نيويورك تايمز و"إيفوريا" التعايش بحيفا/ فايد بدارنة

إنّ أردت اختصار تقرير صحيفة “نيويورك تايمز” الأخيرة عن الشباب العرب في حيفا بعشوائية، فهو مصاب بعمى ألوان حقيقي، وهو إما مصاب بهذا العمى سذاجة من كاتبته أو بفعل مقصود من كاتبته. رأيت من المناسب أن أسلط الضوء على عملية التسطيح في قراءة عمل

نيويورك تايمز و"إيفوريا" التعايش بحيفا/ فايد بدارنة

مواجهات مع الشرطة بحيفا في مظاهرة ضد مخطط برافر (أ ف ب - أرشيف)

إنّ أردت اختصار تقرير صحيفة “نيويورك تايمز” الأخير عن الشباب العرب في حيفا بعشوائية، فهو مصاب بعمى ألوان حقيقي، وهو إما مصاب بهذا العمى سذاجة من كاتبته أو بفعل مقصود من كاتبته. رأيت من المناسب أن أسلط الضوء على عملية التسطيح في قراءة عملية النمو، العلمنة، الليبرالية وبلورة الهوية الفلسطينية في مدينة حيفا، ليس فقط لأنها تهمش المُهمش أو تقصيه تمامًا، بل لأنها تفشل في تقديم قراءة لسوسيولجيا نمو مرافق ثقافية قومية وأمكنة ترفيه كالحانات والمراقص وارتباط ذلك في ديالكتيك الصراع وسياسة القمع والقهر الكولنيالي. 

بداية، أمام فيض من 'إيفوريا' التعايش وتكثيف لخطاب 'حيفا واحة السلام' ومحاولة زج كل شاردة وواردة في هذه الخطاب، يصبح لزاما علينا تقديم قراءات جذرية مرتبطة بالطبيعة الكولونيالية لإجهاض تنامي الحياة المدنية في القرى والمدن الفلسطينية. وفي هذا السياق، وتحديدا عن مدينة حيفا، من المهم تقديم رؤية تحليلية تعتمد على رصد لعملية الهجرة العربية إلى حيفا، وهي ليست هجرة إرادية طوعية بغالبها، بل هجرة قسرية. والهجرة القسرية هي عملية ممنهجة من تضييق سلطوي في المباني الاجتماعية نزولاً إلى الهيكلية التعليمية والترفيهية والبنى التحتية وأهمها الأرض والمسكن. حين تُحول القرى العربية لجيتوهات منزوعة الهوية بما يتعلق بالزراعة، بالصناعة والتجارة، وتصبح بلدات عبارة عن مراكز استهلاكية معدومة الأفق، تتشكل عمليات الهجرة القسرية. وهذه الهجرة القسرية أشبه بالتشريد مع اختلاف الوسائط والشكل فتتخذ شكلاً هادئًا.

وفي هذا التضييق السلطوي الممنهج تتراجع إمكانيات تطوير مساحات مدنية ليبرالية تحتضن جميع التيارات، الأفكار والأنماط. لكن هذه المساحات لا تختفي بفعل وجود جذور لها في هذه البلدات، وهي تنمو هنا وهناك بوتائر مختلفة. حين تتجاهل كاتبة التقرير في “نيويورك تايمز” هذا الخنق الديموغرافي ودوره في تهجير الشباب إلى حيفا ودور هذا الخنق في بلورة الهوية الفلسطينية، فليس بعيدًا عليه أن يتناسى الدور الريادي المؤسس للقرى العربية وللمدن وتحديدًا الناصرة وأم الفحم في تشكُّل الوعي وفي العمل السياسي الحزبي والوطني. ويتم تصوير حيفا الآن وكأنها 'أُم البدايات'. 

هذا التضييق الديموغرافي يمارس في حيفا الليبرالية نفسها، حيث تستطيع العين المجردة تشخيص خطوط التماس بين حيفا اليهودية البيضاء وبين الچيتوهات العربية. وفي حيفا الليبرالية نفسها يصرح رئيس بلديتها بأن شبان متطرفين من القرى يخربون التعايش في حيفا، وهذه التصريحات لم ترد في هذا التقرير رغم حيويتها الإخبارية والتقريرية. وفي هذه التصريحات لرئيس بلديتها ما يكفي لإظهار الفكر الكولونيالي بترسيخ العائلي، العشائري والمحلي من خلال سياسة فرق تسد، بين من هو حيفاوي الأصل وبين من هم من خارج حيفا.

