26/10/2010 - 22:04

الحجر../ بيروت حمّود

-

الحجر../ بيروت حمّود
امسكها بيمناك، شده إلى الخلف قدر المستطاع واتركه.. شاطر !
خلص رأسه من بين يديه، مخه لا يحتمل فكرة القضبان، مخه في حالة فوضوية، أفكاره مبعثرة ومشتتة، وفي حنجرته غصة.. غصة رهيبة. تعلقت عيناه بالفتحة التي في السقف كان لا يرى غير النجوم، إنها الفتحة الوحيدة إلى الحياة، إنها النافذة التي يرى من خلالها الواقع. عندما جروه إلى هنا وزجوا به في هذا المربع البغيض ذي الرائحة غير المحتملة إطلاقًا كانوا قد اعتمدوا أن يجردوه أولاً من ساعة يده ورباط حذائه، وكذلك حزامه البالي. فصارت هذه الفتحة ساعته، تدله على انقضاء النهار أو الليل.
 
لم يجد وقتًا كافيًا ليفكر لماذا فعلوا ذلك معه، فهم يفعلون الأمر ذاته مع سائر المحتجزين لديهم.. لكن أية فكرة غبية هذه؟! أيظنون أنني سأنتحر برباط حذاء!.. لو أنهم يرجعون لي الحزام.. الحزام فقط.. كُل، كُل لا تترك بقايا في الصحن سيظل خصرك نحيلاً إذا لم تأكل وتسمن وستظل تضع هذا الحزام طوال حياتك.. أتعرف لن أتعب نفسي أكثر، لا تأكل افعل ما يحلو لك ستجد نفسك في نهاية الأمر كما عود قصب السكر.
لم تكن لديه الجرأة الكافية كي يتطاول على الفقر فيقول لأمه لا تعطيني إذًا ثياب (معمر) التي بليت ولم تعد ساقاه تدخلان بها، اشتري لي ملابس
جديدة، فبيني وبينه سنين طولها بطول مطاط "النقيفة" المشدود.
 
-عشرة شواقل.
-ليس معي إلا خمسة.. أرجوك لقد بعت أربعة عصافير كي أشتري الساعة، لم أعد أملك إلا عصفورين أحدهم ذكر والآخر أنثى.. ما رأيك أن أعطيك الخمسة الباقية بعد أن أبيع الأفراخ التي ستأتي.
- أقول لكَ عشرة، عشرة شوا قل.. شاقل ينطح شاقلا... إنني أمزح معك هات شاقلين ودع الثلاثة الباقين لك َ..
- ربي يديمك يا عمي مصطفى، أنت في مقام المرحوم أبي... عمي مصطفى إذا اختلت أحجار الساعة ستضبطها؟.
كان منشغلا بإصلاح الساعات فلم يعره اهتمامًا.
أردف بتلعثم :
- عمي مصطفى...
- ماذا تريد؟ أخذت الساعة.. ارني عرض كتفيك.. أنت تلهيني أريد أن أتابع عملي هيا يا بني..
- لكن لماذا يبني اليهود هذا الحائط الطويل...؟
- يا ربي هذا وقته الآن.. ؟ لا أعرف، لا أعرف اذهب واسألهم...
صرخ :
- كلكم جبناء كلكم تتهربون من قول الحقيقة.
قاطعه :
- هات الساعة يا عرص، صرنا جبناء الآن ها... كنت ترضع من بز أمك وأنا أقاتل إلى جانب والدك في الانتفاضة الأولى.
 
يتذكر الآن كيف فر هاربًا وكان يعتمل في صدره غضب لا يعرف السكون طريقًا إليه، هو ذاته الغضب الذي يعتمل في صدره الآن، فقد تكبد مشقة كبيرة كي يشتري هذه الساعة، رغم أنه مر وقت طويل على هذه الذكرى إلا أن هذه الساعة غالية على قلبه. أنها مضادة للماء، مع هذا كان دائم التفتيش عن مبررات لتوقف الساعة عن العمل بعد كل حمام حيث كان يفكك أجزاءها ويتركها في الخارج حتى صباح اليوم التالي كي تجف ويعيد تركيبها من جديد.
 
على أية حال سأتمسك بالساعة وسأطالب بها، سيرجعونها بكل تأكيد، ما حاجتهم بها أصلاً، هذه الساعة تشبه الهبة، الغضب المعجون بالحزن. إن لهذه الساعة منطقًا مغايرًا، إنها تجف فتعود إلى الحياة، وإذا ابتلت تموت.
 
