31/10/2010 - 11:02

أمجد ناصر: النثر طريق الشعر...

-

أمجد ناصر: النثر طريق الشعر...
“الحياة كسرد متقطع” حاجة في شعرنا. اذا كان أمجد ناصر يريد ان يصل الى الشعر عن طريق النثر فقد فعل هذا وعكسه. وصل ايضا الى الشعر عن طريق النثر. هذا الجدل هو محرك كتابه الجديد. لقد نقل تمرسه بالشعر واللعبة الشعرية الى الفضاء النثري، ليست شعرية النثر وحدها الموضوع هنا، بل اعادة وتجديد السؤال الشعري عمل كهذا من المهم ان يستولد سجالا، وليس غرض هذا الحديث سوى التحريض عليه.

- في مجموعتك الشعرية هناك نزوع الي التجريب بلغات وجمل متعددة، هذا مزاج ام اختيار محسوب.. هل تعتبر نفسك تجريبيا وهل للتجريب قيمة بحد ذاته، ام هو محاولة لتوسيع الحيّز الشعري؟

ناصر: "النزوع للتجريب قائم عندي كما هو قائم عند معظم الشعراء، او لأقل عند الشعراء الذين تعنيهم قضية الشعر، وتؤرقهم اسئلته. نادرا ان تجد شاعرا مهتما بسؤال الشعر وقضيته وليس فيه شيء من التجريب. التجريب، في كل حال، هو تعبير عن قلق ذاتي وموضوعي في آن، كما انه رفض، بطريقة او اخري، لما هو قائم. لماذا تجرب اذا كنت تألف وتطمئن تماما الى ما تعرف وما يتواضع عليه الآخرون؟ المطمئن الى ذاته وادواته وعالمه هو الذي لا يجرب.. فلماذا يجرب والطمأنينة تسري في قوله وموقفه من العالم. قد يبدو التجريب لعبة لا قصد لها سوى ذلك.. ولكني اظن انه ابعد من اللعب واستعراض المهارات.. انه قلق. وزحزحة عن السياق والثبات اللذين لا يفسحان مجالا لهواء ودم جديدين.

"بهذا المعنى اعتبر نفسي تجريبيا.. فأنا اصلا انقلبت، باكرا، على ما كان سائدا في الكتابة الشعرية.. ومذ ذلك وجدت نفسي خارج التلقي العام. ليس لي، اصلا، حصة في هذه السوق، فصارت علاقتي بالشعر شخصية تماما. أي إنني أكتب ما يرضيني ولكن هذا لا يعفيني من المسؤولية، إن كانت هناك مسؤولية اصلا، حيال وضع الكتابة الشعرية، فرغم انني اكتب في وضع تام من العزلة واحساس بعدم وجود التلقي، الا ان تجريبيتي ظلت في حدود ما هو تجريبي اصلا في الشعرية العربية. فقد كتبت ودافعت عن سياق شعري معين ضد سياق آخر، وخضت مع غيري حروبا من أجل ان تتقبل الثقافة العربية خيارنا الشعري الذي بدا وكأنه من خارجها.
وهذا يعني، في ما يعني، ان التجريب هو ايضا توسيع للحيز الشعري وطرح اقتراحات على الشعرية."

- آخر مجموعاتك “مرتقى الانفاس”، لا تنمّ عما ستصل اليه في الحياة كسرد متقطع، بالعكس يبدو انك وصلت في الاولى الى نهاية مقلب وانتقلت في الثانية الى مقلب مختلف. ان لم يكن العكس، كيف حدث انك وصلت في فترتين متتابعتين الى طريقين شعريين متعاكسين، او على الأقل مختلفين الى هذا الحد؟

ناصر: "أذكر، انك انت نفسك، كتبت حيال “مرتقى الانفاس”، تقول ان هذا الكتاب نوع من الاكتمال، ولا بد ان الشاعر في سبيله الى رحلة اخري .لماذا تنبأت بذلك؟"

- لماذا؟

ناصر: "لأنك لاحظت هذه النقلات بين الاعمال عندما جمعت في مجلد واحد. انا شخصيا لاحظت ان كل مجموعة تنتهي بما يشي ان هناك طريقاً آخر للمجموعة اللاحقة، خذ مثلا “مديح لمقهى آخر”، لقد ضم ما سيشي بهذا الانقسام والانقلاب على الذات. كان يمكن ان يكون، لو انني اضفت اليه كل القصائد التي كتبتها في الاردن قبل مجيئي الى بيروت، موزونا تماماً. حينها كنت اكتب قصيدة الوزن.. ولكن بيروت غيرتني. فجاء الكتاب الأول حاملا لبذرة الانقسام التي سترافقني طويلاً. تذكر انه ضم في ثلاثة ارباعه قصائد موزونة وفي ربعه الاخير قصائد نثر او لأقل قصائد تتحرر من الوزن.

