31/10/2010 - 11:02

أمجد ناصر: لا أستحي من أن أكون مديناً للكثير من معاصريّ حاورته عناية جابر

أمجد ناصر: 

لا أستحي من أن أكون مديناً للكثير من معاصريّ

حاورته عناية جابر
أمجد ناصر واحد من أكثر الأسماء الشعرية اليوم فرادة، حياته الأدبية سلسلة مغامرات وسلسلة تجارب اقترب بجرأة وتمكن من أكثر المواضع استعصاء وحصانة ولعل ديوانه «الحياة كسرد متقطع» مثل على غزو الشعر بالسرد والنثر الى ابعد ما يمكن، وعلى وصول المغامرة الشعرية الى حدود غير مسبوقة. كان لنا معه هذا الحديث



«طريق الشعر والسفر»، يبدو سيرة شعرية بالدرجة الاولى. ما الذي يحدوك الى كتابة سيرتك الشعرية. هل تريد منها بسط آرائك حول الشعر؟



هذا الكتاب ليس سيرة شعرية بالمعنى الدقيق للكلمة. إنه مزيج من سيرة القصيدة وسيرة الشخص، في اطار فضاء سجالي عام في الشعر والسياسة وخياراتهما المطروحة في الفترة نفسها. هو بهذا المعنى أقرب الى الشهادة منه الى السيرة وللأمر مناسبته. الكتاب، كما هو واضح ومدون فيه، ينطوي على شهادتين طلب إلي كتابتهما في مناسبتين مختلفتين الأولى تتعلق بمؤتمر للشعر الاردني والثانية بمؤتمر قصيدة النثر الذي أقيم في بيروت. الشهادة ليست سيرة كاملة وإن كانت تنطوي على عناصر سيرية، إنها محاولة لتبين موقع قصيدة، أو كتابة، الشخص الذي يشهد على نفسه، أو زمنه، في لحظة معينة. يعني هي مقطع زمني ومعرفي وحياتي. أما السيرة فأظن أنها مفتوحة. ما دام المرء يعيش ويكتب تتوالى لحظات حياته وكتابته، صعودا ونزولا، تنعطف او تسير في نفس الاتجاه، أو تنوع عليه. أي أنها في حالة حركة مستمرة. حتى لو توقف الشاعر أو الكاتب عن الكتابة فلا اظن انه يتوقف عن التفكير في الكتابة أو الحياة التي لا يزال يشعر بها تنبض فيه، تخترقه، وتمر. بهذا المعنى تستحيل كتابة السيرة. لأنه يستحيل القبض على كل ما جعل تلك السيرة ممكنة. الذاكرة مراوغة وانتقائية، والنسيان يظلل مناطق ربما كنت مهمة وحاسمة في حينها. السيرة ليست فقط ما يكتبه المرء عن نفسه، فهناك سير تكتب عنه، تلك سير غير ذاتيه وهذا جنس كتابي رائج، قائم بذاته في الغرب، فيه من البحث والاستقصاء والاستنتاج والكشف أكبر ربما مما يفعل الشخص حيال نفسه.



هل ترى أنك وصلت الى نتائج فعلية في بحثك عن الشعر؟



النتائج الفعلية التي توصلت اليها خلال أكثر من ثلاثين سنة على اصدار عملي الشعري الاول هي اعمالي نفسها. لم ابسط في كتاب الشعر والسفر نتائج نهائية وأحكاما قاطعة. ففي الشعر يصعب اصدار احكام او تحديدات حاسمة. ما توصلت إليه، حتى بعد السجال عن الاساليب والاشكال الشعرية، هو أن للشعر وجوهاً متعددة، هناك أكثر من قصيدة وهناك حاجات مختلفة لكل قصيدة. ما هو موجود من شعر موجود لأن هناك حاجة اليه، عندما لا تعود هناك حاجة يختفي. لا أزدري اليوم شعرا ما كما كنت أفعل من قبل. لو لم يكن لهذا الشعر من يتلقونه لما وجد أو لما بقي. هناك شعر كثير ومتعدد بعدد حاجاتنا واختلافنا وتنوعنا، اقول هذا رغم انحيازي الذوقي والكتابي والمعرفي الى شعر دون غيره.