ألصق أذنه بحائط الزنزانة، خيل إليه إنه يسمع صوت تلاطم أمواج البحر الذي لم يسبح فيه أبدًا، البحر الذي طالما حكى له معمر عنه.
- ستي كانت تقول إن بحر حيفا ليس مثله مثيل.. وأنها تخاف أن تموت قبل أن تكحل عينيها برؤيته. لكن ماذا؟.. ستك ماتت من السكري والعمى أكل عينيها ومن قبله التجاعيد والانكى أننا لم نرجع ولم نتكحل ولم نتعفر..
- يعني بحر حيفا كبير..؟ وفيه أسماك؟
- أي سؤال غبي؟
- لا يا معمر أقصد هل السمك فيه غير شكل بما أن ستك كانت تقول أن ليس له مثيل..
- لا أعرف، لم أذهب إلى هناك.. لكن يبدو أنه حقًا غير شكل وإلا لما سرقه اليهود..
- يعني سمك على هيئة حوريات؟
-لا أفهم من أين لكَ بهده الثقافة يا عجل!، ما الذي درستموه في مدرسة الوكالة..؟ أدرستم قصة سندريلا؟..
- لا. لكن سرور سأل معلم الدين ذات يوم إذا كان ثمة نهر خمر وحوريات في الجنة فلماذا لا يوجد مثله على الأرض فأجابه هذا بالجنة وليس على الأرض. على أية حال.. عندما نرجع سنتبارى في السباحة وسأسبقك بكل تأكيد لأنك سمين..
قاطعه ضاحكًا :
- وأنت عود قصب. لكن ما دخل الجنة والحوريات؟
- أيضًا جدة سرور قالت له حيفا جنة! ومعلم الدين قال الجنة فيها حوريات تنكح منها ما يطيب لك.. معمر ماذا تعني كلمة تنكح؟
- نم، نم.. عندما تكبر ستعرف.. أنت اختصاص مطاط وليس نكاح نم بالله عليك.
- وماذا عندما أختص بالبواريد؟ يعني سأفهم ماذا يعني ينكح... حسنًا لكن أباك سينكح الحوريات أليس كذلك؟
-ما الذي ذكرك بالوالد الآن؟!
- أمك قالت أبي في الجنة، لأن الشهيد يذهب إلى الجنة.
 
شعر برذاذ يتمشى فوق جسده، يدخل في نتوء جلده يحرك الدم الجاري في عروقه؛ رفع رأسه إلى الكوة المعلقة في السقف، إنها تمطر.. ترى أي يوم من أيام السنة هو هذا؟ هل تمطر في جنين أيضًا..؟
 
ما أجمل الشتاء في جنين، لما يفيض المخيم وتغدو روافده مستنقعات موحلة، فننزل إليها عراة غير عابئين بالصقيع والدعاميص (جمع دعموص وهو ابن الضفدع) التي تسبح فيه على غير هدى... لكن لم يعد هناك مخيم الآن، كما تقول الوالدة "لعنوا صفاح أبوه".
شعر بوقع أقدام تقترب، أمسك بـ"دكة" بنطلونه وألصق ساقيه ببعضهما البعض.
 
- هات يديك..
- لكن البنطلون سيسحل..
- أقول لكَ هات يديك.
- إذًا أعطني الحزام.
قال الحارس بغضب:
- نحن لا نلعب يا كلب، أعطني يديك، أقول لك أعطني يديك..
- خذ يدي.. خذ.. احشوها في مؤخرتك.
 
لم يعرف من أين أتته الصفعة، لكنه وجد نفسه في حجرة أخرى وحوله ثلاثة منهم يطوفون كالذباب الثقيل في عز آب.
كاد يبكي إلا أنه تذكر أن معمر قال له ذات يوم أن الرجال لا يبكون أبدًا. قال في نفسه أي سخافة هذه قال الرجال لا يبكون قال.. لو كنت مكاني الآن يا معمر "لعملتها تحتك"، لأجهشت بالبكاء، أنت سمين وكبير لكنك بغير نفع، أنت يوم حاصروا المخيم وقصفوه صرت تبكي مثل القطط أما أنا فكنت أهدئك مثل الكبار..
 
انفجر باكيًا.
- إننا نتحدث معك يا كلب.. لماذا لا تجيب ؟
بتلعثم، قال وهو يمسح دموعه :
- ماذا تريدون مني؟
أمسك أحدهم بعنقه ولواها. وكان هذا أكبرهم وأضخمهم كما بدا له.
- نحن فقط من يوجه الأسئلة.من قال لك ارمي الحجارة على جيب الجيش؟
- لا أحد.. لا أحد.
ركله الآخر كما تُركل قطة مزعجة، حتى التصق جسده بالحائط الطويل.
- أتريد أن نطحن لكَ جمجمتك؟! أو تجيب على السؤال؟!
- .....
 
كان الدم يسيل من أنفه، فمه ويديه. قال لهم ببحة:
- أعطوني الساعة.
 
تناوبوا على ركله.. فأصبح جسده كأنه معجون بالحائط وأن لدمه رائحة الإسمنت ذاتها التي بني الحائط منها.
 
 أخذ دمه يتدفق بعنف أكثر، فأكثر، لكنه ابتسم وتراءى له مطاط النقيفة مشدودا إلى الخلف، ولمّا أفلته انطلق الحجر فغاص في الغيوم.. ظل يغوص، يغوص حتى اهتز العرش.!

التعليقات