"وجوهُ الثّورة" لمحمد أبو النّجا: الهويّةُ حينَ توغلُ في ألمِ وِلادة / د. مليحة مسلماني*

لن ينكر أحدٌ العلاقة العميقة القائمة بين الفنّان والمجتمع، فالفنّان يعتمد على المجتمع، وهو يحصل على نغمته وإيقاعه وقوّته من المجتمع الّذي هو عضوٌ فيه

 

لن ينكر أحدٌ العلاقة العميقة القائمة بين الفنّان والمجتمع، فالفنّان يعتمد على المجتمع، وهو يحصل على نغمته وإيقاعه وقوّته من المجتمع الّذي هو عضوٌ فيه

"هربرت ريد، معنى الفن"

 

غالبًا ما حضرَتْ "مصرُ الهويّة" في أعمال الفنّان المصريّ محمد أبو النّجا، ففي أعماله الكولاجيّة ذات الطّبقات، حاول الفنّان دومًا صياغة هويّةٍ تشكيليّةٍ موازية لـ "المصريّة"، يقابلها أو ينتقدها، أو يحفر فيها ليبحثها ويعرّفها.

عادة ما يقيم أبو النّجا أرضيّة أعماله، قماشَه، من موادّ من أرض مصر، طينها ونخيلها وأرزّها، بمهارةٍ أخضعت التّقنية للهويّة، والعكس أيضًا، وهو ما يناقشه فريد الزّاهي في مقاله عن أبو النّجا "بشرة الذات.. بشرة العالم"، فيقول: "إنّها مادّة بها بعضٌ من ذاكرة الجسد، والكثير من الاحتفاء بحركيّة اليديْن. وفي هذه التّمازجات تتجسّد تلك البشرة الّتي ينحتها الفنّان التّقنيّ (هذه المرّة) من صلب اليوميّ، ويحوّلها بفعلٍ خلّاقٍ إلى صفحةٍ لا تنتظر سوى الانطباعات الممكنة لجسد العالم عليها".

كثيرًا ما تداخلت النّصوص العربيّة أيضًا مع تكوينات أبي النّجا، معزّزًا هويّة أعماله، كعربيّ مصريّ، يقتطع الفنّان جملًا وكلماتٍ من الشّارع المصريّ، أو نصوصًا عربيّةً كلاسيكيّةً تحيل إلى الثّقافة الدّينيّة والشّعبيّة في المجتمع المصريّ.

في عمله الأخير "الأسد"، تداخلت اللّغة والخطوط العربيّة مع عمله الترّكيبيّ المكوّن من الفيديو والصّور الفوتوغرافيّة، حيث دُوّنت على جدران المعرض 325 اسمًا عربيًّا للأسد، كُتبت بالخطوط العربيّة.

"وجوه الثّورة": تتميّز عن أعمال أبو النّجا السّابقة في توجهها نحو البورتريه المختلف

"وجوه الثّورة"، هي آخر أعمال أبو النّجا، وهي مجموعةٌ من لوحات "البورتريه"، تُعرض في الخامس من آذار \ مارس القادم، وجنبًا إلى جنبٍ مع أعمال أخرى من وحي الشّارع المصريّ وثورته، في جاليري دار الفنون في الكويت، ولمدّة عشرة أيام.

يسلّط هذا المقال الضّوء على مجموعة "وجوه الثّورة"، كونها تتميّز عن أعمال أبو النّجا السّابقة في توجّهها نحو البورتريه، وأيضًا نحو البورتريه المختلف، "الثّوريّ"، الّذي يختزل معانٍ ودلالاتٍ جديدةً، وهي أيضًا ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بمصر الآن وبثورتها.

يختصر أبو النّجا الأدوات في مجموعته تلك، فلا كثيرٌ من الطّبقات اللّونيّة ولا نصوصَ، ولا نعثر على ازدحامٍ في التّكوينات. يختزل أبو النّجا الأداةَ للفكرة الّتي يبدو جليًّا أنّ الفنّان قد امتلأ بها ففاضت أعمالًا موغلةً في التّحديق في الذاتِ الثّوريّة. ينعم الفنّان في وجه المصريّ الثّائر،  يختصر أدواته وألوانه ليشكّل الوجوه المنتظِرة، للموت، بل الذّاهبة إليه بمحضِ إرادتها وبإصرارٍ عنيد.

