"السينما" في خدمة الدعاية الإسرائيلية / سماح بصول

موّل الجيش الإسرائيلي أكثر من فيلم تناول إحدى الحروب التي خاضها، على الرغم من أنها أفلام تتضمن انتقادًا للجيش وقياداته، إلى حد "جلد الذات" أحيانًا، لكن هذا يعتبر وسيلة ذكية لإظهار موضوعية الجيش.

من فيلم "روك في القصبة" (2013)

موّل الجيش الإسرائيلي أكثر من فيلم تناول إحدى الحروب التي خاضها، على الرغم من أنها أفلام تتضمن انتقادًا للجيش وقياداته، إلى حد "جلد الذات" أحيانًا، لكن هذا يعتبر وسيلة ذكية لإظهار موضوعية الجيش.

شهد التاريخ استخدام الأنظمة السياسية للسينما وسيلةً ترويجية، فالنظامان الفاشي في إيطاليا والنازي في ألمانيا استخدما السينما وسيلةً للتأثير على عقول الناس، وذلك عن طريق إنتاج أفلام دعائية تخدم مصالحهما. كانت السينما، رغم عدم تطورها آنذاك كما هو الحال اليوم، وسيلة ومنفذًا لبث الأجندات السياسية بصورة سلسة، وقد قدمت الدعاية في تلك الحقبة على شكل أفلام رسوم متحركة أو  قصص واقعية تصوّر هذه الأنظمة وسيادتها على أنها الملاذ الوحيد للشعب، وتُجيّرُ الحروب لتتحول من جرائم إلى طوق نجاة ودفاع عن الوطن والذات. في إسرائيل، ومنذ قيام الدولة، اعتُمِدَتْ السينما وسيلةً لرفع المعنويات في صفوف الشعب، والتأكيد على حلم الدولة والاستقلال بكل ما يتضمنه من استصلاح للأراضي، وبناء المدن، وإنشاء الحياة الثقافية، وتصوير البلاد كأنها تخلو من سكانها العرب وتنتظر الخلاص.

أنسنة الجندي الإسرائيلي

برز جانر "أفلام الحرب" بشكل كبير في السينما الإسرائيلية، فموضوع الخدمة العسكرية يشكل محورًا مركزيًّا في حياة الإسرائيليين، إذ لا تكاد تنتهي حرب حتى تخوض إسرائيل حربًا أخرى. نلمس في هذه الأفلام محاولات لغرس أهمية الحرب في عقلية المشاهد الإسرائيلي ومكانتها في تحديد مصير مئات آلاف اليهود، وهناك محاولات مستميتة لتصوير "إنسانية" الجندي الإسرائيلي مقابل "وحشية" أعدائه الذين يدفعونه "مرغمًا" لقتلهم!

موّل الجيش الإسرائيلي أكثر من فيلم تناول إحدى الحروب التي خاضها، رغم أنها أفلام تتضمن انتقادًا للجيش وقياداته إلى حد "جلد الذات"، لكن هذا يعتبر وسيلة ذكية لإظهار موضوعية الجيش وسماحه لصنّاع السينما بالانتقاد، بالإضافة إلى كونها وسيلة إقناع للناس بأن تقديم أولادهم ضحايا يُعتبرُ معضلة إنسانية - قومية لدى قيادات الجيش، لكنه حتمي لاستمرار بقاء الدولة.

نعرض في هذا المقال نموذجًا يضم ثلاثة أفلام أُنْتِجَتْ في سنوات مختلفة، أهمها أحدث الأفلام في هذا السياق "روك في القصبة" (2013)، وفيلمان آخران من سنوات سابقة، تدور أحداثها خلال حرب أو حادثة مهمة، وتعكس وجهات نظر تتفاوت بين ما يسمى أفلام حرب وأفلامًا مناهضة للحرب، لكنها تقع جميعًا في خانة أنسنة الجندي الإسرائيلي عن طريق التركيز عليه فردًا ضمن مجموعة، له كيانه ومشاعره وآراؤه التي يضعها جانبًا من أجل هدف "سامٍ"، وهو أمن الدولة ومواطنيها.

شاركت الأفلام الثلاثة في مهرجانات عالمية مهمة وحازت على جوائز، وبهذا ضمن صنّاع السينما الإسرائيلية وصول قصصهم إلى العالم الغربي، طارحين وجهات نظر مختلفة حول خوض الحروب ونتائجها، مع حرصهم على إثارة المشاعر من خلال الصوت والصورة المعززة بحوارات عاطفية فيها حنين للبيت، والعائلة، والحبيبة.

