مكفوفون يحافظون على إرث مقدسي يكاد يغيب

في ورشة متواضعة في إحدى زوايا "عَقَبَة (زقاق) المُفْتي"، وسط البلدة القديمة في القدس، يعمل حرفيون بكل جد في صنع المكانس التقليدية. وللوهلة الأولى، قد لا ينتبه الزائر للمكان إلى كون هؤلاء الحرفيون كفيفو البصر نظرا لمهارتهم والدقة التي تتسم بها منتجاتهم.

مكفوفون يحافظون على إرث مقدسي يكاد يغيب

في ورشة متواضعة في إحدى زوايا 'عَقَبَة (زقاق) المُفْتي'، وسط البلدة القديمة في القدس، يعمل حرفيون بكل جد في صنع المكانس التقليدية. وللوهلة الأولى، قد لا ينتبه الزائر للمكان إلى كون هؤلاء الحرفيون كفيفو البصر نظرا لمهارتهم والدقة التي تتسم بها منتجاتهم.

وتتبع الورشة لجمعية المكفوفين العرب الخيرية، التي تأسست عام 1932 على يد عدد من المقدسيين الفاقدين لنعمة البصر. وكان الهدف من تأسيس الجمعية تأهيل فئة فاقدي البصر ومساعدتهم على إيجاد عمل شريف يناسب قدراتهم.

وفيما بعد، تخصصت الجمعية في صنع المكانس التقليدية بعد أن توافد عليها المكفوفون، وتحولت إلى بيتهم الثاني ومصدر رزقهم ومعيشتهم.

وعند باب الورشة، حيث رائحة القش المختلط بضجيج العاملين ودقات مطارقهم، قابلنا طاهر عودة الذي بدأ عمله هنا منذ 17 عامًا بعد أن فقد بصره، إبان ما يعرف محليا في القدس، بـ'مجزرة الأقصى الأولى'.

وتعود أحداث 'مجزرة الأقصى' إلى عام 1990، حينما حاول متطرفون يهود وضع حجر الأساس لما يسمى الهيكل الثالث في ساحة المسجد الأقصى، وتسبب الأمر بوقوع اشتباكات بينهم وبين المصلين.

وتدخلت الشرطة الإسرائيلية لقمع المصلين، مما أدى إلى استشهاد 21 فلسطينيا وإصابة 150 بجروح مختلفة واعتقال 270 شخصًا.

ويقول عودة 'هنا مكان للرزق وهذا حقنا الطبيعي، لا أرى أن هناك معيقات في حياتي، فالله سبحانه وتعالى أنعم علينا بالبصيرة والمهارة في هذه المهنة'.

وأضاف 'أنا أعتبر الجمعية بيتي الثاني، فنأتي إليها بكل شوق في الصباح الباكر ونغادر بعد الظهيرة دون كلل أو ملل'.

أما سمير ثَبَتة، الذي قضى عمره محرومًا من البصر، فتعلم هذه الحرفة في المدرسة العلائية للمكفوفين في مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية.

وبدأ ثَبَتة عمله في الجمعية بهدف كسب الرزق، قبل أن يصبح عضوا إداريا بها. ويقول 'لقد ولدت ضريرا كضحية لزواج الأقارب، وعانيت كثيرا قبل سنوات عديدة من أجل الحصول على وظيفة مناسبة، ووجدت نفسي في هذه الحرفة التي أتقنها وأكسب الرزق منها، ثم انتسبت للجمعية كعضو إداري، والآن أساعد زملائي في الورشة'.

في مقر الجمعية المتواضع، يعمل عشرون شخصا على إنتاج عشرات المكانس يوميا، فمنهم من يقوم بتخريم الأخشاب والآخر يحدبها، وآخرون يتخصصون بوضع القش وترتيبه.

أما العامل أبو الحسن (فضل عدم ذكر اسمه)، فيأتي يوميا من قرية قَطَنَة شمال غرب القدس، للجمعية بغرض كسب قوته.  ويقول إن الجمعية تحتوي على عدد من الماكينات والأجهزة اليدوية والآلية لإنتاج المكانس، ليتم تسويقها فيما بعد في الأسواق المحيطة بالقدس والضفة الغربية.

إلا أنه يبدي أسفه تجاه غزو المنتوجات الجاهزة، الصينية وغيرها، السوق التجاري، وهو ما يؤدي إلى قلة بيع المنتوجات اليدوية التي يصنعونها.  لكنه يضيف مستدركا 'على الرغم من ذلك، عملنا مصدر حياتنا، والأمل يدفعنا إلى الاستمرار'.

وتقول مديرة الجمعية، نادرة بَزبَز، إن المواد التي تستخدم في صنع المكانس، هي مواد طبيعية ومنتجات زراعية، تصنع يدويا 'بكل مهارة'. لكنها أشارت إلى أن الجمعية، تعاني من شح في الدعم المقدم لها.

وتقول بزبز 'لا تتلقى الجمعية دعمًا من جهات أو مؤسسات مقدسية أو غيرها، سوى بلدية رام الله التي تشتري منتوجاتنا بشكل متواصل'.

وأضافت أن 'الجمعية تحتاج إلى دعم أكبر من أجل دمج المكفوفين في النسيج الاجتماعي، وتطويرهم وتأهيلهم للاندماج داخل المجتمع'.

وأشارت مديرة الجمعية إلى أن العاملين مصرون، رغم قلة المردود المالي، على 'الاستمرار في الحياة، وبذل قصارى جهدهم في العمل والتعلم، من أجل كسب لقمة العيش بعرق جبينهم'.

وختمت حديثها بالقول إنه 'على الرغم من فقدانهم لنعمة البصر، إلا أنهم ببصيرتهم وإصرارهم يعملون هنا بحرفة فنية تعتبر جزءا من التراث المقدسي الأصيل'.

التعليقات