"كان يمكن ملاحظة الوجهة القادمة من الربع الاخير من قصائد الكتاب. صحيح انني لم اعد الى الوزن في الكتب اللاحقة، ولكن الكتاب الثاني “منذ جلعاد”، لا يشبه كثيرا الكتاب الثالث “رعاة العزلة”، من حيث الكتابة والموضوعات، كما ان وصول “الغرباء” كتابي الرابع كان يحمل، عندما صدر عن دار رياض الريس في لندن عام 1990، بذور الكتاب اللاحق “سرَّ من رآك”، بل انني ضممت الى سر من رآك قصيدتين او ثلاث قصائد من وصول الغرباء ابرزها القصيدة الطويلة، “وردة الدانتيلا السوداء”، ثم ان “مرتقى الانفاس” كتاب شعري يذهب الى موضوعة تاريخية هي سقوط غرناطة، وبهذا فهو يختلف تماما على اعمالي السابقة سواء من حيث الموضوع ام شكل الكتابة وأفق تحركها.

"أليست هذه انتقالات ايضاً، انها ليست سلسلة مترابطة كخرز الدرع. لست شاعراً يواصل كتابة قصيدة واحدة، ولا مشروعاً واحداً، ولا شاعرا ينضبط الى سياق، بل لعلني شاعر مزاج وقلق. هل يجعل هذا مني شاعرا تجريبيا، او شاعرا بلا صوت منتظم وعالم متواصل، قد يكون الأمر كذلك. ولكن هذا ليس صحيحا تماما. فقد ظلت هناك ثيمات وظل هناك قاموس وظلت هناك جمل تتواصل من عملي الاول الى عملي الاخير. لعلني شاعر عالم واحد ولكني احفر فيه كل مرة، من طبقة ووجهة مختلفة، وبأدوات مختلفة.

"ثم، اخيراً، لا تنسَ أن “مرتقى الانفاس” مكتوب، تقريبا، في منتصف التسعينيات، ولم اصدر كتاباً شعرياً مذ ذاك. اي ان هناك نحو عشر سنين مضت على كتابة هذا الكتاب، وجاء بعده كتاب صغير آخر، مختلف ايضا، هو تلكأت في اصداره لانني شعرت انه صار بعيدا عن مزاجي الشعري بعد ان بدأت في حياة كسرد متقطع، والمفارقة انه سيصدر هذه الأيام في عمان. غير انني لن أسلسله بعد حياة كسرد متقطع بل قبله، حتى وان صدر بعده بشهر او شهرين تقريباً."

- لا نشك ان الحياة كسرد متقطع، كما يقول احد نقادك محمد علي شمس الدين ذو وجه نظري ونقدي للشعر. يمكننا القول، اذن، انك لم تصل اليه بالمزاج وحده، بل بقدر من التأمل في الشعر، ما هي دواعيك الى ذلك.. اقصد الدواعي النظرية؟

ناصر: "حسنا، لست من الذين يحسنون التنظير للشعر، ولكنني، في المقابل، لم اكتب شعرا مزاجياً خالصا قط، اي انني، منذ كتابي الاول، وانا مشغول بسؤال الشعر. وكل انتقالاتي، او قفزاتي اذا شئت، كانت مدفوعة بهذا الهاجس. رأيي في الشعر والشعرية كنت اعبر عنهما بالشعر نفسه. ثمة من يستطيع ان ينظّر ولا يأتي التنظير قريباً من كتابته. لدينا الكثير من هؤلاء، اصحاب البيانات الشعرية، وانا، لا اقلل من قيمة ذلك، ولا اعرّض بهم.

"ولكنني نادرا ما رأيت القصيدة صاحبة البيان النظري مطابقة للبيان نفسه، قصيدتي معاكسة لذلك تماماً. انها تفكر في الشعر وهي تكتبه. تفكر في وجهته، موضوعه، اسلوبه حتى وهي تخوض فيه. لكنها لم تصل في وقت من الأوقات الى درجة البيان الشعري، اذا جاز القول، الا في هذه المجموعة الأخيرة.

