"مطلوب رجل"/ عبد الله البياري

عمل تكويني/تركيبي وأدائي، مكون من 77 قطعة قماش من الحرير، وفستان زفاف مُطرز خصيصًا للعمل والفنانة.

 وصف العمل الفني:

عمل تكويني/تركيبي وأدائي، مكون من 77 قطعة قماش من الحرير، وفستان زفاف مُطرز خصيصًا للعمل والفنانة.

جرى العرض في تموز 2014، في مدينة كفر سابا.


عندما كان قوم نوح يمرون بالنبي وهو يبني سفينته/طوفه/معجزته/نبوئته، ويدعوهم –بها- إلى الدين الجديد، كانوا يغمضون عنه أعينهم ويقولون لأنفسهم: "هو غير موجود، فنحن لا نراه"، فقط لأنهم لا يرونه فقد فقد وجوده لديهم. تلك اللعبة الإدراكية على بساطتها وسذاجتها  (من منظور حداثي، على الأقل)، إلا أن لها مفاعليلة هامة وشارحة في العلاقة بين العين والوجود والشيء في الإدراك، بلفظ آخر العلاقة بين الأثر والمؤثر.

في "مطلوب رجل" للفنانة الفلسطينية، أسيل تايه، وهو عملها التكويني/التركيبي Installation   الأول تبدأ الفكرة من إستنطاق العين الرائية (الذكورية) وكيف تدرك الأنثى (وهي الفنانة بشخصها، باعتبارها جزءًا فاعلًا من العمل/التكوين/التركيب، كما سنرى) ذاتها، انطلاقا من تلك الاستنطاقات الخطابية.

تبدأ عملية الإستنطاق تلك، بأن أرسلت الفنانة إلى مجموعة محددة من الذكور، تسألهم بشكل مباشر ما السبب الذي يمنعهم عنها كأنثى؟ في صياغة مباشرة  ("ليش مابدك تتزوجني؟"). ومع تعدد الأجوبة التي تتلقاها الفنانة، تتراكم لديها الرؤى التي تشكل وجودها في إدراك العين الذكورية الرائية وارتباطها بالرغبة الآخروية لكل ذات مذكرة، حصرا، وبالتالي تتموضع الفنانة باعتبارها شخصيا وماديا ومعنويا في مركز العمل الفني، ولب معناه دون انفصال بين ذات الفنان وذات العمل.

وإذ تتجمع الأجوبة/الرؤى الذكورية لديها، باعتبارها رؤى تعكس كيفية "تمثيل" Representation الأنثى/الفنانة في أعينهم، تحملها الفنانة مجموعة، وترفعها إلى مستوى أعلى من التمثيل، وذلك عن طريق تحويلها إلى أحرف مكتوبة/لغة، واللغة أول ظهور الشيء في الوعي، (مارتن هايدغر يقول أننا كائنات لغوية)، فاللغة باعتبارها قناة مادية ملموسة عيانًا بالأحرف والكلمات، تتحكم في الفكرة المحمولة في شرايينها، فالحروف تعمل على تحويل الرؤى الذكورية في المعنوي إلى تشكيل مادي، وهو ما فعلته الفنانة، بأن حملت كل تلك الرؤى إلى مصمم أزياء ذكر طالبة منه تصميم فستان زفاف يحمل تلك الكلمات/الرؤى تطريزًا، وهو مادمج الرؤى الذكورية بين شقها المعنوي، إلى المادي حرفًا، وثم إلى المادي ثانية، تصميمًا، بيد ذكر أيضا. في تأكيد أكبر على سلطة الحرف والكتابة الذكورية على الحكي والكلام/السؤال الأنثوي، وماتحمله علاقة الإنتاج تلك (إنتاج الأنا والآخر) من سطوة جندرية للفحولة، تنعكس في العلاقة بين اللغة المحكية والمكتوبة من ناحية، ومن أخرى، الحرف الكتابي وعلاقات الإنتاج التي تعد الملابس والأزياء وتاثرهما بمفهوم الفضاء العالم والخاص والجسد العام والخاص من تجليات تلك السطورة الذكورية.

يتأسس "مطلوب رجل" لا باعتباره عملًا فنيًا تكوينيًا/تركيبيًا، يموضع المتلقي خارجه، فالمتلقي جزء من العمل، وهو ما سيتكرر في أعمال الفنانة التالية، إذ ليرى المتلقي كامل العمل، عليه أن يتحرك بين قطع القماش المتدلية، مسمتعًا إلى صوت غناء الفنانة، وهو جزء أصيل من العمل، تغني -الفنانة- كلمة واحدة وهي "راحوا" في إعادة لمركزية الحكي/الصوت الأنثوي في مقابل الكتابة/الحرف الذكوري، وانتقال المتلقي بين طبقات الوجود المرتبة بين السمع/الصوت المؤنث والحرف المذكر. وما أن يصل المتلقي إلى الفنانة وتقع في مجال الرؤية/العين/الإدراك، حتى يجدها تحاول تمزيق ما طمسها من رؤى ذكورية/فحولية متراكمة كتابة/حرفا/تطريزًا على الفستان، فالفنانة تمزق الفستان بكل ما حمله من رمزية للزواج، تنبني على مركزية وسطوة للذكر الفحل، وصلت إلى درجة طمس الأنثى في داخلها، حماية لها من رؤى ذكورية مالبثت أن أعطتها وجودها في ادراك الآخر الذكر، إذ يرى فيها ظله وذاته، فهو الأثر وهي المتأثر، وبالتالي يظل وجودها قيد الحجب والطمس.