 في حيفا اليهودية ظلت الأقلية العربية الأصلانية مهمشة وتتعرض للإقصاء والتضييق المستمر المتصاعد. ففي التقرير غابت التشخيصات للمجموعات العربية التي تشكل الأقلية العربية لحيفا. غاب تشريد 1948 وغابت معه سياسة التهويد والإقصاء لعرب حيفا 'الليبرالية' كعامل أساسي في محاولات خنق الحياة الثقافية لحيفا بعد 1948، هذا لا يعني أنّ حيفا لم تشهد حراكًا ثقافيًا، بل شهدت، ورغم التضيق، نهضة أدبية وإعلامية سياسية هامة جدًا في المشهد الوطني الفلسطيني، حاضرًا  بصحيفة الاتحاد وبمجلتي الغد والجديد، ونشاطًا حزبيًا مهمًا، وتواجد عدد لا بأس به من الكتاب، الأدباء والسياسيين في حيفا. في حيفا تفاعلت حركة الشعر مع شقيقتها العربية الناصرة وضمت شعراء كبار لحاضنتها. وبهذا يكون التقرير قد غيب عاملين من عوامل تشكُّل الوعي؛ الأول غياب عنصر التشريد في النكبة ودوره في محاولات طمس الهوية الثقافة العربية لمدينة حيفا والثاني ما أطلقت عليه سابقًا عن الهجرة القسرية.

في التقرير المنشور تقتصر المدنية والليبرالية على مظاهر التاتو والكحول والسهر ومساحة للمثليين. وهو بحد ذاته ليس من المفروض أن يزعج القارئ، أي قارئ، فلا يجوز بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية الحرية الفردية الخاصة في الحيزين الخاص والعام وعلينا أن نتجنب أن تكون محل انتقاد ولا هجوم، بل علينا أن ندافع عنها، فهي فعلا تعتبر شكلًا من أشكال تحرر لدى الفرد، وتحرر في حيز الوعي الشخصي والجماعي/ الطبقي. إلا أن هذه الأنماط والأشكال ليست كافية ولا هي من المركبات الحاسمة في إحداث تحولات ليبرالية لمجتمع ما، ولا تستطيع الأنماط الفردية في الشكل والحياة الخاصة خلق تيار توعوي علماني جماعي. وهنا تقع معدة التقرير بما ينهج عليه الكثير من الصحافيين الغربيين من انتقاء لمركبات: اللبس والمشرب وانتشار البارات كمقياس للمدنية في أوساط الطبقات دون الخوض في ماهية التحولات.

فغيبت المقالة أيضًا الحراكات الوطنية الشبابية في الاحتجاج والتظاهر ودورها الهام في 'فلسطنة' حيفا. فلا يمكن 'للتاتو' العربي وحده التأثير على مشهد ثقافي حياتي دون ظهير وطني سياسي يشكل الشباب مركبه الأساسي. 

كيف يمكن لتقرير يتناول نشوء طبقات شبابية ليبرالية في المدينة، وتصويرها كمنعزلة عن المشهد العربي المحلي المتأزم دون ربط هذا النشوء براديكالية سياسية تتبلور في أوساط الشباب؟ بل لم يتناول التقرير دور المقاهي والحانات في تشكل وتطوير هذه الراديكالية السياسية الوطنية من خلال جلسات ولقاءات وحوارات تتم فيها. فهذه التيارات الليبرالية العلمانية شاركت في حراكات براڤر، الأسرى، اللاجئين السوريين والانتفاضة. ولم تذكر المقالة حرب حيفا اليهودية على المسارح والثقافة الفلسطينية وتحديدا في الأشهر الأخيرة.

كثيرة هي الأمثلة والحالات والتحليلات التي لم ترد في التقرير، لكن المهم والمقلق هو النهج في التغطية وكيف لهذا النهج الصحافي التركيز على قشور الظواهر، وبالتالي خلق انطباع سياسي ورأي عام خارجي عن دمقرطة المدينة أمام سكانها العرب والقفز عن التحليل الجذري لعملية الوعي التي تحدثها سياسات الخنق والتهجير.

هذه القراءة للتقرير بوسعها أيضا أن تطرح حاجتنا الملحة للبحث في الـ 'أنا' والـ 'نحن': دورنا ومساهمتنا في مقاومة ورفض عمليات ' تديين ' ممنهج وذاتي للبلدات العربية تدعم الهيكلية الشوفينية الاجتماعية في تضييق المساحات على مظاهر الفن والثقافة وفي قمع طبقات وتيارات وتوجهات غير نمطية أو مختلفة. فالمقالات التي تنشر تحليلاً غير منصف ومشوه تفرض علينا أيضا الخوض بالذاتي وعدم التقاعس بضرورة توسيع ونشر الفكر الليبرالي وأن ننادي بتقديس التعددية الفكرية، الدينية، الجنسية والسياسية. فعملية تبلور الوعي عملية مركبة تقتضي العمل وبذل المجهودات بساحات وميادين متعددة.

التعليقات