لا شكّ أنّ ثورة 25 يناير لا تغيّر في تاريخ مصر والمنطقة، أو على الصّعيد السّياسيّ، فحسب، بل هي إعلانٌ عن ولادة الشّخصيّة المصريّة الجديدة، الّتي امتلأت صمتًا على مدار عقود، وانحنت أكتافها من الحُمول، ولكنّها في هذا التّاريخ تصرخ رافضةً الاستمرار في تحمّل ما لا يُحتمل، ومعلنةً المواصلة في نهجٍ جديدٍ في الحياةِ والتّفكير.

يكفي التّجوال قليلًا من الوقت في شوارع مصر، وقراءة ما رسم وما كتب الشّباب الثّائر على جدران الشوارع، لندرك هذا التّحوّل الكبير في الفكر والشّخصيّة المصريّتيْن.

يوثّق تشكيليًّا لحظةَ الولادة التّاريخيّة.. وتشكُّلَ الملامحِ المصريّةِ الجديدة

يسجّل أبو النّجا لهذا التحوّل، يوثّق تشكيليًّا لحظةَ الولادة التّاريخيّة تلك، وتشكُّلَ الملامحِ المصريةِ الجديدة. ونحن إذ نقول "يوثّق"، فإنّ هذا لا ينتقص من إبداع الفنّان بل يعليه، فمهمّة الفنّ تبقى مواكبة الحدث وتحوّلات التّاريخ والتّأثّر بها والتّأثير عليها؛ وأيضًا فإنّ معنى "التّوثيق" التّشكيليّ، يتضمّن بالضّرورة معالجةً إبداعيّةً من الفنّان لهذا التّحوّل، وهو ما يقدّمه أبو النّجا في تلك البورتريهات، وهو رؤيته لوجوه الثّورة.

وجوه الثّورة في أعمال أبو النّجا مغطّاةٌ رؤوسها بقبّعات، أو تُخفي وجوهها بلثامٍ لا يُظهر سوى العينيْن، أو تحتمي أحيانًا بما يشبه حجابًا يغطّي جانبيّ الوجه، يبدو واحدًا منها في إحدى اللّوحات أزرقَ مخطّطًا، كذلك الّذي يميّز الزّيّ المصريّ القديم.

لا يحيلُ اللّثام الّذي يكمّم الأفواه في "وجوه الثّورة" إلى سياقٍ من القهر والاضطّهاد، فتلك الوجوه في حالة ثورةٍ على الاضطّهاد، وهي كسرت أصلًا حاجز الخوف وتخطّت حالة الخنوع، ولثامها وغطاء وجوهها دلالةٌ على السّرّيّة الّتي تميّز العمل الثّوريّ، فالملثّم في الثّقافة العربيّة، هو المجاهد والمناضل الّذي يخرج لملاقاة العدوّ، يغطّى وجهه منعًا من أن يُعرف، وقد شاعت ظاهرة التّلثّم في التّاريخ العربيّ الحديث خلال الانتفاضتيْن الفلسطيّنيتيْن، حيث كانت قوّات الاحتلال تقوم بتصوير المتظاهرين، ثمّ تقوم بالتّعرّف إليهم والبحث عنهم واعتقالهم أو اغتيالهم. وترسّخت صورة الملثّم الفلسطينيّ في الثّقافة العربيّة، مردافًا للثّوريّ والمناضل الّذي قد يكون شهيدًا عمّا قريب.

ما يؤكّد على تلك الصّورة للملثّم الفلسطينيّ في الثّقافة العربيّة هو انعكاسها في أعمال أبو النّجا ذاته، حيث يظهر اللّثام في بعض اللّوحات مخطّطًا بشكلٍ كاملٍ أو جزئيّ، وهو ما يذكّرنا بخطوط الكوفيّة الفلسطينيّة الّتي يتلثّم بها الفلسطينيّ، لكن أبو النّجا يشير إلى هويّة الملثّم المصريّة بشكلٍ واضحٍ، فعدا عن السّياق الزّمنيّ الّذي يحيل إلى مصر وثورتها، يظهر غطاء الرّأس في إحدى اللّوحات متّصلًا بشريطٍ أزرقَ مخطّطٍ يشبه غطاء الرّأس لدى المصريين القدماء.