جدير بالذكر أن الرؤى/الإدراك/الوجود الأنثوي في العين الذكورية التي وصلت الفنانة ردا على سؤالها، كان أغلبها يدور في فلك كلمات مثل: "نسوية/قوية/أرملة سوداء/ عنكبوت..." وغير تلك الصفات التي ترى في الأنثى منطلقا لمنافسة سلطوية مقابلة للذكر، ولعل ما يفضح عدم موضوعية تلك الرؤى وتحيزاتها السلطوية أن الشريحة التي خضعت للإستنطاق الأنثوي مختلفة المواقع من حيث علاقتها بالفنانة، وبالتالي أن يوافق أغلبهم على صفات جندرية سلطوية، فذلك تأثير السطوة الجندرية للفحل، وليس الإدراك الموضوعي للآخر المؤنث.  

لعل هذا يذكرنا بأزمة الهوية التي انعكست على "أزمة البدايات"، كما رأتها لوسي إريغراي في الذكر، التي أسس لها النفي الأول والحنين الدائم للعودة إليه متمثلا في الجنة وخروج آدم، أو الوطن والخروج للمنفى أو الرحم وخروج المولود. فالذكر بحسب إريغراي وتسير دربها معها آن ماكلينتوك، يعطي نفسه حق التسمية والوصف ليغطي حالة من جنون العظمة وجنون الإرتياب/الإضطهاد، وهو مايمكن ملاحظته في -أغلب- الأسباب/الرؤى التي حددها الذكور الذين كانوا ضمن عمل "مطلوب رجل" والتي لايمكن فهم دلالتها دون موضعتها ضمن مقارنتين مركبتين، الأولى مع الذكر مانح التسمية والوصف، كالقول بأنها -الفنانة-"قوية" فذلك يشي بجنون الارتياب وكأن القوة هي على الدوام موجهة ضده، والثاني إذا ماقورنت بأنثى مغايرة لا تتصف بصفتها/تسميتها تلك فهو الجزء المستبطن وغير المحكي فحضور القوة ينفي وجود الضعف، وغياب القوة يشي بحضور الضعف، في إزدواجية الأنا والآخر، فنجد أنها حازت تفضيلا من الذكر في الرؤية/الإدراك لأنها "أضعف" منه، وهو مايكشف جنون العظمة، أو الذات المركزية، التي تنبع منها كل التصورات والرؤى والسرديات.

"مطلوب رجل" هو محاولة فنية تكسر خطأ القول النقدي في الفن بأن "معنى العمل" و"جوهره" إنما يقبع في أقصى ماقد تصل له أعمال الحفر والسبر والتأويل داخل العمل، وهو -مانراه- خطأ نقدي من أثر الإيغال في ظل مدرسة التحليل النفسي على حساب العلاقة بين المجاز والتجريد في بنية المعنى، فإذا تناولنا العمل الفني -أي عمل- فلابد للمادة والرمز فيه من دلالة، فليست سفينة نوح أو طوفه هي علة النجاة من الفيضان وبالتالي فرمزيتها هي أثرها الوعي، ولا كان للنجاة باعتبارها إرادة السماء أن تكون لولا مادية وجود السفينة، ومن هنا إنبنت اللعبة الإدراكية التي اتبعها قوم نوح مع النبي بإغماض أينهم عن السفينة/تجريدا ووجود النبي/مجازا.

وبالتالي فالتواشج بين المجاز والتجريد هو انبثاق المعنى. "مطلوب رجل" هو تراكم تجريدي للحمولة المادية:الجسد والحرف والثوب والمكان، للعمل، في مقابل الحمولة الرمزية الإدراك، الصوت، الإحاطة والحصار والرؤى والادراكات المسماة.

والمتلقي بوجوده داخل "فضاء" العمل، يلقي الضوء على دلالة الصوت/الحكي في ثنائية الكتابة/الحكي الجندرية والتي تأسست بتواتر الحفر الجندري في "ألف ليلة وليلة"،فالأنثى للحكي مساء في الفضاء الخاص تحت سطوة مانح الحياة والموت الذكر، أما الكتابة، فتلك للذكر الحاكم الخليفة في النهار تاريخا باعتباره مالكا للفضاء العام؛ وتلك المزاوجة في العمل الفني بين الحرف المكتوب والصوت المسموع، وإن كانت لا يكسر سلطة الذكر على الرؤى الوجودية بالكتابة بداية من دخول المتلقي فضاء العمل، فإن تمزيق الفنانة للحرف المادي/المذكر على الفستان يكسر سلطة الذكر مؤقتا،  وإن لم ينتصر للصوت/المؤنث.

"مطلوب رجل" انعكاس وليس مواجهة، فالمقاومة تختلف عن المواجهة وإن تعاضدتا بنيويا، الأولى لا تكون دون مواجهة مبنيوية مباشرة مع المبدأ الناظم/الحاكم/العضوي للظاهرة، وهو مالم يحدث بدءا من العنوان الذي انبنى استدعاء للذكر، إذ تم وضع الذكر في المركز ومصدر الرؤى، المؤثر وباتت الأنثى/ التأثير في حكم النتيجة المراوحة بين المطلوب وغير المطلوب، وهو ماجعل العمل محصورا في مواجهة الأثر وليس المؤثر/الذكر، بل بات الأخير "مطلوبا"، إلا أننا لايمكننا تجاهل كم المواجهة المنبثق من ثنايا العمل.

التعليقات