31/10/2010 - 11:02

اغتراب!؟ ولم لا؟../ بسام الهلسه

-

اغتراب!؟ ولم لا؟../ بسام الهلسه
تشعرُ باغترابٍ طاغٍ يطبق عليك.
اغتراب لم يسبق لك أن عاينته من قبل بهذا القدر. فلا يكاد يوم يمر دون أن يؤكد لك عمق نفاذه وإحاطته.
كأنك في حالة قطيعة شعورية مع ما حولك.
لا يثير حماستك شيء، ولا يبهجك شيء، ولا يغريك شيء.
تعمل، وتؤدي واجباتك اليومية بقوة دفع العادة، كما لو كنت محكوماً بـ"العيش" حتى إشعار آخر.

ربما تستثني "مقالاتك" التي هي فضاؤك الخاص ومدى بوحك الحميم المكلوم.
-محكوم بالعيش؟
- نعم.. تمييزاً عن "الحياة" التي تعرفها كتجددٍ متواصل, وممارسة لاختيار حرٍ وارادة فاعلة.

* * *
في الأول، بدا لك هذا الشعور كإشكالية، قاومتها وسعيت إلى حلها بالتوافق والتصالح مع عالمك، لكنك- إذ أعدت التفكير- تبيَّنت خطأك, وأدركت أن "التوافق" هو الإشكالية وليس "الاغتراب".
ففي عالم لم تستشر فيه، ولا يسعك قبوله ولا تغييره، ألفيت نفسك خارجاً..

كذاك الذي تحدث عنه "سارتر" ذات مقالة، الذي ظل في الساحة يحمل يافطة احتجاجه وحيداً بعد ما انفضت ثورة الشباب الباريسية أواخر الستينيات من القرن الماضي. وحينما قال له مفوض الشرطة: لقد إنصرف المحتجون والمتظاهرون.. هل تريد تغيير العالم وحدك؟!
أجابه بلا مبالاة واثقة: لا. إنما لا أُريد للعالم أن يغيّرني.

* * *
وفيما يخصك، لم يتوقف يوماً حلمك وسعيك للتغيير.
ولم تقنعك مرَّة حكمةُ الأغلبيةِ المتوارثة بحرص: "اللِّي بيرضى بيعيش".
فالرضى عن عالم منخور.. تواطؤ
والعيش فيه عذاب مضنٍ وعقابٌ مهين
* * *
-ما الذي سيكونه محلك في عالمٍ كهذا؟
عالمٌ أنت فيه، ولست منه، ولا معه؟
: الاغتــــــراب.

كذئب عنيد لم تخدعه "حضارة الكلاب" المطيعة -المتملقة، الرائجة.
أو كزوبعةٍ حانقة جامحة أعيتها مظالم الأرض وقذاراتها.
وتلتفُ على نفسك كَسِرٍّ لم يُبَحْ بعدُ لأحد.
مشفقاً على المباهين بقسمة "الدواجن", المنهمكين مثلها بدأب مثابر بما بين أرجلهم، غافلين –أو لا مبالين- بالعُلا وآفاق السماوات!
فلا يزيدك هذا إلا نأياً عنهم وإمعاناً في الاغتراب.
وتتذكر بإكبارٍ حَفِيٍ وَوَجْدٍ شفيفٍ "المعلم الكبير" إذ يعتزل في "الغار".
ومن أسفٍ أن لا "غار" لديك تأوي إليه سوى قلبك..
فتنفــرُ...
تنفرُ، فلا يفهمك الداجنون.. كطبيب صاحبك "أبي مُحَسَّد" –المتنبي- حينما عاده في "حُمّاه":

يقول لي الطبيبُ: أكلتَ شيئاً
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ
وما في طِبِّهِ إني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجَمَامِ
تَعوَّدَ أن يُغَبِّر في السرايا
ويدخلَ من قَتَامٍ في قَتَامِ

* * *
ولكم أضرَّ بجسمك وروحك طولُ الجَمَام,
في مدنٍ لاهيةٍ مستغرقةٍ في الصغائر والدسائس والنكايات.
مدنٌ.. لا تعرف السرايا ولا الصليل
ولا الصهيل ولا الحمحمة
ولا المرحمة ولا الملحمة
تسمع أصوات الصراخ المستغيث فيها وحولها،
فترفع أبواق سياراتها اللاغية مثلها!
وترى مشاهد الهول والفزع والخنوع والزيف والجور والاستخذاء والعوز والنتانة والسفالة والجهالة,
فتغطيها بصور فضائياتها المعربدة!
مدنٌ تخثَّرت فيه، وتخثَّر فيها، الزمن..
وتكاثرت, ونمت كالغثاء.. كأكوام القمامة
فتباهت بما تُباهي به "خضراءُ الدِّمن"!
فلا مسافة ها هنا ولا فرق بين "دِمَنٍ" و "وطن"
وتبلبلت كـ"بـابــل"!
فتاهت تتخبطُ: بين من "توقفوا" ساكنين عند مآتي الأقدمين,
وبين من "ركضوا" لاهثين وراء بريق الآخرين!
فضلت حيرى.. غافلة عمَّا فاتها:
أن تسأل روحها، وعصرها، ومعطياتها..
أن تفعل "هي" ما فعلوه "هم"
أن تكون ذاتَها..
وأن تصنع "ذاتَها بذاتِها".

* * *
أتريدُني بعدُ، على أن أتواءم معها؟
وأن اندرج فيما هي سادرةٌ فيه؟
: أن أطفئ الصبوات المتقدة لعالم بهيٍ سموتُ إليه؟
وأن أدير ظهري للتَّوقِ المشبوب الذي رعيته لغدٍ آخر: لا نكون فيه "قطيعاً" منقاداً, بل "بشراً سَويَّاً؟
-لا...
إمضِ إن أحببت أنت..
وذَرْني لطريقي...
طريقيَ التي أعرفها كما تعرفُ العيونُ الشمسَ آنَ تراها..
وكما يعرف النهُر سريره إلى مصبه.

* * *
-إغتراب !؟
-ولم لا ؟
ما دام "التَّأقلمُ" خيانة.

التعليقات