أثر الترجمة



تذكر أسماء لشعراء وأصدقاء أثروا في تجربتك الشعرية وهي بعد في أولها . هل هناك أسماء أثرّت في تجربتك وهي في شبابها ونضجها ؟



الأسماء التي ذكرتها في معرض تأثري بها، أو في معرض صداقتي معها ورحلتنا في طريق الشعر أساسية في حياتي. فلولا تلك الاسماء ما كنت أعرف ماذا سأصير وأي طريق ستتخذ حياتي. خياري الشعري كان خيارا في الحياة ترتبت عليه استحقاقات كبيرة.

في البدايات يسهل الحديث عن تأثير. انه واضح في طريقة الكتابة. يسهل أن ترد شاعرا الى سعدي يوسف أو أدونيس أو محمود درويش أو أنسي الحاج أو الماغوط إلخ.. ولكن ذلك التأثر يتعقد أكثر في ما بعد. هذا لا يعني أن التأثيرات تتوقف بعد ذلك ولكنها تصبح مراوغة أكثر، تغادر السطح لتستقر، ربما، في النسيج العميق للكتابة. طبعا هناك من تظل تأثراتهم الاولى تطبع مسيرتهم الى فترة طويلة ولكني لست، على ما أظن، من هؤلاء. لا أستطيع أن أسمي اسما واحدا ولا تأثرا طاغيا كبيرا بعينه، إذ ان ذلك، على ما أعتقد، لم يحدث في الفترة اللاحقة على البدايات، ولكني أستطيع أن أسمي تأثيرات الترجمة.

جيلنا كان الأكثر عرضة للترجمات بصرف النظر عن جودتها أو أمانتها للأصول. الترجمات، بحسب عباس بيضون، تحولت عندنا الى أصول. لنأخذ مثلا سان جون بيرس أدونيس، أو ريتسوس وكفافي سعدي يوسف. تبين لنا لاحقا أن هذه الترجمات التي أثرت على جيل كامل طبعت بشعر ولغة مترجميها. هذه الأسماء الأجنبية الثلاثة حضرت بقوة في النص الشعري السبعيني وما تلاه قليلا. لا يمكن، حسب ظني، معرفة تاريخ الشعرية العربية الحديثة بدون معرفة المؤثر الأجنبي، أقصد بدون معرفة دور الترجمة في فتح طرق للقصيدة العربية الحديثة، في إدخال هواء جديد اليها، في خفض صوتها وذهابها الى موضوعات لم تكن معاينة شعريا عندنا من قبل على هذا النحو. تعجبني جملة لبورخيس منقولة من كاتب آخر، كاتب حقيقي أو متخيل على عادة بورخيس، تقول إن الكتاب أو الشعراء لا يحبون أن يكونوا مدينين لمعاصريهم. لكني أعتبر نفسي مدينا لكثير من معاصري، إن لم يكن في القصيدة نفسها ففي فهم الشعر. أكيد أنني أفدت من كل قصيدة جميلة قرأتها، من كل مقال وسع مداركي وفهمي للشعر، من كل ترجمة وقعت على لحظة نفسية وكتابية معينة كنت أمر بها. ليس بوسعنا احصاء المؤثرات التي تشكلنا كبشر وكتاب وشعراء.