بالإضافة إلى السّرّية التي يشير إليها اللّثام والغطاء، هناك دلالةٌ أخرى وهي الضّرورة، حيث يلجأ المتظاهر المصريّ إلى تغطية ما يستطيع من رأسه ووجهه وعينيه كضرورةٍ لحمايته ما أمكن من الطّلقات والغاز.

يأخذ لون بشرة "وجوه الثّورة" في أعمال أبو النّجا درجات البنيّ، لون التّراب، في دلالةٍ على ارتباط المقاوم بالأرض الّتي يقدّم لها دماءه قربانًا لتتحرّر وتُزهر وتزدهر بين الأمم. يتداخل الأحمر الدّمويّ مع البورتريه في بعض اللّوحات، أو الأصفر الّذي يشبه اليود الطّبيّ الّذي تُداوى به الجراح، فهي وجوهٌ مُصابةٌ، تتواجد في حيّز دفاعٍ وهجوم، في معركةٍ دمويّة.

عيون وجوه الثّورة

تظهر عيون وجوه الثّورة مغطّاةً بشاشٍ طبيّ، أو بنظّارةٍ شمسيّةٍ ومن فوق إحدى عدستيْها شاشٌ طبّيّ. العيون في البورتريهات تبدو كأنّه أَريدَ لها أن تكون هي بؤرة اللّوحة وموضوعها، أحيانًا تتخفّى من وراء نطارة شمس، وأحيانًا أخرى موغلةً في العمق حدّ الحياد والموت.

تبدو العيون المكشوفة في بعض الأعمال مرسومةً بطريقةٍ تشبه العيون في الفنّ القبطيّ، ما يؤكّد مصريّةَ وجوهِ الثّورة في أعمال أبو النّجا، ويضفي أيضًا هالةً من القداسة عليها.

 

ومن الجدير التّوقّف عند تلك المسألة، وهي العيون واستهدافها في أحداث الثّورة المصريّة، وهو ما أعاد إلى الأذهان مقطعًا محدّدًا من قصيدة "لا تصالح" للشاعر أمل دنقل:

مثلما ألهمَ بيتُ الشّعر الخالد لأبي القاسم الشّابي، "إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر"، ثورةَ تونس وما تلاها من ثوراتٍ عربيّة، حضرَ وبشكلٍ قويٍّ أيضًا أمل دنقل لتنبعثَ قصيدته "لا تصالح" في سياقٍ زمنيٍّ وتاريخيٍّ آخرَ غيرَ الّذي كُتبت فيه القصيدة، منتقدًا فيها دنقل الصّلحَ مع العدوّ الاسرائيليّ وناهيًا عنه بحسم. يفتّش الشّباب العربيّ الثّائر في مقاطعِ القصيدة ويتناقلها على المواقع الاجتماعيّة على الإنترنت، بل ويدوّنها على جدرانِ الشّوارعِ الثّائرة.

في مصر، تصبح "لا تصالح" شعارًا من شعارات الثّورة، ولم يكن دنقل يدري بالتّأكيد أنّ مقطعًا منها بالذّات سيتداوله الشّباب المصريّ في زمنٍ آخر وعلى جبهةٍ أخرى، شبابٌ فقدوا أعينهم حقًّا خلال التّظاهرات، أو مهدَّدين بفقدها:

