تأملات في بنيان درويشي / د. عبد الله البياري

"لست من الذين ينظرون إلى المرآة برضا، المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة.. أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها، فإذا وجد فيها ما يشبهه أو يعنيه من تعبير وتصوير، قال: هذا أنا. وإذا لم يعثر على شراكة في النص / الصورة أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي!"

تأملات في بنيان درويشي / د. عبد الله البياري

- د. عبد الله البياري - 

"لست من الذين ينظرون إلى المرآة برضا، المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة.. أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها، فإذا وجد فيها ما يشبهه أو يعنيه من تعبير وتصوير، قال: هذا أنا. وإذا لم يعثر على شراكة في النص / الصورة أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي!"


في العبارة الدرويشية تلك من ديوانه "حيرة العائد"، كان التعبير الأصدق لشاعرنا في مرآوية النص الشعري، وما لذلك من تحرر مكاني و زماني، دون تمام الانفصال؛ فدرويش القاطن بين الانسان و الشاعر، الذات و الموضوع، النص و المتلقي، الوجه و المرآة، يدستر بالشعر حياة النص ومتلقيه كمشارك فيه أو "شاعره الآخر".

وبين ثلاثية الشاعر / النص/ المتلقي، عوالم، لايتنبأ بها إلا نبي أقرب للشعر منه للنبوة، في زمن طوفان نوح:

"هكذا الشاعر، زلزال.. وإعصار مياه

ورياح، وإن زأر

يهمس الشارع للشارع، قد مرت خطاه

فتطاير يا حجر".

هو ذاك التحرر الشعري، الذي جعل من النص الدرويشي تواطؤًا مع السماء، وكأنه "أتى كنبي من عالم آخر وحلم مختلف.. علامة بعثت من قوي أعلى، حتى هو لم يكن واعيًا بها"..

"فما حيلة الشعراء يا أبتي

غير الذي أورثت أقداري

أن يشرب البؤساء من قدحي

لن يسألوا من أي كرم خمري الجاري".

فبانتفاء السؤال – الجهوي / القيد / النافي- هاهنا، تتحرر الرؤيا من قيد التأويل والجغرافيا، فـ"تتعمد بغيم البحيرة" تحركها "الريح، و الريح حظ المسافر" لتصبح "مجاز سنونوة"، فتصير القافية تحررا من شرطية الحظ / النبوة، الله:

"قصائدنا بلا لون

بلا طعم بلا... بلا صوت!

إذ لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!

وإذا لم يفهم "البسطا" معانيها

فأولى أن نذريها

ونخلد نحن... للصمت!".

أولاً - في التحرر والاتحاد، في "الإثنينية/المزاوجة" الشعرية:

نطأ الجسد الشعري الدرويشي ومرآويته، لتطل علينا "إثنينية" التفاصيل: "لأحمد المنسي بين فراشتين"، "وأحمد، كان اغتراب البحر بين رصاصتين"، "من لغتي ولدت على طريق الهند بين قبيلتين صغيرتين، عليهما قمر الديانات القديمة".. وبعيدا عن الرحلة الصوتية التي تؤمنها تلك الإثنينية، ومحطاتها التوكيدية، فهي تخلق حيزًا من الاتحاد، يبدأ لفظا ويتأكد صوتًا فمعنىً، اتحاد يتشكل في المسافة بين مزاوجة طرفين: نسبي ومطلق، يجمعهما الرسم والإسم.

هو فعل "الإسرار" بين "رصاصة" و"رصاصة"، "فراشة" و"فراشة"، فيتحرر الخطاب الشعري من ثبوتية المعرفة وسطوة الخطاب، إلى فضاء التخييل، فتعود اللغة الشعرية أفلاطونيًّا: "اللغة العليا للعالم".

ولعل تلك "الإثنينية" هي التي حررت الطروادي الدرويشي معرفيا من شفقة الشعر بالشعر، فـ"إحدى مآسي طروادة المرتكمة هي أن أحدا لم يبحث عن الألواح التي دون عليها شاعرها سيرتها، (...) وسوء حظي (في أنني لست طرواديا) هو أنني لو كنت ذلك فسأكون موضوعًا أنثروبولوجيًّا، لا لشيء إلا لأن علماء الإغريق قد ارتاحوا إلى انتصارهم فأحبوا أن يضيفوا مزايا إنسانية على ضحاياهم".