ليس هناك شيء نقرأه أو نمر به أو نسمعه لا يؤثر فينا. نحن، في الواقع، حصيلة كل ذلك. يثير عجبي، إن لم أقل انزعاجي، كلام الشعراء عن صفاء تجاربهم وخصوصيتها. تضحكني كثيرا كلمة الخصوصية. إذ لا وجود لخصوصية خالصة، إنها خرافة مثل خرافة الصفاء في العرق.. قرأت مرة لشاعر شهادة شعرية لم يرد فيها اسم شاعر أو كاتب أو رسام أو فيلم واحد. لا وجود لاسم علم واحد. عجبت كيف جرؤ ذلك الشاعر على البدء، شعرياً، من نفسه والانتهاء اليها. فمجرد أن تطلع شخصا على نصك قبل نشره تعرضه لتأثير ما.. كلام كهذا يمشي ويعتمد في عالم عربي لا يمحص ولا يدقق، في ساحة شعرية ونقدية كسول تأخذ الكلام على علاته. لا أريد أن أواصل الكلام في هذا الموضوع، الآن، ربما أعود إليه لاحقا، ولكني لا أجد غضاضة في القول إنني، كشاعر وكاتب، ابن لأكثر من أب، أتحدر من أكثر من سلالة واحدة، تجري في شرايين كتابتي دماء كثيرة يصعب ردها الى مصدر واحد.



مواصفات القصيدة اللبنانية



تتكلم عن بيروت وعن ميلك الى التجربة اللبنانية ، لكن هذا الميل لم يجعل قصيدتك لبنانية. كيف؟ وما دمنا في هذا السياق ألا ترى بحثك الشعري أو انعطافاتك الشعرية كانت تتم في الوقت الذي كان فيه شعراء لبنانيون يشاطرونك البحث ويمرون على طريقتهم بانعطافات مماثلة . ألا يجعلك هذا أيضا جزءا من هذه التجربة اللبنانية ؟



لا أملُّ من الحديث عن التجربة اللبنانية التي اعتبرها مؤسسة في الحياة العربية بما يتعدى الشعر الى شؤون عامة عديدة. عدم مللي عائد الى قناعة فكرية وشخصية راسخة. الأمر يتجاوز الميل العاطفي إلى ما هو أبعد. سأتحدث هنا عن الشعر لأن هذا سياقه، أتفق أولا مع القول بوجود قصيدة لبنانية بالمعنى العام للكلمة، مثلما نقول قصيدة عراقية وقصيدة مصرية واخرى سورية او مغربية. بهذا المعنى هناك قصيدة لبنانية ولعلها الأوضح على هذا الصعيد. أولا علينا ان نتذكر أن نقاشات الحداثة ومساجلاتها اتخذت من بيروت مسرحا لها. صحيح أن عربا كثيرين شاركوا فيها ولكن الصحيح أيضا أن لبنانيين اسهموا، على نحو خلاق في ابتكار أسئلتها، بدءا من جبران والمهجريين وانتهاء بجيل السبعينيات اللبناني وربما من جاؤوا بعده. كان الكلام في الحداثة والتجديد شاملين في لبنان، أي أنهما انطلقا من الكتابة ولم ينتهيا بالمسرح مرورا بفنون أخرى عديدة. المفارقة أن موجة الحداثة والتجديد لم تنعكس كثيرا على بنية المجتمع اللبناني ذات الجذر الطائفي والاقلي العميق. أي أنه في الوقت الذي كانت فيه الحداثة تتحرك في فضاءات الكتابة والمسرح والرسم والغناء (التجربة الرحبانية مثلا) متجاوزة التقليد والترديد لم تستطع أن تفعل الشيء نفسه في البنى الطائفية القائمة.. ولكن هذا موضوع آخر. لبيروت تأثير حاسم على حياتي الشخصية والشعرية. إنه أعمق تأثير عرفته كما أظن.