"دعني اقول انني سعيد لأن اول استجابة نقدية تجاه الديوان جاءت ليس فقط من شاعر عربي مرموق مثل محمد علي شمس الدين، بل من شاعر راسخ في قصيدة الوزن، وربما، لم يكن على علاقة جيدة مع قصيدة النثر السائدة.. اسئلة محمد علي شمس الدين حول الكتاب والكتابة شديدة الاهمية انها اسئلة الشعر من شاعر تؤرقه قضية الكتابة. شاعر على درجة عالية من الحساسية، حيال القصيدة. لقد اسعدتني مقالته، وربما، طمأنتني الى ان الاسئلة التي اطرحها على نفسي هي نفسها التي طرحها عليَّ وعلى نفسه ايضا. فهو اعتبر الكتاب برمته نوعاً من البيان الشعري، وهذا عمليا، صحيح.

"لم تكن الصدفة البحت هي التي قادتني الى هذا العمل، بل الانشغال الطويل بسؤال الشعر، وتحديدا سؤال قصيدة النثر ورأيي في الأمر كالتالي: ان معظم ما يكتب تحت يافطة قصيدة النثر عربيا ليس قصيدة نثر بالمعني الاصطلاحي الغربي Prose poem بما ان منشأ قصيدة النثر غربي اصلا، بل هو اقرب الى ما يسمي في الغرب الFree Verse اي الشعر الحر.

"ما هو الفرق، فعلا، بين قصيدة النثر في النسخة العربية (او في الغالب الأعم من هذه النسخة) وبين الأصل الذي جاءت منه؟ انه فارق كبير. ولكني دعني اسأل قبل ذلك. ما هو الفارق بين قصيدة النثر العربية، وبين قصيدة التفعيلة، الفارق ليس كبيرا. الأولى لا تحمل وزناً ولا قافية، بينما الثانية تفعل ذلك!

"انت تعرف ان قصيدة النثر الغربية لا تكتب، ابدا، ولا هي قريبة، قطعا، من النسخة العربية. اول الفوارق شكلي. انه تقطيع القصيدة وصفها على الصفحة، اي طالب اوروبي او اميركي في الثانوية يعرف، من مجرد النظر الى الصفحة، الفارق بين قصيدة النثر والشعر الحر. فالاولى تكتب على شكل كتلة نثرية على الصفحة.. بينما قصيدة النثر العربية، في مجملها، لها تقطيع يشبه تماما. تقطيع قصيدة التفعيلة.

"هذا أمر لاحظته بعد سنين من الاقامة في الغرب والاحتكاك بشعراء غربيين، والقراءة في مهرجانات غربية. ولكن هذا ليس هو الفارق او السور الصيني العظيم الذين يفصل القصيدتين عن بعضهما البعض.. فالأمر يتعلق كذلك بعالم القصيدة نفسها، باللغة. كأن طموح الشعر هنا هو النثر وليس العكس، حيث ستجد عالم النثر قائماً بما يعني السرد، ولكنه ليس نثرا اخباريا وظيفيا، بل هو نثر مشعرن اذا جاز التعبير، اي النثر الذي يخترقه توتر الشعر وتثوي في اعماقه، لا على سطحه، جمرة الشعر.

"هذه أمور فكرت فيها كثيراً في السنين الاخيرة. كيف يمكن ان تصل الى الشعر عن طريق النثر؟ او كيف يمكن ان تزج النثر في الحقل المخصوص للشعر؟ قصيدة النثر العربية، السائدة، لا تفعل ذلك تماما. فعالمها ليس نثرياً ومادتها ليست، تماماً، نثرية.. هنا ارجع الى الشكل مرة اخرى. فالسطر الطويل والجملة الطويلة الملتفة التي لا يمكن تقطيعها على شكل قصيدة التفعيلة يمكن لهما ان يستضيفا عالم النثر، بما يعني الحياة النثرية وما هو مستبعد لاسباب جمالية، من القصيدة. وفي هذا الخصوص، قرأت مؤخراً قصائد عربية، ذات سطر طويل.. وذات كتلة، تبدو نثرية، على الصفحة.. ولكن هذه الجملة الطويلة يمكن تقطيعها من دون اي ضرر يلحق بشكلها ونفسها في شكل قصيدة التفعيلة. فالسطر الطويل في هذه القصيدة التي تدعي شكل قصيدة النثر له تجهيز اجباري. فهو، كجملة ونفس ومعنى، ينقطع في منتصف الصفحة. التواصل في السطر والكتلة مفروض من الخارج بينما هو عندي في حياة كسرد متقطع تلقائي ومتدفق بشكل طبيعي، ومن المستحيل تقطيعه او صفّه بطريقة اخرى. هذا الفارق هو الذي يجعل حياة كسرد متقطع أكثر نثرية من كل اعمالي السابقة."