إن حالة الحوار التي تخلقها "الإثنينية / المزاوجة" الدرويشية، تدفع بنا إلى البحث عن البدايات والنهايات معًا، بين أصل وصورة، و الرابط بينهما سردية، هي مزاوجة مرآوية، تخضع لتأويل الرائي، كعالمين بين "ماقبل الطوفان" و"ما بعده"، و الخلق واحد في الحالتين، إلا أن سردية النبي هاهنا تختلف حتما عن سردية الشاعر.

وهنا يتكشف لنا بعد ميتافيزيقي آخر في النص الدرويشي "الإثنيني"، له زمنيته التي تتحرر من سطوة الرمز إلى بساطة الحضور: "رأيت شهيدين يستمعان إلى البحر" ، "أنا آدم الجنتين ، فقدتهما مرتين" - فيتحرر الفقد هاهنا من مناعة السماء و الثيولوجيا -، "أمشي على حافة البئر، لي قمران / واحد في الأعالي وآخر في الماء يسبح (...) لي قمران / واثنين كأسلافهم من صواب".

"الإثنينية / المزاوجة" الشعرية الدرويشية هي  استراتيجية شعرية – من عديد - تقلل ضحايا النيران الصديقة في الشعر، إذ تنطلق من "حاجة الشعراء للغد و الذكريات معًا"، في مواجهة "لا مبرر لها" بين الضمير والجمالية، من دون خيانة المعرفة وتقويض الحواس.. فضاء جمالي حر، أكبر من محسوس / النسبي / المبتدأ، وأكثر صلابة من المتخيل / المطلق / المنتهى، فالهوية في "الإثنينة" الشعرية هي "بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها لا وراثة ماض"، فـينتمي إلى "سؤال الضحية".. فضاء الضروري بين زمنين "إثنين"، لكسر استحواذات الثنائيات الساكنة فينا، كمتلقين للنص الشعري، وبالمنطق الدرويشي "الشعراء التاليين" له.

ثانيًا - الأرض / الإله:

نخرج من النص الدرويشي على رؤوسنا "فتات حلم"، وعلى ملابسنا ولغتنا ذرات من جنة مائية الخلود، فحضور الله في أرضه يتحرر من فرط اللمس موجز الرمز، إلى مجازه الحر، في ملمس الرمز "الكواكب"، "النبع"، "السماء"، "الأرض"، "القمح"، " البئر"، كلٌّ كتب بتكليف من "الغياب"، لاسم الحضور و رسمه.

في الجسد الشعري الدرويشي، توق عذري إلى "البدايات" و"الجذور"، في الأصل "المؤنث" للأرض، وهي ليست وصفّية يتحرك فيها الرمز الشعري أفقيا فقط.. تلك "الجذورية" في الرمز الدرويشي للأرض – لمسًا -، تجعل من النص "سفر تكوين"، عائدا بنا إلى الحرية في طفولتها في مساءلة الأرض / المعنى / الجذر / الله، "لا لشيء سوى لنحترم القيامة بعد هذا الموت".

يدفعنا الانزياح الدرويشي "للبدايات": "أول الأرض"، "أول الحب"، "أول الأغنيات"، "أول السطر"، "أول الدمع"، "الرحلة الأولى للمعنى"، ذلك المعنى الجامع بين فوضى القيامة وشطريّتها، وتراكبية الحياة الانسانية، حتى قبل الاثنينيات المتقابلة:

"لابد من ذاكرة / لننسى ونغفر حين يحل السلام النهائي فيما بيننا وبين الغزالة و الذئب".

أي قبل أن يتسبب بنو بشر، في التفرقة بين الأضداد، فاختل المعنى ، هو المعنى / الله الزمن الشعري الذي يقتبس ديمومته من الزمن الديني، قبل أن تضرب العلاقة العمى والرؤية، الصفر والعدم، زمن ما قبل ميل الأنبياء إلى كفة الصليب بعد حسم الطوفان، والأرض و الإنسان واحدان، وما يحتاجه ذلك من وجود راءٍ أو عالم ٍ أو شاعرٍ، ليحمل كفوفنا الإنسانية حملاً إلى بداية الرؤيا، فنرى إذ يرى ويقول:

"رأيتك أمس في الميناء

مسافرة بلا أهل بلا زاد

رأيتك في حبال الشوك

راعية بلا أغنام

مطاردة في الظلال

فلسطينية العين والوشم

فلسطينية الإسم

فلسطينية الكلمات والصمت".

