محمد حمزة غنايم: عقد على الغيـاب.../ أنطـوان شلحـت

عاش محمد عمراً قصيراً بسنواته (ولد العام 1957) لكنه ملأه، قدر ما استطاع، بما ينفع الناس. وكان مقدّراً له أن يملأه بما هو أكثر نفعاً

محمد حمزة غنايم: عقد على الغيـاب.../ أنطـوان شلحـت

قبل عقد وأكثر من شهر (وتحديداً في 25 أيار/ مايو 2004) رحل الصديق الشاعر والمترجم والباحث محمد حمزة غنايم الذي ربطته صلة وثيقة بالمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية-مدار الذي أعمل فيه حالياً منذ انطلاقته في بدايات الألفية الحالية. وقد ظلّ حتى قبل رحيله بزمان قصير المحرر المسؤول لملحق "المشهد الإسرائيلي"، ولسلسلة "أوراق إسرائيلية" الدورية. وكان من أبرز مؤسسي أول موقع لـ "المشهد الإسرائيلي" على الشبكة، وبقي يشغل منصب المشرف العام عليه حتى أقعده المرض.

عاش محمد عمراً قصيراً بسنواته (ولد العام 1957) لكنه ملأه، قدر ما استطاع، بما ينفع الناس. وكان مقدّراً له أن يملأه بما هو أكثر نفعاً.

تمتع الراحل بموهبة متميزة في مضامير عديدة، لم يكن الشعرعنوانها الوحيد وإن كان أكثرها أهمية برأيي.

بيد أنه في مضمار واحد- فضلاً عن الشعر- كان بمثابة "الموهبة متجسدة"، التي لا يشق له فيها غبار حسبما قالت العرب. ذلك هو مضمار الترجمة الإبداعية  باللغتين "اللدودتين" العربية والعبرية. ففيه قرأنا له ترجمات رواية "العاشق" لأبراهام. ب. يهوشواع وكتاب "الزمان الأصفر" لدافيد غروسمان، وقرأ الإسرائيليون "لماذا تركت الحصان وحيداً" و"سرير الغريبة" و"حالة حصار" لمحمود درويش. وفي الأيام الأخيرة من حياته أودع "دار أندلس" ترجمتين لمجموعة "جدارية محمود درويش" ورواية "حكاية زهرة" لحنان الشيخ وصدرتا بعد وفاته.

صحيح أنه كان لمحمد في هذا الشأن "شركاء" و"زملاء" كثر، بيد أنه ظل منمازاً عنهم بأنه جعل هذا الطراز من الإبداع شديد الخصوصية أصلاً ويكتسب مشروعيته كذلك في ركن جغرافي ومجازي ثالث غير مرئي، عند منطقة الغسق، هو ركن "خط التماس" كما كان يهوى القول، والذي بقدر ما مثّل تعبيراً عن كينونته المخصوصة، مبدعاً وإنساناً، بقدر ما حفر بصماته عميقاً في مشروعه الثقافي، الذي لم يقدّر له أن يكتمل كما أراد صاحبه.