- ولكن ماذا عن عالم هذه المجموعة؟

ناصر: "عالمها، ايضا، مختلف، انها تتضمن استجابة الى اصوات خفيضة غير مدونة، أو لا تجد سبيلا الى التدوين، الشعري خصوصاً، باعتبارها ليست من عدة الشعر وعتاده.

"ان التعالي الجمالي، للقصيدة العربية، ما بعد المرحلة الكلاسيكية، أو ما سميناه ب الشعر الحر، هو الذي جعل شاعرا، مثل محمد الماغوط يحتل، دفعة واحدة، حيزاً كان شاغراً في الشعرية العربية المعاصرة. ولكن قصيدة النثر، العربية لم تواصل طريق الماغوط ونثريته، فظل قسم لا يستهان به منها يعتصم بترفع جمالي ولغوي لا يختلف كثيراً عما هو عليه في الكلاسيكية العربية...طبعا لم يكن هذا قصد قصيدة النثر حتى عند بودلير.. بل العكس تماما، فهو، بوصفه والد قصيدة النثر الغربية كان يحاول الخروج من ارستقراطية الشعرية الي بورجوازية النثر، بحسب وصف الناقد الاميركي جوناثان مونرو. كان النثر هو الوحيد القادر علي استضافة الهوامش والفقراء.. اي انه ايديولوجيا كان في مواجهة الشعر ذي الفضاء الارستقراطي. هل فعلنا في قصيدة النثر العربية هذا؟ اي هل كانت قصيدة هوامش الحياة وبشرها الساعين في مناكبها؟ لا اظن.

- أيضا، في المجموعة الجديدة تنتقل الى لغة نثرية، ليس فقط بسبب صياغتها النثرية: السرد، الاستنتاج، البرهان، التقرير، وانما، اعتمادك على الصورة النثرية، التي هي الكناية او الصورة المأثورة والمتداولة.. اي انك تختار النثر بجملته واسلوبه وصورته، في هذه الحالة أين نجد الشعر؟

ناصر: "كنت أريد ان اكتب في هذا الديوان، قصيدة هي أقرب ما يكون الى ما أقوله وافكر فيه واسمعه في المقهى والشارع، هناك موضوعات لم أستطع ان افكر فيها شعريا في الشكل السابق الذي كتبت فيه قصائدي. وهذا سيرجعنا مرة الى سؤال الشكل باعتباره جوهرا أو أمرا عضويا في القصيدة. لماذا لم أستطع ان أكتب عن القبلة مثل ما كتبت بالعرض والتقرير والاستنتاج والكنايات التي اشرت اليها الا في هذا الكتاب؟ باختصار لأن الشكل السابق لم يستطع ان يقدم لي مثل هذه الخدمة. لقد كتبت شعرا في النثر. هذا تناقض ظاهري أعرفه.. وطرح من قبل، ولكن هذا التناقض، بالذات، هو أحد خصائص قصيدة النثر. ولا سبيل الى حله. بل ربما لا ينبغي حله.. أو البحث له عن حل. ولكن الشعر لا يوجد فقط في شكل القصيدة السائدة وموضوعاتها.. بل يمكنك ان تجده في نثر واسع وعريض في المدونة النثرية العربية التراثية.. لماذا قال بعض العرب القدماء عن سور من القرآن انها شعر رغم انها نثر؟ لأن جوها، تجليها، الحالة التي تنقلها الى القارئ، او المستمع، هي شعر أو قريبة من الشعر. بالطبع لم أفكر في الامثولة القرآنية وأنا أكتب، بل في اليومي والراهن والمعيشي، وكذلك في مخزون الذاكرة الشخصية.. أردت ان اكتب هذا من دون تعال جمالي او اعتصام ببرج عاجي مخصوص للشعر كجنس.. كنوع، متعارف عليه. هل هذا ممكن؟ لا أدري تماما. ولكنني حاولت ذلك."

- هل يمكننا عبر شعرية النثر الوصول الى نوع آخر من الشعرية. شعرية ذات تراث وتجربة كبيرين. اي نصل الى نوع آخر من الشعر، اذا كان مهما بعد ان نسميه شعرا؟

ناصر: "تلاحظ، عزيزي عباس، ان كل اسئلتك تشكيكية. ولا أجد غضاضة في ذلك. ولكن حتى عندك لم تلق هذه المجموعة او هذا الكتاب الشعري او هذا الديوان، سمّه ما شئت قبولاً مريحا، او هيناً.