فالتحولات التي عرفتها حياتي الشخصية والشعرية في هذه المدينة صنعت لي مسارا لم تتغير خطوطه العريضة كثيرا. كل خيار اخترته في بيروت كان له تأثير بعيد المدى علي. ربما بإمكان آخرين أن يقولوا الشيء ذاته عن علاقتهم ببيروت. صحيح أن قصيدتي التي كتبت في بيروت لا تشبه القصيدة اللبنانية ولكنها ما كانت ستكون بالصورة تلك لو الاحتكاك بالتجربة اللبنانية، وبالقصيدة اللبنانية والكلام عن الشعر الذي تصدى له لبنانيون. لست لبنانيا بالطبع، هذا معروف، فقد جئت من بلدي الاردن حاملا زادا معي، حاملا تصورا للعالم، غير أن هذا التصور تعرض لتعديلات تكاد تكون جذرية في بيروت ومن ذلك تصوري للشعر والقصيدة، وربما الحياة. المنشأ الذي جئت منه ترك أثره على قصيدتي. على موضوعاتها، إن جاز لنا القول، على نبرتها، عموما على ما يمكن أن نسميه انشغالاتها. ذلك هو الجزء الاردني في قصيدتي، أما ما هو لبناني فيمكن رصده في تحولات الشكل التي طرأت عليها، في فكرة الانفتاح على نص آخر، في محاولتها تجنب الصوت العالي والتمظهرات الاجتماعية والسياسية المباشرة، في سعيها لكشف النقاب عن الشعري في ما كان يبدو غير شعري، في الصغير والأقل أهمية وربما في العادي.



أن تكون يساريا ولا تكتب شعرا وطنيا



وجدت تفاوتاً بين تجربتك الشعرية وتجربتك السياسية. هل ترى أن الاولى قد تكون مختلفة الى حدّ التناقض عن تجربتك السياسية ؟ هل يسير الأدب والسياسة في صعيدين مختلفين متضاربين. هل يؤدي هذا الى أن تكون السياسة في محل والأدب في محل آخر ؟



صحيح أن السياسة هي التي جعلتني أغادر مكاني الأول ولكن الصحيح أيضا أن الشعر كان في صلب حركتي وبحثي عن حقيقة ما في هذا العالم. السياسة في الزمن الذي عشت فيه كانت ضربا لازما تقريبا لكل الذين لهم علاقة بالكلمة. كان يصعب تصور كاتب أو شاعر بدون موقف سياسي أو انتماء لتنظيم. كانت تلك ضريبة المرحلة وما كنت استثناء، بل الاستثناء أن يكون هناك من ليس له علاقة بالعمل العام سواء داخل تنظيم او خارجه. حتى اولئك الذين خرجوا من الاحزاب والتنظيمات وراحوا يكتبون ضدها لم يكونوا بعيدين عن سياسة ما. التفاوت موجود لأن الوسيطين مختلفان. المشكلة أن الذين أرادوا أن تكون القصيدة امتدادا للشعار او الانتماء السياسي المباشر غفلوا أن القصيدة تصدر من موقع آخر ولها طريقة اشتغال مختلفة وتعتمد لغة لا تشبه لغة السياسة، أي ربما غفلوا عن كونها فنا، والفن له متطلباته وله نهمه في توسيع حدوده والدفاع عن حيزه ومساحته.

كنت أريد من كل قلبي أن أكون يساريا ولا أكتب شعرا يساريا بالمعنى المباشر للكلمة ولكن هذا الخيار لم يكن متاحا، أو لعله لم يعثر على انموذجه من داخل الساحة الشعرية العربية. العون جاءني، وربما جاء غيري، من نماذج أجنبية. من ريتسوس مثلا. فهذا شاعر يساري، بل شيوعي، وقادر في الوقت نفسه أن يلحظ الشعري في العادي، في الاسطوري اليوناني الخفيف، في الشارع والمقهى والبيوت التي تشبه بيوتنا والنساء اللواتي يشبهن أمهاتنا، في رجل يحلق ذقنه أمام المرآة، في جرة ماء معلقة امام بيت ريفي. أي باختصار بكل ما كان يبدو لذوق اللحظة غير سياسي. فكيف تمكن كتابة هذا في ساحة شعرية عربية ذات عقيرة عالية ولغة مجلجلة ومواقف قاطعة؟ كيف يمكن أن أكون يساريا في السياسة ولا أكون يساريا، بمفهومنا لليسار، في الشعر؟ هذه أسئلة انطرحت علينا بقوة نحن الذين لم نغادر العمل السياسي أو العمل العام، ولكننا لا نريد أن نكون امتدادا لشعار التنظيم. جوابي كان بسيطا: الاستمرار بالانتماء الى العمل العام وكتابة قصائد منشغلة بما يمكن أن أسميه لحظتي الانسانية. بي كشخص يحب ويجلس في مقهى ويسهر ويسمع موسيقى ويشاهد أفلاما ويكتب على شرفة تطل على شرفات أخرى في «الطريق الجديدة» في بيروت. هل هذا انفصال تام عن السياسة؟ قد يكون. سهَّل الموضوع عليّ أنني لم أكن شاعرا يشار إليه بالبنان كما يقولون. لم يكن هناك من ينتظر قصيدتي عن حدث في فلسطين او جنوب لبنان او في بيروت الغربية، ناهيك عن ثورات اميركا الجنوبية وافريقيا وآسيا. كان هناك آخرون يتصدون لهذا المهمات.





