أليس مونرو: سيدة القصة القصيرة../ د. سميح مسعود

استحقت مونرو بجدارة الفوز بأهم جائزة عالمية، لأنها " أستاذة القصة القصيرة المعاصرة " حسب ما أعلنته الأكاديمية الملكية السويدية التي منحتها الجائزة، ولأنها أيضا حسب نفس الأكاديمية "أفضل من كتب القصة القصيرة في العصر الحديث

أليس مونرو: سيدة القصة القصيرة../ د. سميح مسعود

القاصة الكندية أليس مونرو، إسم جديد أضيف مؤخرا إلى نادي الحائزين على جائزة نوبل للأداب، وانضم إلى لائحة النخبة من كبار الأدباء والشعراء أصحاب الملكات الأدبية الرفيعة، الذين بلغوا الذرى في مجال أعمالهم الإبداعية وفنونهم الأصيلة.

فوزها بالجائزة لعام 2013 وهي في الثانية والثمانين من عمرها، يأخذ طابعًا خاصاً، لأنها أول مواطنة كندية تفوز بهذه الجائزة القيمة مادياً ومعنوياً، والمرأة الثالثة عشرة التي تسجل اسمها في سجلها منذ استحداثها في عام 1901، كما أنها هي المرة الاولى منذ 112 عاما التي تمنح فيها الأكاديمية الملكية السويدية كاتباً تقتصر أعماله على القصة القصيرة، في زمن تحتل فيه الرواية مكانة عالية في الساحة الأدبية العالمية.
هكذا توجت مسيرتها الأدبية المميزة، و انضمت إلى أهم نساء العالم من الحائزات على جائزة نوبل للأداب، ممن تفتخر بهن الإنسانية جمعاء، اللاتي فتحن الطريق أمامها إلى أقصى أطراف المجد: سلمى ليجرلوف ( أول امرأة فازت بجائزة نوبل للأداب في عام 1909) غراتسيا ديليدا، سيجريد أوندست، بيرل بوك، غبريالا ميسترال، نيلي زاكس، نادين جورديمر، توني موريسون، فيسلافا شيمبورسكا، ألفريدي يلينيك، دوريس ليسينغ، هيرتا مولر.

استحقت مونرو بجدارة الفوز بأهم جائزة عالمية، لأنها " أستاذة القصة القصيرة المعاصرة " حسب ما أعلنته الأكاديمية الملكية السويدية التي منحتها الجائزة، ولأنها أيضا حسب نفس الأكاديمية "أفضل من كتب القصة القصيرة في العصر الحديث... تتميز بمهارة في صياغة أفكار قصصها، وآفاقها بأسلوب واضح دون افتعال وواقعية نفسية... غالباً ما يوجد في نصوصها وصفاً متداخلاً لأحداث يومية لكنها حاسمة تضيء على إطار القصة وتبرز القضايا الوجودية بشفافية ورؤى واضحة"، ولأنها حسب ما يردده النقاد عنها "تحمل أعمالها كماً من المعاني الإنسانية الصافية ذات الصلة الوثيقة بحب الناس البسطاء واحترامهم ومحاولة فهمهم"، وإحساسها هذا بالناس، وعلى وجه الخصوص بالنساء من حولها، ساعد على تقريب قصصها القصيرة من قلوب القراء وأحاسيسهم العميقة، وجعل نصوصها جلية واضحة أمام أعينهم، مما ممكنهم من تذوق نصوصها بحماس زائد، وبالتالي تقييمها على أسس سليمة.

تفتحت عينا أليس مونرو على الحياة بنفس مشرقة مع الكتابة، لم تكن علاقتها بالأدب منذ حداثتها عن طريق القراءة والكتابة فحسب، بل كانت إحساساً عميقاً مسيطراً على تصرفاتها وسلوكها ومعاملاتها مع الناس من حولها، وفي مثل هذه الأجواءالمشحونة بالإثارة الدائمة، استطاعت أن تصل إلى مستوى كبير رائع في عالم الأدب، وتمكنت خلال نحو نصف قرن من إنجازسلسلة مجموعات قصصية ذات قيمة إبداعية متميزة بجاذبية ساحرة وحس مرهف رقيق.

يتضح من أعمالها أن نصوصها تقوم على عملية بنائية مركبة تجمع في قالب ملموس ما بين تدوين تصورات متخيلة غير مرئية في نطاق ضيق محدود، وإعادة خلق مشاهد الواقع بأبعاد معنوية ومادية للمكان بجمالية فائقة، يتجسد فيها المكان بمفهومه الواقعي المادي، في إطار شبكة خطوط متوهجة لحركية الحياة البسيطة في الريف الكندي، مفعمة بدفقات مدلولات زاخرة بأحداث البيئة الريفية المحافظة في منطقة أونتاريو التي عاشت فيها مونرو طفولتها المبكرة، وبنسيج الحياة الإنسانية وانفعالات الإنسان الداخلية (النساء غالباً)، وعلاقته بالأشياء والفضاء المحيط، بدرجة عالية من التماهي بين الكائن والمكان.

تمدد فضاء القصة القصيرة مبكرا على أوراق أليس مونرو، استوعبت القصة القصيرة كل اهتماماتها، حاصرتها بوطأتها وثقلها، وتمكنت في مستهل حياتها من ممارسة الكتابة النوعية المبدعة، بقدرة إغوائية عالية لجذب المتلقي القارئ، الباحث عن القصص المتميزة من حيث الشكل والمضمون، على الصعيدين الجمالي والبناء السردي، وهكذا تواصلت إبداعاتها الأدبية المميزة في سلسلة طويلة من المجموعات القصصية، تمكنت بها من احتلال مكانة متألقة بين كتاب القصة في بلدها كندا وعلى مستوى العالم أجمع.