"هناك قلق في نبرتك استغربه عن صفاء الشعر. كأنك تذود عن حياض المستقر والثابت. او كأنك تشكك في امكانية ان يصل الشعر عبر اللغة، بوسيط مثل النثر.

"لست منزعجا من هذه الاسئلة ولكنها تطرح عندي، مرة اخرى، فكرة استقرار الانواع وثباتها وخصوصا الشعر، وهذه اسئلة لا نطرحها كثيرا على نوع أدبي مثل الرواية او القصة، او فنون اخرى مثل الفن التشكيلي والسينما. افهم ذلك لأن الشعر ببساطة هو تراث عربي عريق وانا لست ناكرا لهذا التراث، بل المشكلة، انني من الذين يهتمون به.

"كل سؤال عن اجناس ادبية، او فنية اخرى نقبله، ولكننا نتريث كثيرا عند الشعر، لأن في المساس بالثابت والمنجز نوع من المساس بالذات. اسمح لي، مع ذلك، ان اقول اننا يمكن ان نصل الى الشعر من طريق النثر، من دون خلط الانواع تماما، ولكن ايضا، من دون الدفاع المستميت عن الانواع.

"الانواع ليست مقدسة بحيث لا يمكن تخطي حدودها.. بل هي تعرضت حتى في شعريتنا الى تغيرات كبيرة بحيث لا يمكن لشاعر او قارئ من عشرينيات او ثلاثينيات القرن الماضي ان يتصور ان الشعر العربي يمكن ان يصل الى هذه الحدود.

"ولكن التواضع على تحديدات معنية للاجناس الادبية اصبح عسيرا جدا حتى في الغرب.. فليس هناك مثلا، تعريف جامع ومانع ينفي كل لبس على الFree Verse، مثلما يصعب اكثر وضع تحديد جامع ومانع لقصيدة النثر Prose Poem. وهذا يعني ان الشكلين متحركين، ومتجددين، على عكس ما يراد له عربيا. فالوزن (اقصد التفعيلة) استقرت على حدود معينة.. لقد اكتفت، بقناعة شديدة، بالبحور الصافية ذات التفعيلة الواحدة.. ونادرا جدا ما تجاوزت ذلك. "

- هذه المحاولة اين تجد اسلافها او اشقاءها الشعريين العرب وغير العرب؟

ناصر: "عربيا، لا اعرف، ولكن غربياً هناك ما يشبه ذلك، خصوصاً في قصيدة النثر الاميركية التي هي الانشط غربيا اليوم."

- هذه محاولة راديكالية وذاهبة نهائيا في العمق، هل يعنيك بعد الدفاع عنها على انها شعر ومحاولة التدليل على ذلك، ام ان لا فرق عندك، وقد تتصرف مثلما تصرف جاك بريفير حينما اثقلوا عليه بالكلام عن ان ما يكتب ليس شعراً، فكان ان عنون احد كتبه نثر وهل يحتمل عنوانك حياة كسرد متقطع ردا كهذا؟

ناصر: "لم اكن اعرف ان بريفير يكتب نثراً وليس شعراً. انا لا أعرف الفرنسية.. ولكننا في العالم العربي لم نعرف بريفير الا شاعرا سواء كانت ترجماته جيدة ام لا. هذا يعني انه حتى وان كان بدا للبعض في فرنسا انه لا يكتب شعرا، بالمعنى المألوف للكلمة، فهو لم يتم التعامل الا كشاعر.

"وبصرف النظر عن المقارنة، بين الشخصين او الكتابتين، فأنا لا اخفي ولا اتنصل من ان ما اكتبه هو شعر في النثر. اعني لم اتنصل من النثر.

"لقد جئت مما يسمى عربيا قصيدة النثر، اعني انني، اصلا، واقع تحت هذه الطائلة، وتحت هذه التهمة: النثر. ولكنني لم اصل ابدا الى هذا الحد من النثر الاّ في هذا الكتاب.

"هذا الكتاب فعلا مادته وقوامه هما النثر ولكن جمرته الخفية او مقصده هو الشعر. اعي التناقض الذي اوقع نفسي فيه. اعرف انني ادافع عن كتابة لم تأخذ هذا المنحى النثري من قبل ويصر صاحبها، في الوقت نفسه، على انها شعر.