وبين تذرر الشاعر / الرائي في المنافي وعلى الحواجز – وإن اختلفت لغاتها ولهجاتها – يتحد ويكتمل في السعي لأرض / معنى/ إله - ذلك السعي الشعري كـ"هدهد على فوهة الهاوية"- الذي ينطوي على شكل سردي حكائي، يجعل من المنفى حالة اتحاد مع الوطن – لا اكتمال -، فيظهر البعد الهوياتي للمقاومة كفكرة شعرية، متجوزة، فتنطلق الهوية معبرة عن النسق الهوياتي الفلسطيني والإنساني معًا، لجذر أرضي / معنوي / وإلهي واحد، فـ:

"لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ

وخياليَّةُ الأمكنةْ

بل أقول: الحياة، هنا، ممكنةْ

ومصادفةً، صارت الأرض أرضًا مُقَدَّسَةً

لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها

نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ

بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك

وصلَّى على صخرة فبكتْ

وهوى التلُّ من خشية الله

مُغْمىً عليه

ومصادفةً، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ

متحفًا للهباء"...

و"المصادفة" في الشعر وزن للقافية، فيصبح الطريق للوطن محض قافية شعرية، بدونها لا يزول الحصار:

"سيستمر هذا الحصار

إلى أن نعلم أعداءنا

نماذج من شعرنا الجاهلي".

إن "أنا" الرائي في النص الدرويشي هنا، هي الأنا الهوياتية للأرض، محض اتحاد لغوي / ذكوري في الأنا الشعرية، مع الحكي / الأنثوي في المعنى: الأرض، إذ يقول:

"ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ

إذا التقتِ الاثنتانِ :

أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ".

فيما يتمظهر في فلسطين التي خلقها الشاعر ودلت عليها القوافي بـ"أنا"ه:

"سيل من الأشجار في صدري

أتيت... أتيت

سيروا في شوارع ساعدي ، تصلوا!".

في وصفية هوياتية للأرض /الهوية، اللازمة لتحرر الذات الكولونيالية بين "إتيان" تؤكده الإنثينية، و"وصول"، فتتجاور وتتعالى الأرض / المعنى حينها على كل قوالب التعريف، بما يمكن أن تمثله المعرفة حينها من أداة سلطة:

"أنا الأحياء والمدن القديمة

حاولوا أن تخلعوا أسماءكم تجدوا دمي،

أنا الأحياء والوطن الذي كتبوه في تاريخكم".

لتتحرر الأسطورة، التي تعطي الحسم في علاقة الذوات الكولونيالية، بين "وجود" و"تأويل"، حيث "الوجود" مغلوب ومقتلع بت"التأويل"، فيتمكن الجسد الشعري هاهنا من من عكس حركة التأويل لصالح الوجود، جاعلة من الأرض صورة للمعنى:

"هي الزرقاء والخضراء

تولد من خرافتها

ومن قرباننا في عيد حنطتها

تعلمنا فنون البحث عن أسطورة التكوين،

سيدة على إيوانها المائي".

في تلك الدورانية إثبات واستقراء لعلاقة المحتل بالمحتل: فالاحتلال الذي يضع جوهر الإنسان خارجه، والمقاومة يحاول بها المحتل أن يسترجع جوهرًا منتزعا، بالتأويل، وهو ما يفسر إصرار درويش على أن "شعبًا بلا شعر هو شعب مهزوم"، والفلسطينيون لم يهزموا بعد "ما داموا مقاومين"، فالاحتلال لم ينجح في محو طبيعتنا الإنسانية، ولم يفلح في إخضاع لغتنا ومواطننا إلى ما يريد لها من الجفاف أمام الحاجز.

إن نقل درويش للأرض من حيزها الانفعالي العاطفي للعالم الملموس، لحيز الرمز المجازي الملحمي، التكويني، هو تحرير لقيمة الأرض كـ"ذات" إلى "موضوع" أو كيان أنطولوجي مشبع بالقداسة، تلك القداسة التي يتسع فيها فعل التأويل –شعريًّا – لاستيعاب قوة الحياة البديهية فينا، وذلك في ذاته هو فعل المقاومة الأقوى، لبلد يقسم شاعرنا:

"أنا ما أكون وما سأكون

سأصنع نفسي بنفسي

وأختار منفاي

منفاي خلفية المشهد الملحمي

أدافع عن حاجة الشعراء إلى الغد و الذكريات معًا

وأدافع عن شجر ترتديه الطيور بلادا ومنفىً

وعن قمر لم يزال صالحًا لقصيدة حبٍّ

أدافع عن فكرة كسرتها الهشاشة

وأدافع عن بلد خطفته الأساطير".

التعليقات