ينحني تحية للمكان، يسمع أناتك أولا، ثم يتنهد ومن أعماقه يصل إلى مسامعك ترانيم شبابة تتحسر بحرقة على مجد سابق مبعثر في المكان، وعلى شظايا الإنكسار.

للحجر هنا لمعة البحرليلا حين يسقط ضوء القمر عليه، فتبحر فيه وتغوص يبهرك جمال أعماقه وتتناولك موجة في زيارة للمكان تسلمك بلطف شديد لموجة أخرى ومن ثم لثالثة لتروي لك قصص الإبحار والغرق للذين لم يعدوا العدة لمواجهة إرتفاع البحر للمد والجزر وموجات المد العالي وتياراته القاتلة، التي تمسح المكان من مكانه.
يصيبك جمال المكان ورونقه وجاذبيته وسحره بإدمان تصبح خاضعاً له بإرادتك...لا تفتش عن مبرر لرؤيته... وحين تلتقيه لا تريد شيئا آخر.

بينما كنت غارقة في روعة المكان، كسر تأملاتي وانسجامي وبعثرهما صوت حاد كان نشازا... ذكرني بنعيق الغربان الساخطة التي تمر أحيانا في المكان، طلب منا الرحيل لأن أبواب الحرم سوف تغلق...كان قد مر تقريبا نصف ساعة على صلاة العشاء، حيث يصبح بعدها ( كما أخبرنا أحدهم )...التواجد هنا محرما، يصعقني ويصدمني ذلك...لماذا يغلق الأقصى بما يرمز إليه من جلالة ومكانة وقيمة لدى البشر ؟..رأيت الحجر ينزف من شقوقه وسمعت المكان بأكمله يتألم ويتحسر... هنا يحولون المكان المقدس إلى معتقل يحبسون البشر والحجر والهواء في قلعة نائية من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر... يمعنون بادعاءاتهم البغيضة والمزيفة بترتيب وتنظيم حياة الموت لسكان الحرم والبلدة القديمة.

لا تهدأ دورياتهم تجوب الساحات ذهابا وإيابا تحاول مسح ذاكرة المكان وتجعل من وقع بساطيرهم أصواتاً نشازاً تزعج المسامع، يتفقدون الزوايا والمنحدرات والأروقة والظلال ويفتشون بين أغصان الشجر بحثا عن أعشاش طيور وليدة...يلتهمونها.
هنا في بطين قلب الكون لا أحد يغادر ولا أحد يدخل...تغلق الأبواب على ساكنيها،هنا تدخل عصافير السنونوإلى الأقفاص بارادتها...وتقرر الصمت، تباطأت في سيري لأحظى ببعض اللحظات الإضافية،كان لابد من الرحيل، وترك المكان الأعز يواجه مصيره اليومي البائس..شعرت فجأة بالغصة والألم تسكناني وبالعطش الشديد.

خرجنا من باب السلسلة بإتجاه شارع الواد،كان الجوصيفيا حارا ولطيفا وكنت لازلت واقعة تحت تأثير سحر المكان، وإذ بها تدعوني لزيارتها للمرة الألف قائلة : "لن تندمي ربما لن تتكرر الفرصة ثانية... سرت في البلدة القديمة بإتجاه الواد، أسرني جمالها كعادته في كل مرة تبدولك وكأنها المرة الأولى..تعترضك شمالا عقبة التكية تليها طريق الآلام التي حتم على المدينة أن تسير في دربها إلى اليوم....ثم تلاقيك طريق برقوق يمينا وبعدها الكنيسة الأرمنية وامتداد أخر لطريق الآلام، ثم مستشفى"الهوسبيس" الذي أصبح فندقا أنيقا،ثم تفاجئك شمالا قناطر خضير بمشربياتها الخشبية الجميلة، ويمينا عقبة الأصيلة تليها عقبة التوت بقوسها المميز ودرجاتها الطويلة ويلاقيك مسجد الشوربجي الموجود هنا منذ سنة 1097 هجرية واخيرا شمالا طريق الجبشة وسوق خان الزيت لتصل إلى درجات باب العمود.

بهرني جمال المدينة العتيقة ليلا.. بسحر عبقها المميز وبأنوارها الخافتة وأزقتها الغامضة وحجارتها المصفوفة والشاهدة على مأساتها وعلى أسرارها المدفونة، وسكانها الذين يجوبون شوارعها متحدثين بصوت خافت، هنا حياة أخرى ليلا اعتقدتها مفقودة وإذا بها تعج بزوارها ومحبيها الذين لم يقطع بينهم وبينها الحبل السري، وعلى الرغم من أن الدكاكين مغلقة في تلك الساعة إلا أن روائح البهارات والقهوة المتسللة تنفذ إلى أعماقك، حركت عطشي من جديد لشيء بارد لعله يرويني ويخفف عني طعما بمرارة العلقم كان قد سيطر علي منذ البداية ونسيته حين كنت في الجزء الأجمل من الأرض.

طلبت عصير رمان من بائع على عربة... وانتظرت جالسة على درجات مبنى قديم، كانت حبات الرمان تتساقط متسابقة لا تدري بأن مصيرها عصير أحمر اللون يشبه ذلك الذي ينز من بين شقوق الحجر هنا..
حين ناولنا البائع عصير الرمان,نصحنا بمشاهدة منظر المدينة من سطح المبنى، رافقنا ودلنا على الطريق وإذا بي أطل على جزء مني تركته رغما عني قبل قليل... وعاد للظهور هنا أمامي فجأة قطعة حلي نادرة صممها أحد ما بعشق ورصعها بالزمرد والياقوت والفيروز والعقيق والماس، كنت مبهورة بالمشهد تمنيت أن أتمكن من حفظه في أعماق روحي.. وأغلق عليه إلى الأبد وارمي مفتاحها في قاع محيط بين شعب المرجان.

جلست سارحة في تلك الإطلالة التي تجعلك تفقد النطق أغمضت عيني ومددت يدي محاولة لمس النور المنبعث من هناك.. حيث كنا.

استذكرت بقوة تلك اللحظة التي توجهنا فيها إلى حنفيات المياه في الحرم لنشرب قليلا ونلتقط أنفاسنا من شدة تأثير المكان الجليل علينا، عرضت وجهي للماء وإذا بقطراته المثلجة تصدمني لأفيق من تأملاتي وأستوعب تواجدي في المكان.

بقيت لثوان وبرودة الماء تصفع وجهي، رغبت بالبقاء أكثر...أغمضت عيني وتخيلت أن الماء مثل الأساطير حملني ليأخذني عبر بوابة إلى زمن أخر وأبقى هنا.... في المكان الذي طالما حلمت به... وأحمل راية القدس أقسم وأتعهد بالحفاظ عليها إلى الأبد... وإذا شعرت أنها على وشك السقوط أغرسها في صدري ريثما يلتقطها فارس من أبنائها، ويخوض معركتها إلى النهاية، لتبقى مرفوعة... ولينثروا رمادي في المكان لينبت في الأرض زهراً وسياجا فولاذيا ساماً يستحيل عليهم إختراقه ثانية. وليبقى طيفي حارسا وخادما للمكان الذي بات ينعم بحريته وطمأنينته، وليعود الحمام يهدل والطيور ترفرف والاطفال يكبرون جيلاً بعد جيل وينفتح الباب الذي طالما أغلق عليهم ويترك مفتوحاعلى مصراعيه لآمالهم وأحلامهم وطموحاتهم.

التعليقات