"قد اصل الى الحد الذي لا احفل فيه بما يقوله الآخرون عن هذه الكتابة. ولكنني لم أصل الى هذا الحد بعد، ما زال يعنيني ان ادافع عن خياري هذا في اطار الشعر، من دون ان افرض شيئا على الآخرين. دعني اسميه اقتراحا شعريا ليس اكثر.

"ثم لا ادري ان كان جواب الشاعر الفرنسي جاك بريفير في عنوان كتابه مشابها لعنوان كتابي. فلم أواجه باسئلة كهذه من قبل في خصوص اعمالي السابقة. ولكن ربما يتوجب علي ان اوطد النفس عليها منذ الآن. حياة كسرد متقطع يشبه في كلمة واحدة عنوان بريفير انها سرد. كأن سرد هنا، تعني، بالضبط، كلمة نثر .. التي استخدمها بريفير.. ولكن لم اقصد هذا بالضبط.. قصدت ان الحياة هي مثل سرد، ولكنه ليس متصلا، ومتواليا ومتتابعا، بل سرد يتقطع. انه مثل سرود الواقع المشظاة، ومثل سرود الذاكرة ايضا."

- ما هي الردود التي تلقيتها او تتوقعها على كتابك. هل تتوقع تجديداً للسجال حول الشعر، علما ان هذا السجال يكاد يكون متوقفا، وربما الابتكار متوقف رغم كل المظاهر.

ناصر: "الغريب انني القيت كثيرا من قصائد هذا الكتاب في ملتقيات شعرية عربية، وكانت ردود الفعل مستحسنة، ولكنها عندما صدرت في كتاب ران صمت حولها لم يحط ايا من اعمالي السابقة.

"ربما تفيد الملاحظة هنا ان اول كتابات قرأتها في نقد الكتاب او في الكتابة عنه لم تكن من نقادي المعهودين. اول مقال هو كما اسلفت لشاعر لم يتطرق من قبل، رغم انه كتب في نقد الشعر، هو محمد علي شمس الدين، الى اي من اعمالي السابقة، بل كان يخالجني الظن انه يقف منها في الوجهة المقابلة. كان هذا مدهشا حقا.

"مقال اخر اعتبره مهما وحمل قراءة حقيقية للعمل هو للشاعر السوري عابد اسماعيل الذي تابعت نقوده في الشعر في الصحافة العربية ولكني لا اعرفه شخصيا، ولم يكتب شيئا عن اعمالي السابقة.

"تعرف ان شمس الدين كتب عما يحمله الكتاب من رؤية للشعر، وحول الاسئلة التي افترض ان الكتاب يطرحها على المشهد الشعري العربي، بينما لم يتوقف عابد اسماعيل عند ما اثاره شمس الدين الاّ في جملة واحدة في ختام المقال يقول فيها ان هذا الكتاب يضيف حساسية جديدة الى قصيدة النثر العربية.

"أي انه اعتبر وقوع هذا الكتاب في حيز الشعر مفروغا منه ولا يحتاج الى وقفة، فصرف باقي المقال، وهو طويل، في الحديث عن البنية الدرامية والحكائية، التي يتضمنها الكتاب.

"هذا يعطيك فكرة عن نوعين من المقاربة النقدية للكتاب، وان كنت اتوقع ان اسئلة شمس الدين ربما تكون الغالبة على رد الفعل. هذا من دون ان ننسى ان الكتاب مقدم اصلا من طرف ناقد اساسي في شعر اللحظة العربية هو صبحي حديدي، الذي كان مدركا تماما للاشكالية التي قد يطرحها الكتاب خصوصا لجهة الجنس الادبي. فشدد في كلمته الدقيقة على كونه قصيدة لا قصة او اقصوصة شعريتين. "

"اما بخصوص بعث السجال في الشعرية العربية فلا اتوقع ان يفعل كتاب واحد هذا الأمر. اتفق معك على توقف السجال، بل ربما على موته في كثير من قضايا الحياة العربية. انها لحظة رجراجة ومهزوزة لا يكاد يثبت فيها شيء. لحظة لم نعرفها من قبل، ولا ادري ان كانت ايذاناً بانطلاق رؤي وتصورات جديدة ام انها ستفضي الى موات فعلي."

- ماذا بعد هذه المحاولة التي يبدو وكأنك وصلت الى نوع من الذروة، والى الاقصى، الى اين سيصل الأمر؟

ناصر: "لا ادري الى اين سأصل، ولكن المؤكد، حتى الآن، ان مزاجي الكتابي لا يزال في جو هذا الكتاب. هناك حالة دفع قوية ما ازال مندرجاً فيها، ولا اشعر انني استنفدتها.