مفارقة القوة والضعف عند بسام حجار



تكلمّت بإسهاب نسبي عن تجربة بسام حجار. الآن وقد رحل بسام هل يمكنك أن تُحدّد أكثر؟



كتبت عن بسام أكثر من مرة. فهو له موقع خاص داخل القصيدة اللبنانية. هناك أسباب شخصية وعامة كونت صورة بسام في ذاكرتي، منها انه من اوائل الشعراء اللبنانيين الذين عرفتهم شخصيا. لقد تعرفت اليه قبل تعرفي على معظم الشعراء اللبنانيين المجايلين لي. لاحقا صار اسم بسام مرتبطا في ذهني باسم عباس بيضون. فهما كانا يبدوان لي كثنائي رغم تباعد نبرتيهما الشعريتين. هشاشة لغة بسام وموضوعاته المحدودة مقابل قوة مفردة عباس ونحتها، إن لم أقل قسوتها وصدمة بعض صورها والطيف الواسع لمجالها. في الواقع بسام وعباس هما من اوائل الذين قرأت لهم وعرفتهم من شعراء تلك الفترة. لكن هذا الجانب الخاص لا يغير، على ما اظن، كثيرا في حكمي الشعري. بسام من الشعراء العرب القلائل الذين صنعوا من القلة والهشاشة والضعف شعرا قويا. انها مفارقة ولكن لا أجد افضل منها، كما انه من القلائل الذين لا تضجرك عودتهم مرة فأخرى الى تلك المنطقة الصغيرة التي حفرت فيها قصائده، والموضوعات اياها التي تتكرر، تقريبا، من عمل إلى آخر. انه شاعر الاستدراكات. لا أعرف أين قرأت هذا التعبير ولمن، ربما من بسام نفسه. بمعنى انه يعود، كنوع من الاستدراك، الى ما فات من الموضوع الواحد، أو المنطقة نفسها.

هذا يعني ان الاستنفاد الذي يشعر به الشعراء بعد طرق موضوعات معينة لم يشعره بسام، فليس هناك استنفاد عنده ولا نهاية لذلك المنجم المعتم الذي كان يعثر فيه كل مرة، للعجب، على جواهر والتماعات وذهب. ففي المكان نفسه دأب بسام على الحفر، من دون جلبة، في متن الالم نفسه وبالقليل من العدة. كأن قصيدة بسام تمحو كل شيء سوى الألم، بما في ذلك الحرب مثلا، لتبقيه عنصرا انسانيا صريحا وفرديا بقدر ما هو مشترك. انه شاعر مولع بالغياب والاضمحلال، شاعر فقدان من طراز خاص. فبعد كل شيء على المرء ان يواجه ألمه وحيدا ومنفردا. قصيدته تدور في مكان ضيق، أغلب الوقت في البيت، تتلكأ هناك، تطوف بأشيائه التي غادرها الذين جلبوها او الذين ألفوها، حيث الموجودات الصغيرة المتروكة لمصائر العزلة والوحدة تنتصب كشواهد قاسية لا مجال لتفاديها. هناك الوحدة تنز من الجدران، تتلطى وراء الستائر الكثيفة، يمكن للوحدة أن تتضاعف بتذكر الخطى التي كانت تتردد على البلاط، في السرير الذي يحفظ ما تبقى من رائحة الغائبين.