ويبدو لي أنه ليس هناك مقام أنسب من مقامنا هذا لإحياء ذكراه كمترجم وخصوصاً أنه عكف، قبل رحيله بقليل، على كتابة دراسة وافية عن الترجمة من العبرية وإليها، قدمها إلى "المؤتمر العربي الأول للترجمة"، الذي عقد في بيروت في كانون الثاني/ ينايـر 2003. وبالتالي تعتبر دراسته هذه بمثابة وصية لنا.
لعل أكثر ما بدا أنه يكرث غنايم في هذه الدراسة هو تفكيك المحاولات الكثيرة الرامية إلى "هندسة الوعي" بشأن الثقافة الإسرائيلية، على قاعدة إبراز وإدراك ما في الواقع لا ما هو مُقحم عليه سعياً لتثبيته.
وقد رأى، في هذا الصدد، أنه منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين الفائت، والثقافة الإسرائيلية الراهنة ليست نسيجاً واحداً ومتكاملاً، وإنما هي عبارة عن "تعددية ثقافية وأدبية مغايرة لما اعتدنا عليه من قبل".
وبرأيه فإن هذه الحقيقة تنسحب على كل ما يتصل بهذه الثقافة من ظواهر وأنواع أدبية. وربما تكفي قراءة نصّ من النصوص الشابة الجديدة، غير تلك التي كتبها ويكتبها الذين عرفوا باسم "أدباء جيل الدولة" (عاموس عوز، أبراهام ب. يهوشواع، دافيد شاحر، يهودا عميحاي، وآخرون)، حتى ندرك أنه لا وجود لنص عبري منسجم مع ثقافته، بل إن معظم مبدعي "الموجة الحديثة" في الأدب الإسرائيلي العبري اليوم، ينبش في خبايا الذاكرة الجماعية، ويحاول بعضهم إعادة صوغها من جديد، وفي أحيان معينة يفعل ذلك وفق رؤية إنسانية.
غير أن تجربتنا المتواضعة، نحن أبناء الجيل الواقف بحق الضائقة بين ثقافتين، والمتفاعل معهما كلا على انفراد، كما يؤكد، دلّتنا على أن أفقنا الثقافي مليء بالحفر و"المناطق الحرام"، التي تترصد كل من يدخلها بشتى التوصيفات والتسميات، أولها الاتهام بـ "التطبيع"، وآخرها "الاحتواء". لذلك، لا أرانا اليوم بحاجة إلى قول سياسي يبرّر وجود مثل هذا النوع من التقاطع والتعارض بين "ثقافتينا"، اللتين لا تؤديان أي نوع من الاقتراب، الواحدة من الأخرى، فينا أو بجانبنا، على رغم أن موقعنا المشترك يجعل من التقائهما في دوائر اهتماماتنا أمراً طبيعياً ومُدركاً. تلزمنا كثيراً الآن انتباهَةٌ واعية لما يتفاعل إلى جانبنا من تيارات ثقافية وإبداعية وفكرية أيضاً، ينطق بعضها باسم الحداثة، وبعضها الآخر يتقدم منّا عبر أطر ومسمّيات "شرق أوسطية" مختلفة، ويروّج لفكرة واحدة ووحيدة لا يتجاوزها في سبيل إغناء الحوار معنا، مخفياً الأسباب التي تجعل فكرة التبادل الثقافي مستعصية على الفهم والإدراك، في أوساط واسعة لدى الطرفين.
ويضيف غنايم: ثمة جيل واحد على الأقل من الكتاب الإسرائيليين، ممن بدأوا بين الحربين- حرب حزيران/ يونيو 1967، وحرب لبنان الأولى 1982 - يكتب وطناً مختلفاً ومغايراً لوطن "الآباء والأجداد" الذي كتبته أجيال الأدب العبري الأولى. إنه وطن المفاهيم المختلفة، التي لا بد من أن نتريث عندها ما يلزم من وقت، كي نفهمها ونقيّم هذه التحولات الكبيرة في وعي أبناء هذا الجيل من المبدعين. فهو جيل ليس مديناً لأحد، أو ملتزماً بفكر واحد، أو رؤية واحدة، وتوجهه في ذلك أسئلة من أخرى كثيرة، حول ما يجب تقديمه من ثمن وتضحيات، لتجاوز إشكالية الواقع المأساوي، ومحنته، وبالتحديد - مع ما يتقاطع منه مع المسألة الفلسطينية. وفي ذلك بالذات ما يستدعينا لأن نذهب إلى النص العبري المعاصر، "الآخر"، للبحث عنه لا عن أنفسنا فيه فقط. وعند هذا الحدّ يشدّد: هذا ما أحاول التأسيس عليه فيما أقرأ أو أترجم أو أنقد، من هذه النصوص.
(أفتح هنا قوساً كي أشير إلى أن وقائع كثيرة تراكمت منذ ذلك الوقت وتدلّ على صحة ما قاله غنايم بشأن الجيل الجديد من الكتاب الإسرائيليين والاتجاه المعاكس الذي ينحو نحوه. ويمكن استشفاف هذا من مجموعة نتاجات روائية وقصصية حديثة ليس هنا مكان التوسّع فيها). 
إن من حقنا أن نتساءل الآن، بعيداً عن الأحكام الواردة في الخلاصة أعلاه:

في أي اتجاه كان سيسير وعي غنايم بعد أن بلغ هذا المستوى؟ وكيف كان عمله سينمو في ضوء هذا الوعي؟.

إذا كان في إمكان الواقع التاريخي أن يجيبنا، فنجهد بوعينا الفردي في فهم هذه الإجابة، فإننا نبقى مفتقرين إلى إجابة هي في مستوى مساهمة غنايم الخاصة، تصلنا بالواقع على أكثر من صعيد فنمتلكه بأكثر من وعينا... سنفتقد قلمه وفكره وإن كنا لم نفقد الواقع، لأننا لن نجد في هذا ما يعوضنا عن ذاك.

وإذا ما كانت المتغيرات السياسية تبدو سريعة برسم تبدلات الواقع السياسي، فإن المتغيرات الثقافية والاجتماعية قد لا تتبدل سريعاً في واقع اجتماعي معين.

مع ذلك علينا أن نبقى مدينين لوصية غنايـم التي تصل حاضرنا بماضينا، بموازاة نقل رسالة إلى الأجيال الشابة والمقبلة فحواها ضرورة الوصل بين شتى الأزمان كون الحياة متصلة مبنى ومعنى.
 

التعليقات