"وبقدر ما هذا الكتاب كما تقول ذروة وحدّ اقصى، فهو ايضا بداية. فكيف تستقيم البداية. مع الذروة، اجد الأمر عسيرا على التحديد.

"المؤكد بالنسبة لي ان هذا خط أو لأقل مرحلة على غرار ما هو موجود عند الفنانين التشكيليين الذين يحلو لهم ان يقسموا اعمالهم الى مراحل. هذه مرحلة قد تستغرق كل ما تبقى لي من كتابة وقد لا تطول، وقد تتداخل مع خط قديم، او شيء مستحدث.

"لست معنيا بعد الآن بالسياق الشعري العربي السائد.. لا يهمني ان ابدو غريبا او شاذا داخله.. فأنا لا اعيشه حياة، بل اطل عليه من بعيد. حياتي موزعة على اكثر من ضفة وجهة.

"احببت، شخصيا، الحل الذي عثرت عليه للمأزق الذي وجدت نفسي فيه بعد مرتقى الانفاس، ما اكتبه الآن هو استمرار ل”حياة” كسرد متقطع وهو يلبي حاجتي الشخصية والفنية لايجاد مسرب آخر للشعر في شكل مختلف. ولكن هذا السؤال طرح عليَّ شخصيا من بعض الاصدقاء الذين بدوا قلقين من انني اضعت طريق الشعر.

"يريدون ان يتأكدوا ان ما كتبته في هذا الكتاب مجرد نزوة سرعان ما انتهي منها لاعود الى الشعر.

"هل ترى اننا نبقى احيانا في تعريف الشعر، نقول ان الشعر هو هكذا وهكذا، وافترض ان قصائدك امثلة على هذا التعريف، او على الاقل، امثلة لهذا التعريف. اذا كنا نبقى في التعريف، اليس للانجاز الشعري قيمة بحد ذاته، قيمة لا تنحصر في التعريف؟

"كل تاريخ الشعر محفوف ومخترق بالتعريف. لم يتوقف الشعر قط عن ان يطرح مثل هذا السؤال، ولكنه لم يحصل مرة واحدة ان وصل الى تعريف جامع مانع. هناك تواضعات معينة، خطوط كبرى يتم الاتفاق عليها في لحظة تاريخية معينة ولكنها سرعان ما تتغير بتغير اللحظة نفسها، بل ثمة دائما من كان يناهض الاجماع، اذا افترضنا ان هناك اجماعاً.

"واظن ان التعريف كان يسير في محدداته وقيوده في جهة فيما الشعر يمضي في وجهة، اخرى، او على الاقل. في وجهة خاصة به. الشعر هو أبن الانجاز أبن الكتابة وليس وليد التعريف. لم ينطلق شعر قط من التعريف. التعريف دائماً لاحق على الكتابة.

"في الخمسين سنة الاخيرة عرف الشعر العربي عددا كبيرا من التعريفات، او من محاولات الوصول الى اجماع على ما هو الشعر، ومن اي طريق يأتي وبأي شكل يكتب. لكن الاجماع لم يحصل. صحيح ان هناك تيارا يسود كل مرة ولكنه لا يتواجد وحده، بل غالباً ما توجد مناهضة لهذا التيار من طرف شعراء وكتابات اخرى. وهكذا، نحن الآن، رغم ما يبدو من اجماع في اللحظة الشعرية على تعريف، فان هذا مجرد سطح خادع.

"الواقع ان هناك استنقاعاً او استنفادا للقوى والطاقة هو الذي يجعل مثل هذا التعريف مستقرا.

- هل تتوقع في كتاب جديد تسوية ما، وعودة الى عناصر بدأتها في مجموعتك هذه؟

ناصر: "ممكن، لأن هذا الكتاب كما قلت هو بداية وليس ذروة او نهاية طريق. وككل بداية هناك تعثرات، هناك شوائب ربما تحتاج الى تصحيح او تصفية. كتبت على نحو هادر وبلا انقطاع قصائد هذا الكتاب، بدا لي التيار جارفا، وقد يكون هذا التيار الجارف حمل ما يدعو الى التصفية والعزل والتنقية.

"ورغم الجو الموحد الذي ينطوي عليه الكتاب الاّ ان هناك نغمة واحدة قد تكون هي التي سيصار الى الركون اليها، او تعزيزها."