أظن انه ليس من شأن قصيدة مرصودة للغياب والتلاشي أن تفيض، أن تسترسل، سيكون ذلك ثرثرة وبوحا معيبا وعاطفة فاقعة لا يطيقها نص بسام حجار، رغم وجود البوح في قصيدته ولكنه لا يتحول نواحا أو اثارة للشفقة اطلاقا. كأن بسام يبوح لنفسه لا لسواه. قصيدة كهذه ليست كثيرة في الشعر العربي اليوم، وان وجدت لا تبلغ الصدق الذي بلغته قصيدة بسام. أبرز ما يميز قصيدة بسام حجار هو صدقها الفني والانساني، هذا أمر لم يعد يتحدث عنه النقد مطلقا، كأن القصيدة مجرد صنعة لغوية، كأن أصلها القادم من الشعور لم يعد يعني شيئا. الصدق الفني والانساني مدخل رئيسي لتذوق قصيدة بسام وعندما تعرفه شخصيا تتأكد تماما من انطباعك الاول عنه القادم من نصه. هنا يصبح النص حياة والحياة تستحيل نصا ولا نعرف ولا يهمنا ان نعرف ايهما له قصب السبق. يمكنني أن أستفيض أكثر في الحديث عن خصائص قصيدة بسام، فهي من النوع الذي يحرض شخصا مثلي على ذلك، ولكن ربما في مكان ووقت آخرين.



لا نثر في شعر أنسي!



تتكلّم عن تجربة أنسي الحاج، أين في رأيك يبدو تأثير أنسي على تجربتك وتجربة جيلك . هل هي تاريخية أم أن الأمر يتعدى ذلك؟



أظن أن أنسي الحاج لم يُقرأ جيدا. هناك حضور اسمي كبير له في الكتابة الشعرية العربية الحديثة لكنه ليس مقروءا بما يناسب أهمية عمله إن لم أقل خطورة صنيعه، بالمعنى الايجابي للكلمة طبعا. هناك شعر يتقادم. يمكننا أن نلحظ ذلك من اعادة قراءة بعض السابقين بمن فيهم من يسمون رواداً في حركتنا الشعرية الحديثة، أزعم أن الجوهري في شعر أنسي لم يطله هذا التقادم، فهو يتوافر على فرادة خاصة، سواء تعلق الأمر بلغته ام بنظرته الى العالم، هناك اختراقات نفسية وروحية في شعره ستبقى وستقرأ، أغلب الظن، طويلا. من هنا ينبع عدم تقادمه. من قدرته على الاشعاع من الداخل. يبدو لي أن التقادم يطال الشعر الذي لا يتمكن من صنع اختراقات في النفس، تلك المتقلبة الكبيرة، تلك المتراكبة طبقا فوق طبق.

لنأخذ المتنبي مثلاً، ما بقي من شعره ليست فصاحته ولا قوة سبكه ولا جلجلة ايقاعاته، ناهيك عن أعلامه وممدوحيه، بل تلك الالتماعات التي اخترق بها النفس، قبضه على لحظة انسانية دائمة ومشتركة، تحديقه السريع ولكن الثاقب في هوته الداخلية. هناك شيء يشبه ذلك عند أنسي، لا أقصد الحكمة ولا الموعظة ولكن الكشف عن باطن أنساني قد يكون شقيا، بل هو كذلك. التحديق في الهوة الداخلية التي تخيف. هل أثر هذا في شعرنا؟ لست متأكداً. هناك طوران مختلفان لقراءتي أنسي الحاج، الطور الأول شكلي أو ما يشبه ذلك. بحث عن سند اسلوبي، عن مادة للمساجلة، عن مرجعية ما في لحظة نضالية من حياة قصيدة النثر العربية، كان ذلك يبدو لي، وربما لغيري، مهما، أما طور القراءة الثاني فقد جاء لاحقا. أي بعد التخفف من أعباء النضال الشعري، إذا جاز التعبير، وقراءة الشعري في الشعر. نثرية أنسي الحاج خادعة. إنها، في رأيي، ليست نثرية وإن كتبت بدون وزن، ذلك هو سطح كتابته، عمقها كان دائما شعريا. موقع الشاعر في قصيدة أنسي شعري، وقفته في العالم شعرية وليست نثرية. إنها وقفة عمودية إذا أمكن الوصف. فيها من العرافة والنذير واليأس والرجاء والتهويل والانشقاق أكثر ما فيها من مواضعات اليومي والحياتي.