صدر لها حتى الان أربع عشرة مجموعة قصصية محملة بأفكار ورؤى عديدة مستمدة من البيئة الريفية المحلية والثقافة الجماعية، نُسجت على منوال محكم الأوصال بمشاعر وأحاسيس إنسانية مباشرة، وصياغة لفظية منمقة دون تكلف، تتعادل فيها الجوانب الموضوعية والوجدانية، ويتسع محيط دوائر أحداثها التي يتحرك فيها أبطالها وشخوصها في مسارات متشعبة واضحة المعالم، وضمن تفاعلات وجدانية متلاحقة تكمل بعضها بعضاً.

من أهم مجموعاتها القصصية : "رقصة الظلال السعيدة" و "أسرار مكشوفة" و "الهروب" وهي أشهر مجموعاتها، ومن أعمالها المتميزة أيضاً: "سعادة زائدة" و"المشهد من كاسل روك" و"حب إمرأة طيبة" و "من تظن نفسك" و "أقمار المشتري" و "عزيزتي الحياة" و "صديق شبابي" و "بعيداً من هنا". وقد ظهرت أعمالها كلها باللغة الإنجليزية ضمن روائع الأدب العالمي، وترجمت إلى أربع عشرة لغة أجنبية، ولم يتم حتى كتابة هذه السطور ترجمة أي عمل لها إلى اللغة العربية.

نجحت مبكراً وهي في بداية مسيرتها من لفت أنظار النقاد إلى قدراتها الفنية وإمكاناتها الإبداعية عندما ظهرت قصتها الأولى "رقصة الظلال السعيدة" في عام 1950، وكانت وقتذاك طالبة في جامعة غربي أونتاريو، تعمل في وقت فراغها "كنادلة" وموظفة صغيرة في مكتبة، وهذه القصة كانت عنوان مجموعتها القصصية الأولى ألتي صدرت في العام 1968 وهي في السابعة والثلاثين، وقد انشغل النقاد بها كثيراً كإنجاز أدبي متميز، وحظيت بنصيب وافر من التقدير أهلها للحصول على "جائزة الحاكم العام" التي تعتبر أرقى جائزة أدبية في كندا، وقد فازت بهذه الجائزة عبر مسيرتها الأدبية مرتين ايضا بعد فوزها الأول، كما فازت ايضاً بجائزة غيلر المرموقة، وجائزة الكومنولث.

ومع تواصل إنجازاتها الأدبية عبر مسيرتها الطويلة، بدفقات دفعتها دوما إلى الأمام، زاد حضورها الفعلي بين الأدباء المعاصرين، وزاد اهتمام النقاد بخبايا قصصها القصيرة، وتمكنت بفضل حسن تقييمهم لها، أن تحصد على مر السنين مجموعة كبيرة من الجوائز الكندية والبريطانية والدولية المهمة عن معظم مؤلفاتها بلغ عددها سبع عشرة جائزة، منها جائزة "مان بوكر" الدولية في عام 2009، التي أعطيت لها عن كامل أعمالها الإبداعية، وقد مكنتها هذه الجوائز من الحصول على المكان اللائق بها بين مجايليها من الأدباء على مستوى العالم أجمع.

هذا هو الذي يجعل أليس مونرو الأعمق أثراً في مجال القصة القصيرة، تتفوق في نتاجاتها الإبداعية على أسماء أدبية لامعة كثيرة في كندا والعالم، وترتفع الى القمة في نيلها جائزة نوبل، ويكفيها فخراً أن النقاد يشبهوها بالقاص الروسي الكبير انطون تشيكوف، لقدرتها مثله على الغوص في عمق تفاصيل الحياة الإنسانية بدقة وبصيرة ثاقبة، ولقدرتها مثله على التجول في رحاب الفضاءات الرحبة المحيطة بحثاً عن المعاني الإنسانية، فقد تعودت على التجول في مساحة واسعة شاسعة من فضاءات منطقة هورون الواقعة في شمال غربي مقاطعة أونتاريو حيث مسقط رأسها، تقبل فيها بنفسية متفتحة حية على كتابة نصوص قصصها القصيرة، تدمج مكونات الحياة الريفية الواقعية على أوراق صغيرة محدودة، تختزل فيها حمولة مجموعة كبيرة من المعاني والافكار والصور المليئة بالحرارة والصدق عن الحياة والناس، تدمجها معا بأسلوبها الأنيق، وتخلق منها قصة قصيرة بتفاصيل وجزيئات متناغمة.

ولا غرو أن كتابة القصة القصيرة من فنون الكتابة الإبداعية الصعبة، من حيث الشكل والمضمون، لأسباب كثيرة أجملها بمحدودية رحابة وعمق المساحة المحددة للنص، واتباع التعبيرالسريع في البناء السردي، وبدء السرد من بؤر مفصلية في وسط الأحداث بكل ما فيها من دلالات وإيحاءات ومعاني في سياق لغوي موجز.

وجدت "مونرو" القصة القصيرة في كل شيء حولها، عبرت في قصصها عن نفسية متفتحة حية تعشق الحياة، وتقبل عليها بحرارة وبساطة صادقة، ظلت طيلة عمرها تخوض غمار الكتابة في حماس زائد، ببحث دائب عن خبايا أعماق النفس البشرية، لمعرفة ما يستقر داخلها من أحاسيس عميقة، تنقل بملء الصفاء ماتجده فيها إلى قرائها تفسح المجال لهم للإمساك بخيط سحري رفيع يجعل قلوبهم مليئة بتأملات تنبض بأحلام كبيرة.

التعليقات