- قصيدتك عن ابن عربي في المجموعة، وهي بالمناسبة جميلة جدا، لاتندرج تماما في سرديتك الرديكالية، مع ذلك فهي من اجمل قصائد المجموعة بدون ان تبدو مختلفة تماما. او خارجة عنها.. الا يدعوك هذا الى التساؤل عن الحاجة الى تسوية اكثر من نفض راديكالي؟

ناصر: "من الممكن ان يحصل هذا، فالكتابة تملك القدرة على تصحيح او تعديل مسارها. هذا نوع من الغريزة، اذا جاز التعبير، تنطوي عليه الكتابة اصلا.

"قد تكون لهذه الملاحظات، لهذه الاسئلة المدوخة التي حاصرتني بها، وكذلك ردود الفعل الاخرى، دورها في التسوية التي اشرت اليها. وبخصوص قصيدة ابن عربي، بالمناسبة هناك قصيدتان عن ابن عربي في الكتاب، واحدة تتحدث عن تحولات سحرية تحدث لي داخل ضريحه الذي زرته فعلا، وظلت هذه الزيارة في ذهني طويلا الى ان وجدت تعبيرا شعريا عنها في هذا الكتاب، والثانية نوع من المساءلة لما هو دنيوي وما هو إلهي عند ابن عربي. ربما لم تكن هذه هي القصيدة الاولى في الديوان، ولكن الديوان بدأ من لحظة صوفية او دعني اقول على نحو ادق، من لحظة اقتراب ومساءلة للحالة الصوفية ولشيوخ متصوفين بعينهم مثل السهروري ايضا. وقد افضي عملي الشعري السابق على هذا الكتاب الذي سينشر قريبا وهو بعنوان “كلما رأى علامة”، الى اجواء الكتاب الجديد حياة كسرد متقطع ففي ذلك الكتاب تأملات شبه ميتافيزيقية ولو انها اتخذت الطابع الشذري.

"هناك اختلاف، ربما في الايقاع بين قصيدة مساءلة ابن عربي وبعض القصائد الاخرى في حياة كسرد متقطع الايقاع مشدود اكثر، الحالة شعرية اكثر ايضا، السرد اقل حدة، ربما هذا هو الذي اعطى الانطباع باختلافها النسبي من باقي قصائد الكتاب.

- لغتك كلاسيكية، متينة، هل هذا نوع من البديل عن الانفجار اللغوي الفلكي السيال والمائع المعروف. ماذا عن اللغة، هل تنكفئ من موضوع للشعر وغرض الى اداة ام ان المسألة مختلفة، او اننا لا نستطيع ان نجزم؟

ناصر: "انا اصلا، لست من مدرسة اللغة الانفجارية، الفلكية السيالة، لم اكن قط، قريبا، من هذه المدرسة التي لم يقنعني ابدا، انفجارها اللغوي الذي يطغي على الشعر، بل يصبح هو الشعر.

"اللغة عندي اكثر من وسيط واداة واقل من غرض. اي ان اللغة ليست مجرد حامل للمعنى، بل هي عضوية في الكتابة واساسية ولكنها لا تتحول الى غاية، الى نهاية الكتابة وختام مطافها. المعنى مهم عندي، الصورة اكثر اهمية، انا شاعر صور.. ولكنها ايضا صور منضبطة. باختصار انا شاعر معتدل في اللغة والصبور ولكنني قد اكون متطرفا في الخيارات او في زج هذين الاعتدالين في راديكالية لا تشط، على ما آمل، عن غرضها. اما العماء اللغوي، الانشطارات والتداعيات التي تنساق لغواية اللغة فلا اطيقها.

"كنت اظن انني انحزت الى لغة بسيطة، واحيانا شفوية، في هذا الكتاب على عكس ما فعلت في “مرتقى الانفاس” او في “سر من رآك”، ولكن يبدو ان أثار هذين الكتابين الخاصين في مدونتي الشعرية لا تزال ملموسة.

"اقول لك شيئا.. كنت اريد ان اتخفف، ما امكن من البلاغة والصور، وكل ما يمكن ان يصنف في خانة المهارات، في هذا الكتاب اردت ان اصل الى الدرجة صفر في البلاغة.. ولكنني على ما يبدو لم انجح في ذلك.

"كان هذا في رأس مقاصد حياة كسرد متقطع . اذكر انني تحدثت معك في هذا الشأن اكثر من مرة في لقاءاتنا المتقطعة..لقد لاحظت انت شخصيا ان ميلا مشتركا في قصيدتنا ينحو نحو مباشرة الموضوع من اقرب وجهة لغوية وجمالية، وهذا يعني ان امر اثبات القدرة والمهارات اللغوية والجمالية لم يعد هاجسا."

التعليقات