بهذا المعنى تأتي قصيدة أنسي من الشعر وليس من أطرافه أو خارجه كما تفعل قصيدة النثر في تصوري. أقصد أن لا نثرية فيها بالمعنى الذي نعرفه للنثر من وظائف، ويخطر لي أنه ليست هناك عملية تحويل في قصيدة أنسي، أي تحويل النثر الى شعر، لأنها أصلا شعر. أنا من الذين بحثوا عن الشعر في أنواع كتابية مختلفة، من الذين أرقهم، ربما، هذا الأمر. بالمقارنة لا تبدو كتابة أنسي مؤرقة بهذا الهاجس. فهي دائما في ارض الشعر، متجذرة فيه حتى وإن بدا انها تستخدم شكل النثر. لا أعرف كيف أحدد تأثير تجربة أنسي الحاج علي شخصيا أو على جيلي، فهي ليست قطعا تاريخية، شأنها شأن قصيدة الماغوط ، فيمكن لمس أثر تجربة أنسي في سلالة من الشعراء اللبنانيين فيما يمكن التماس أثر الماغوط في الشعر السبعيني السوري. صعوبة تخطي قصيدة أنسي الحاج للحيز اللبناني، وعدم انتشارها عربيا، قادمة برأيي من جانب لبناني أصيل فيها، ربما أيضا من تلاعبه المزعج باللغة العربية، من جملته النحوية الملخبطة، المقصودة على الأغلب.



يراك البعض شاعرا تجريبيا تعمل على الشكل وتغامر في الاسلوب، هل ترى نفسك كذلك؟ وهل يمكن للشاعر أن يظل تجريبيا دائما؟



هناك فارق بين التجريبية الشكلية وبين البحث عن تمظهرات الشعري في النثري او السردي، أو البحث عن الشعري في غير أرضه التي تحددها المعايير النقدية السائدة. لا ارى نفسي تجريبيا بالمعنى الاول، أي أنني لا أجرب من أجل أن أجرب أو من أجل اللعب مع أني لا أجد غضاضة في اللعب. انني شاعر قلق. هذا ما يمكن لي أن أصف نفسي به. أنا شخص قلق وقد أكون متناقضا. ما يسم كتابتي هو بحثها عن الشعر وما يميز قصيدتي هو بحثها عن القصيدة، أو القصيدة المثالية الخاصة بي. هناك من لا يقلقهم البحث عن الشعر، هناك من يعثرون على وصفته جاهزة او شبه جاهزة، هناك من يطاوعهم الشعر بسهولة أو على نحو مطبوع، ولا اعتقد انني منهم رغم أن عباس بيضون كتب يوما يقول اني وجدت قصيدتي من البداية، من العمل الاول. ما يزعج الذين يعرفونني او الذين يحبون بعض تجاربي الشعرية هو الانتقال وعدم الاستقرار، البداوة عندي قد لا تكون في المادة والمضمون ولكن في الكلمات، اقصد في الترحال الدائم. لا أعمل على مفاجأة الاخرين بانتقالاتي، لم أقصد ذلك يوما، هذا يحدث بشكل طبيعي عندي. أنتهي من كتاب وأضجر منه، أشعر أني غير قادر على كتابة ما كتبت من قبل، يكون الكتاب نفسه كشف لي طريقا فرعية فتتحول في الكتاب الذي يليه الى وجهة رئيسية، وهكذا. في الحقيقة إنني أكتب. الكتابة هي التي تهمني وليس شكل الكتابة، ولعل بعدي الجغرافي وتعمق اغترابي المكاني جعلاني أكثر حرية في التعامل مع الكتابة، في اعتبارها خاصة وفردية وغير مطالبة باستحقاقات من أي نوع.