روك في القصبة (2013)؛ إخراج ياريف هوروفيتش

حاز فيلم "روك في القصبة" على جائزة أفضل فيلم أجنبي في "مهرجان برلين السينمائي" 2013، وهو يتحدث عن فترة الانتفاضة الأولى، حيث تتعرض مجموعة الجنود "لاعتداء" على يد مجموعة من الشباب الفلسطينيين، يُقْتَلُ خلاله أحد الجنود إثر سقوط غسالة على رأسه من سطح أحد البيوت. يرى أحد الجنود وجه الشاب الفلسطيني الذي رمى الغسالة، فيُخْتارُ ليشارك مجموعة جنود اعتلاء سطح أحد البيوت ومراقبة الحي بحثًا عن الفلسطيني المطلوب.

منذ بدايته، يدفع الفيلم مشاهديه للتفكير باتجاه معين، فنرى في الدقائق الأولى حافلة تحمل لافتة كتب عليها "أولاد"، ليتضح لنا فيما بعد أنها تقل جنودًا؛ من الواضح أن لاختيار افتتاحية كهذه هدفًا في التأثير على المشاهد وإقناعه بأن هؤلاء الجنود "أولاد" و "مساكين" تزج بهم القيادات السياسية حيثما تشاء، لكنهم في الواقع بشر، ذوو مشاعر ولديهم عائلات تحبهم ويحبونها، ولديهم أحلام ورغبات كما نحن جميعًا.

يغالي الفيلم في محاولته "أنسنة" الجندي الإسرائيلي، الذي يدخل البيت الفلسطيني ويطلب الإذن لاعتلاء السطح، الجندي الذي يلقي التحية ويداعب الأطفال، ويترك نقودًا على طاولة العائلة الفلسطينية الفقيرة... هذا الجندي نفسه "يُضْطَّرُّ" للتصرف بفظاظة عندما يقابله الجانب الفلسطيني بفظاظة! هو "مُضطَّرٌّ" للتصرف بهذه الطريقة وليس الأمر اختياريًّا (مثلًا في مشهد الدخول عنوة إلى المنزل الفلسطيني، أو التبول على سطح المنزل)، وهو الجندي ذاته الذي يقتاد شابًّا مطلوبًا إلى أحد السجون و"يرجوه" أن يتحدث العبرية لينقذ نفسه من التعذيب!

يركز الفيلم بصورة كبيرة على الأوقات التي يقضيها الجنود فوق سطح المنزل الفلسطيني، ويحاول أن يظهر لنا الإنسان الموجود داخل الزي العسكري، فالأحاديث التي تدور بين الجنود حول الحب، والأحلام، والعودة إلى البيت، ورغبتهم في الاستماع إلى الموسيقى، والرقص، وعدم مقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم أمام طفل فلسطيني يبلغ الخامسة من عمره -على الأكثر- عندما يحمل الأخير قنبلة يدوية أخذها من حقيبة أحد الجنود، ويلعب بها لعبة "اليدين للأعلى"... في هذا المقطع يُظْهِرُ لنا مخرج الفيلم الطفل الفلسطيني المشاكس يهدد مجموعة جنود بقنبلة يدوية، وهم يقفون مرفوعي الأيدي دون أن يقوى أحد منهم على رمي الطفل برصاصة! ويُخْتَتَمُ المشهد برمي الطفل القنبلةَ في حضن أحد الجنود بعد أن يصرخ "الله اكبر"، ليعلن بذلك عن ولادة "مخرب جديد"!

بالطبع، لا يتخلى الفيلم عن إظهار الفلسطيني بصورة المتخلف، الفظ، الفقير، التعيس، القذر، الذي يتسبب بعدم الراحة وانعدام الأمن للمواطن الإسرائيلي... الفلسطيني صاحب الضحكة التائهة والأسنان الصفراء التالفة، الفلسطيني الذي يجلس في بيته أو أمام دكان أو مقهى في الحي، يدخن السجائر ويلعب الورق... فلسطيني غير منتج وعاطل عن العمل... فلسطيني يعتلي الجنود سطح منزله فلا يلبث أن يقابلهم بالرجاء المذل، بخنوع وخضوع من لا يقوى على المواجهة.

