اشـكالية الإبداع والشارع والهوة القاتلة بينهما / محمد معايطة*

وفي خضم هذه التساؤلات والجدليات، يبقى الشارع بعيدا جدا، عن مشهدية الإبداع والمبدع الحديثة، فانشغال الشارع بيومياته، وانشغال المبدع بضروب إبداعه، يصنع هوة كبيرة بين العقلين، وهنا قد تظهر مجموعة من الأسئلة، لماذا توسعت هذه الهوة؟

اشـكالية الإبداع والشارع والهوة القاتلة بينهما / محمد معايطة*

 

- محمد معايطة -

دوما ما نصطدم بمصطلح الأدب النخبوي، وبجدلية نزول المثقف لعقل الشارع، أو العكس بأن يصعد المتلقي العادي- متلقي الشارع- إلى فكر المثقف أو الأديب أو الفنان، وجدلية الحداثة التي ذهبت بالمبدع إلى فضاءات عديدة، فضاءات قد يراها المتلقي رموزا أو طلاسم لا تتفق مع شكل المنطق الذي يراه، وبالتالي يبتعد عنها تارة، وتارة أخرى يضربها بالسخرية، وقد ظهر نوع جديد من مدعي الإبداع الذين وجدوا في ضروب الحداثة ومداراتها الجديدة، منفذا للدخول إلى هذا العالم، ولكن عن عدم فهم، وإدراك حقيقي لهذه الأشكال الإبداعية.

وفي خضم هذه التساؤلات والجدليات، يبقى الشارع بعيدا جدا، عن مشهدية الإبداع والمبدع الحديثة، فانشغال الشارع بيومياته، وانشغال المبدع بضروب إبداعه، يصنع هوة كبيرة بين العقلين، وهنا قد تظهر مجموعة من الأسئلة، لماذا توسعت هذه الهوة؟ 

ولماذا تطور الإبداع لأشكاله الجديدة، بينما الشارع ورؤيته بقيت في مكانها الأول ولم تأخذ تطورها الطبيعي معه؟ وهل الخطأ يقع على عاتق الشارع أو على المبدع.

مجمل حقول الإبداع الحديثة من شعر وفن تشكيلي وموسيقى وغيرها، تعتمد بشكل كبير جدا على فكرة التأويل، فالمبدع يعطي المتلقي من الصور والأشكال والمشاعر التي تمر بمخيلته عن طريق رموز، تعد مفاتيح لما يريد إيصاله، وهي في أغلب الأحيان تعتمد على الفكرة الإنسانية المطلقة حتى ولو كانت من خلال تفكير وذات المبدع نفسه، هذا الأمر الذي يعطي المتلقي الفرصة للتأويل من خلال حلم الطرف الأول وهو المبدع، ليبدأ المتلقي بالربط والتحليل والإسقاط الشخصي على ما يريد كطرف ثاني من هذه المعادلة، وهنا يكون الجدار الأول والأساس، وهو أن المتلقي لم يصل بعد إلى مرحلة التأويل من تشظيات الطرف الأول، وأنه ما زال يعيش وعي الفكرة الجاهزة والمعنى الواحد الذي لم يعد المبدع يعمل عليه لما يراه من شكل وخطاب مباشر في الحالة الإبداعية، لا يخدم حالة المبدع والفضاءات التي ينطلق اليها، بالإضافة لظهور المضامين والمواضيع الجديدة التي ترفض المباشرة في الطرح.

لكن هل نستطيع في هذه الحالة إسقاط اللوم على الشارع، مع كل عثرات وصعوبات الحياة اليومية التي يعيشها، والتي أبعدت الإبداع بحقوله المختلفة عن سلم أولوياته واحتياجاته، فعندما يفكر الشارع بلقمة العيش في ظل صعوبات الحياة، سوف يرى الإبداع بمختلف أشكاله كنوع من الترفيه والحاجة الثانوية المؤجلة لوجود ما هو أهم من أساسيات.

بذات الوقت، يعيش المبدع حالته ورؤيته الخاصة للحياة وتفاصيلها، فهو الذي يطير من خلال أبداعه حالما بشكل جميل من الحياة تارة، وتارة أخرى واضعا شكل المعاناة من لغته الخاصة، فكيف لنا أن نضعه تحت وطأة القيد وأغلال الواقع، فرؤيته للحقيقة، أي حقيقة، تأخذ شكلها وحالتها الخاصة المميزة له، حتى وإن تحدث عن الهم اليومي والقضايا المعاصرة التي يعيشها، من الحال السياسية والإقتصادية والمجتمعية، لا بد من أن تدخل فلسفته ونظريته الخاصة على العمل الإبداعي.

قد تكون هناك مقترحات عديدة للتقليص من هذه الهوة، ولكن السؤال هنا؛ هل كلا الطرفين مستعد للخروج عن ذاته التي رُسمت له، أو التي رسمها لنفسه ليكون طرفا في تقليص هذه الهوة؟ وخاصة أننا لا نستطيع رمي الذنب على كليهما، لخصوصية الحالة لكل منهما على حدة، ليظهر سؤال آخر، ما أفسد الرابط بين الطرفين وقام بصنع هذه الهوة، كيف من الممكن مواجهته؟ هذا من ناحية، ومن الأخرى كيف سيتم إصلاحه؟

تبقى هذه الأسئلة قائمة، وهذه المشكلة أيضا إلى أن يتم وضع خطوات لإصلاح ما فسد بينهما، والأهم من ذلك الصبر، لأن ما أخذ وقتا طويلا في تدميره يحتاج وقتا أطول في إصلاحه، وإلى أن يرجع الفن والأدب مقياس لحضارة الأمم مرة أخرى، لا أعتقد أننا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي آخذين دور المراقب في هذه المشكلة، متمنين أن يعود دور الإبداع في حمل الشارع والمجتمع نحو الحضارة والوعي الحقيقي.

 

* الأردن.

التعليقات