صدرت لك، أخيراً، مختارات شعرية بالانكليزية ترجمها الشاعر والمترجم الاميركي من أصل ليبي خالد مطاوع عن منشورات «بانيبال بوكس» في لندن وكتب الشاعر الاميركي ألفرد كورن على الغلاف الأخير، بحسب بيان صحافي صادر عن الدار الناشرة، ان شعرك مزج «النبرة البدوية» بالحداثة الأدبية الأوربية، وأنك ستقرأ بعد هذه الترجمة على أنك شاعر عالمي. حدثنا عن هذه الترجمة وموقعها في الترجمات الشعرية العربية الى اللغات الاوروبية، وكيف تستقبل قول ألفرد كورن عن تجربتك الشعرية؟



أولا هذه المختارات التي سميت «راعي العزلة» صدرت مع كتاب شعري لسركون بولص بعنوان «شاحذ السكاكين»، وهما، كما فهمت، باكورة اصدارات لأصوات شعرية عربية ستتوالى عن الدار نفسها. هناك حاجة استشعرتها الدار التي يقوم عليها ناشرا مجلة «بانيبال» مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون لتقديم الشعر العربي الحديث الى الجمهور الناطق باللغة الانكليزية. هذه الحاجة لمساها عبر عشر سنين من اصدار المجلة في لندن. وهما يشكران على ذلك خصوصا وأن الاهتمام الانكليزي، الغربي عموما، منصب في السنين الاخيرة على ترجمة الرواية العربية، بهذا هما يذهبان عكس التيار.

ثانيا هذه المختارات عمل عليها خالد مطاوع سنين طويلة، وهي ثمرة مشروع استمر نحو ست سنين. أما قول ألفرد كورن ففيه شيء من الدقة والحماسة في آن. الدقة في كلامه عن مزج قصيدتي ما يسميه «النبرة البدوية»، وهو منشأ قصيدتي وأصلها العربي، كما أفهم من كلامه، بالحداثة الاوروبية. هذا يصح على الشعر العربي الحديث كله. فإذا تجاوزنا تعبير «النبرة البدوية» واعتبرناه اشارة الى اصل، يمكن أن يقال كلام كهذا على الشعر العربي الحديث الذي لا يمكن أن يفهم من دون فهم علاقتنا بالشعر الاوروبي. هذا فهم صحيح للشعر العربي الحديث، إنه بقدر ما هو ابن لغته وبيئته وربما إرثه، هو كذلك ابن للحداثة الشعرية الاوروبية. كل الانعطافات التي حصلت في الشعرية العربية الحديثة بدءا مما سمي ثورة الشعر الحديث على يد الملائكة والسياب وصولا الى القصيدة اليومية والتفصيلية حصلت عبر العلاقة مع الشعريات الغربية. أما الحماسة في قوله ففي الكلام عن العالمية. هذا كلام استكثره جداً على نفسي ولست مسؤولا عنه كما انني لست من طلب الى كورن ان يكتب كلمة الغلاف الأخير بل الدار الناشرة هي التي فعلت. علينا أن ندرج هذا القول في الطبيعة الاحتفائية لكلمات التقديم. فهذا ما تفعله غالباً، إنها ليست حكما نقديا بقدر ما هي احتفاء، وفي الاحتفاء يمكن احتمال كلمات ثقيلة الوقع كالعالمية التي لا أرى انها متحققة للمنجز الادبي العربي كله، فالعالمية لا تعني أن تترجم الى لغة أخرى، بل أن تؤثر فيها، أن تصنع فرقا ولا أظن أن منجزنا الأدبي، بما فيه الشعر، صنع، حتى الآن، هذا الأثر أو الفارق عند الآخرين. (عن السفير).

.



التعليقات