في الفيلم مشاهد عديدة ترتكز على الجندي الإنسان، الشاب الذي يحب الحياة ولا يسعى نحو الموت؛ مقابله نرى الفلسطيني الذي يستفز الجندي ويدفعه للرد بعنف.

من قال إننا مستمتعون بتواجدنا هنا؟ هذه هي الرسالة التي يحاول الفيلم إيصالها عندما يصور لنا الجنود وقادتهم يحاولون الهروب من الواقع وخلع ثوب العسكر وممارسة الحياة الطبيعية، في الوقت الذي تُهَمَّشُ فيه حقيقة كونهم يفرضون حياة غير طبيعية، وغير منصفة، وغير إنسانية بفعلهم الاحتلالي، والذي يظهر في الفيلم على أنه "حالة" مفروضة من أجل الأمن والأمان، أو "حالة" عينية ومؤقتة تظهرها قصة ومشاهد تُقْصي بعيدًا حقيقة الاحتلال وبشاعته.

فالس مع بشير ( 2009)؛ إخراج آري فولمان

فيلم مميز كونه يجمع بين الدوكو - دراما (الوثائقي - الدرامي) والرسوم المتحركة، ويبدو أن اختيار تقنية الرسوم جاءت لتخفف من حدة الشهادات والاعترافات التي تدلي بها بعض الشخصيات خلال الفيلم، أو لإعطاء مساحة حرية أكبر للمخرج كي ينشر تفاصيل لا يمكنه نشرها بوجود ممثلين عاديين.

"فالس مع بشير" فيلم يبحث فيه المخرج عن إجابات لأسئلة راودته خلال مشاركته وبعدها جنديًّا في حرب لبنان الأولى، وقد استغرق العمل إلى أن أنجز أربع سنوات، ووصفه المخرج بأنه "فيلم مناهض للحرب"، وتمنى في إحدى المقابلات معه أن يراه الشباب الإسرائيلي فلا  يتمنون أن يصبحوا جنودًا كهؤلاء المشاركين في الفيلم. لكن، رغم تصريحات المخرج، إلا أن الفيلم لا يخلو من محاولات إظهار الجندي إنسانًا زجت به الظروف إلى مكان قاسٍ مرغمًا، وهو يتصرف بناءً على إنسانيته أو على تعليمات من قيادات عليا ليس بمقدوره رفضها أو تغييرها، لذا فهو مُسَيَّرٌ لا مُخَيَّرٌ في هذه الحرب.

محور الفيلم بالنسبة لنا، نحن المشاهدين الفلسطينيين، وصف الجنود والقيادات العسكرية والسياسية المشاركة في الفيلم لأحداث مجزرة صبرا وشاتيلا، وتصوير الجيش الإسرائيلي على أنه لا ناقة له ولا جمل في هذه المجزرة، فنسمع في الشهادات – وهي مركزية جدًّا في الفيلم – تكرارًا لكلمات مثل: "سمعنا"، و"قيل لنا"، و"يقولون إن"، و"هناك من رأى"...

يتضمن الفيلم عددًا لا نهائيًّا من التصريحات التي تهدف إلى تصوير الجيش الإسرائيلي جيشًا أخلاقيًّا، فالفيلم الذي يتطرق إلى ما بعد حرب لبنان الأولى، يصور لنا البطل (آري) وما حمله من ذكريات وتجارب قاسية خلال هذه الحرب، وسعيه لإيجاد إجابات على أسئلته، وفحصه مدى ضلوع الجيش الذي خدم بصفوفه في مجزرة صبرا وشاتيلا، وكل الممارسات الوحشية التي تعرض لها سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان؛ أما الشهادات التي نسمعها من شخصيات عسكرية وسياسية، فتتمحور حول تبرئة الذات من المسؤولية عن مجزرة صبرا وشاتيلا، فنسمع جملًا مثل: "هناك مجزرة فظيعة في صبرا وشاتيلا... نحن مجبرون على وقفها"، أو تأكيدَ أحد الجنود المشاركين في الحرب على براءة زميله بقوله: "لقد كنتَ هناك، رأيتَ المجزرة ولم تتمكن من إيقافها. لكن الأهم من ذلك هو أنك لم تتسبب بها أو تشارك في تنفيذها."