أترى حين أفقأُ عينيْكَ
ثم أثبّتُ جوهرتيْن مكانهما
هل ترى؟
هي أشياءٌ لا تُشترى


لم يكن استهداف عيون الشّباب الثّائر في مصر أقلّ إيلامًا من القتل، بل رأى فيه الشّباب رسالةَ إرهابٍ قاسيةٍ ومُتعَمَّدةٍ من أنظمةِ الطّغيان، تستهدفُ التّراجعَ عن الخروجِ للتّظاهر، بالتّهديد بالحبيبتيْن، العينيْن، لتعطي هذه الرّسائل نتائجَ عكس ما يرغب النّظام، ثورةٌ تجدّدُ نفسها وغضبٌ يشتعلُ ويتراكم، فانطلق الشبّانُ يبحثون عن أشعارِ دنقل، يتناقلون المقطعَ السّابق بالتّحديد، يسجّلون مفارقات التّاريخ، يتساءلون عمّا إذا كان دنقل قد كتبهم حقًّا من قبل أن يولدوا وتُبصر أعينهم، يتركونَ التّساؤل، يواصلون، لا يصالحون ولا يتراجعون عن الخطّ الّذي رسمته الشّرارةُ الأولى للثّورة، وهو العيشُ بكرامةٍ وحرّيّة. 

إنّ العينين تسمّيان حقًّا في اللّغة العربيّة "حبيبتيْن"، كما وردَ في حديثٍ قدسيٍّ يُظهر قيمتهما عند الله والإنسان وعلوّ مكانةِ وأجْرِ من صبرَ على فقدهما، يقول الحديثُ القدسيّ: "إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيْه (يريد عينيْه) ثمّ صبرَ عوّضتهُ منهما الجنّة".

وجوهُ الثّورةِ مستبشرةٌ وإن بدا عليها التّعب، واضحةٌ كشمسٍ وإن تخفّتْ وتلثّمت، مُبصرةٌ تتوّجها البصيرةُ وإن فقدت أعينَها، صابرةٌ وإن غضِبت، مثابرةٌ على الدّربِ مواصلة، محدّقةٌ في النّصر، تراه صبرَ ساعة، وفي عينِ القنّاصِ تضعُ جمراتِ غضبها، فتهزمهُ وما فعل، وتركلُهُ وبندقيّتَه، مردّدةً حناجرُها: هي أشياءُ لا تُشترى. هكذا يشكّلُ الفنّان محمد أبو النّجا وجوهَ الثّورة، موغلًا في ألمِ فتًى فقدَ إحدى عينيه، أو كليْهما، مثل المصريّ أحمد حرارة الّذي فقد كلتا عينيه، الأولى في يوم الغضب 28 يناير 2011، والثّانية بعد حوالي عامٍ من هذا التّاريخ خلالَ الأحداث الأخيرة في القاهرة.

وجه "أحمد العربيّ"

يستغرق أبو النّجا في قلبِ أحمدَ وإخوتَه، ليبرزَ لنا تشكيليًّا وجهَ "أحمد العربيّ"، ليطلّ علينا أحمد من قصيدة محمود درويش في لوحاتٍ حيّة، تقول بحقّ، وبلونٍ وصورة، وبعلوّ صوت ما كتبه درويش في رائعته "أحمد الزّعتر" المشهورة بـ "أحمد العربيّ":

لم تأتِ أُغنيتي لترسمَ أحمدَ المحروقَ بالأزرق
هو أحمدُ الكَوَنيُّ في هذا الصّفيحِ الضّيِّق
المتمزِّق الحالمْ
وهو الرّصاصُ البرتقاليُّ.. البنفسجةُ الرّصاصيّة
وهو اندلاعُ ظهيرةٍ حاسمْ
في يومِ حريّة
يا أيّها الولدُ المكرَّسُ للنّدى
قاوِمْ
يا أيّها البلد – المسَدَّس في دمي
قاوِمْ
الآن أكملُ فيكَ أُغْنيتِي
وأذهب في حصاركْ
والآن أكملُ فيك أسئلتي
وأُولدُ من غبارك
فاذهبْ إلى قلبي تجدْ شعبي
شعوبًا في انفجارك  

 

 

د. مليحة مسلماني: أديبة وباحثة فلسطينيّة تقيم في القاهرة، حاصلة على درجة الدّكتوراه في العلوم السّياسية وكان موضوع رسالتها "تمثّلات الهويّة في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر في المناطق المحتلّة عام 1948". لها أعمال أدبيّة منشورة، بالإضافة إلى أبحاث ومقالات في الفنّ والثّقافة والسّياسة. 

 

التعليقات