بوفور (2007)؛ إخراج يوسيف سيدار

تدور أحداث هذا الفيلم في منطقة الشريط الحدودي جنوبي لبنان، حيث تتعرض وحدة التخلص من الألغام في الجيش الإسرائيلي إلى انفجار لغم زرعته منظمة "حزب الله" في الطريق المؤدي إلى ما يسمى "قلعة البوفور"، الأمر الذي يعرض حياة أفراد الوحدة للخطر في حال قاموا بجولات تفقدية، إلى جانب "معاناتهم" جراء القذائف التي لا تنفك "حزب الله" عن توجيهها إلى الثكنة.

يصور الفيلم الأشهر الأخيرة من وجود الجنود في المنطقة المذكورة؛ أحاديثهم الشخصية، ورغبتهم بالعودة إلى منازلهم والمضي في حياتهم كأشخاص عاديين، وخلافاتهم، والواقع الذي يعيشونه بصفتهم جنودًا.

وقد أعار الجيش الإسرائيلي طاقم الفيلم عددًا كبيرًا من المعدات والتجهيزات العسكرية، كي يكون أقرب إلى الواقع قدر الإمكان، لكن من جهة أخرى، رفض رئيس هيئة الأركان العامة للجيش في حينه، جابي أشكنازي، وعدد من الشخصيات العسكرية القيادية، تلبية دعوة مشاهدة العرض الاحتفالي للفيلم، ودعوا الجمهور الإسرائيلي "الغيور" لمقاطعته، وذلك لكون ثلاثة من أبطاله لم يؤدوا الخدمة العسكرية، الأمر الذي يتناقض مع "الروح القومية" ومكانة الجيش التي تود المؤسسة العسكرية والفيلم التأكيد عليها.

الشخصية المركزية في الفيلم هي شخصية قائد الوحدة، ليراز، الذي يتعامل بقسوة وحدة مع جنوده، تأكيدًا على ضرورة تمتع القائد العسكري بالروح القتالية و"المهنية" العالية. بالمقابل هناك أوشري، الصديق المقرب من ليراز، والذي يساعده في التخفيف من حدة غضبه، ويسعى الفيلم من خلال هذه الشخصية إلى التأكيد على رغبة الجندي بالعودة إلى حضن عائلته، خاصة وأنه على مقربة من إنهاء الخدمة العسكرية الإلزامية.

في هذا الفيلم، كما في فيلم "روك في القصبة" (2013)، ثمة استخدام واضح لكلمة "أولاد" في وصف الجنود، وتجنيد مدلولاتها كالبراءة والعفوية، والاندفاع والطيبة، لتسليط الضوء على إنسانية هؤلاء الجنود.

لتصوير المكان في الفيلم أهمية بالغة، فهناك محاولة لإيصال فكرة الضيق والمحدودية التي يعاني منها الجنود، وتحديدًا من  خلال الممرات الضيقة تحت الأرضية، حيث ينامون ويقضون معظم يومهم، والتي تسبب شعورًا بالاختناق لدى المشاهد، وما يتبع ذلك من تضامن معه! أضف إلى ذلك اللحظات السعيدة التي "يسرقها" الجندي بين قذيفة وأخرى، مثل حصوله على قطعة حلوى يتلذذ بأكلها وسط أكوام التراب والغبار والبارود.

تلخيصًا، يمكن الاستنتاج من الأفلام الثلاثة التي تتناولها المقالة، أن للجيش والقيادة السياسية في إسرائيل مصلحة في إنتاج أفلام الحرب، فهي منفذ لهما لكسب دعم الرأي العام في إسرائيل والعالم، خاصة عندما يجري التركيز على كون الحرب رد فعل تجاه الخطر الداهم الذي يشكله أعداء إسرائيل عليها، وأن الجيش يحاول قدر المستطاع تنفيذ عمليات "معقمة" ضد العدو، حرصًا منه على سلامة المدنيين الأبرياء.

تكرار مشاهد النقاش الأخلاقي حول جدوى وضرورة الحرب، وتكرار وصف الجنود بالسذّج الأبرياء المنصاعين لإملاءات القيادة، التي لا تظهر عادة، والمغالاة في إظهار أهمية الفرد وعواطفه وحنينه إلى البيت، أمور تصب كلها نهاية المطاف في صالح بث دعاية إسرائيلية تصورها طوال الوقت وكأنها الجانب الوحيد الذي يعاني الظلم والاستفزاز والاعتداء من الجيران العرب!

 

* مجلّة "سجال" الصّادرة عن مركز "إعلام".

التعليقات