31/10/2010 - 11:02

تجربة النكبة واللجوء/ رشاد أبو شاور

-

تجربة النكبة واللجوء/ رشاد أبو شاور
منذ عقود وأنا أعد نفسي لكتابة رواية طويلة ، في أجزاء ، عن تجربة النكبة واللجوء ، التي عشتها مع أسرتي ، وأبناء وبنات جيلي ، وشعبنا الفلسطيني بعّامة . وها هي السنوات تمر وأنا أدوّن الملاحظات ، والانطباعات ، والأفكار ، وأرسم ملامح الشخصيات ، وأدقق في الأحداث ، وأتابع التفاصيل ، بحيث تكدّست لدي أوراق كثيرة ، واكتظت ذاكرتي بما يثقل عليها ، ويضنيها ، ويؤرق صاحبها ...

ومنذ سنوات وأنا أكتب الروايات ، والقصص القصيرة ، والمقالات الأدبية في الصحف العربية ، والمقالات السياسية ، ناهيك عن نشاطات أدبية أخرى ، ومع ذلك أقول لنفسي ما أحوجني للمزيد من الجهد ، والعمر لأكتب عن تجربة النكبة واللجوء ! .

لا بأس ، فلأقل شيئاً متواضعاً ومختزلاً عن تجربة النكبة واللجوء ، إن كان هذا يضيف شيئاً لكم ...

ولدت في قرية ذكرين ، وهذا اسمها كما نلفظه نحن أهل تلك القرية من قرى قضاء الخليل ، ولكنها في الكتب ، وبخاصة في موسوعة ( بلادنا فلسطين ) للراحل الحي مصطفى مراد الدباغ كتبت ( زكرين) . أهالي القرى المحيطة بنا ، صمّيل ، رعنا ،كدنا ، دير الدبّان ، وحتى بركوسيا ، وبيت جبرين ، والدوايمة ، وعجّور ، وبعيداً حتى قرى قضاء الخليل الفوقانية ، والتي لم تسقط تحت الاحتلال الصهيوني عام 48 ، مثل دورا ، ويطّا ، وخراس ، والسموع ..فإن قريتنا تعرف ب ( ذكرين البردان) _ بفتح الراء والدال _ وهذا يعود إلى أن قريتنا تشتهر بماء أبارها البارد ، وغزارة مائها الذي يتجمع في آبارها الأربعين ، والتي تختزن الماء شتاءً وصيفاً ...

في تسمية قريتنا ب( ذكرين البردان ) غمز من أهل قريتنا ، فهم هادئون ، ليست فيهم نوازع عدوانية ، أو مرجلة زائدة عن الحد ، وهم بطبيعتهم غير مزواجين ، فالذكور يكتفون بزوجة واحدة ، ولذا انتشرت حكمة تقول : إذا اردت لابنتك أن تعيش مبسوطة فزوّجها من ذكريني ، لأنه لا يتزوج عليها ، ولأنها غالباً تحكمه ! ...

أهل قريتنا ديمقراطيون بالفطرة ، بسبب الماء ، ولأن اسم قريتهم يحمل معنى العيد ـ اعتمد في المعلومات على ما كتبه الراحل الكبير مصطفى مراد الدباغ ـ فقد عاشوا ودعاء ، يزرعون الأرض بالقمح ، والشعير ، والذرة ، ويسوّرون كرومهم بالصبّار ، حيث تعيش الأرانب البريّة ، وبنات آوى ، وفي شعاب وديانهم يكثر الحجل ، والحمام البرّي يهدل على أغصان زيتونهم العريق ، الذي يعود إلى العصر الروماني ...

يكتب المرحوم الدبّاغ : زكرين بكسر أوله وثالثه وسكون ثانيه وياء ونون . لعل ( زكرين ) من جذر( ذكر) السامي المشترك بمعنى ( العيد) و( الذكرى) ، أو تحريف لاسم ( زكري ) بمعنى مذكور ... في كتاب الدكتور وليد الخالدي ( كي لاننسى ) ورد عن ذكرين ما يلي : احتل لواء غفعاتي التابع للجيش ( الإسرائيلي) زكرين في 22-23 تشرين الأول / أكتوبر عام 48 ...

وبحسب الدكتور الخالدي ، فقد أكد وسيط الأمم المتحدة ( رالف بانش ) أن القوّات ( الإسرائيلية) قامت بتنفيذ عمليات مخطط لها على الجبهة الجنوبية ..والدكتور بانش يقصد أن تلك القوّات هدفت إلى طرد أهالي تلك القرى بالقوّة ...

في قرية ذكرين المحاطة بالطرق الترابية التي تصلها مع القرى المجاورة انتشرت حواكير التين والعنب والزيتون ، وحقول الحنطة ، والمقاثي ،ومدرسة واحدة فيها مدرّس واحد ، وبحسب ما علمت من أبي فإن ذلك المدرّس هو الشاعر خليل زقطان ، من قرية زكريا الجارة لقريتنا ، والذي عرفته فيما بعد في مخيم ( الدهيشة ) قرب بيت لحم ، ثمّ شاءت الأقدار أن أتعرف به عن قرب في عمّان بعد نكبة حزيران 67 ، وأن أحفظ الكثير من قصائد ديوانه ( صوت الجياع) ...

في قريتنا كانت سيّارة واحدة ، صاحباها رجل أعمى يصّر على الجلوس بجوار السائق ، وإعطائه الأوامر بسلوك الطرق ، وحتى الانعطاف في أمكنة يظّن هو أنه يعرفها ، حتى أنه كان يتدخّل حتى في دوس السائق على البنزين . ذلك الرجل هو أحمد ظاهر ، وشريكه هو خالي غير الشقيق لأمي ...

تلك السيّارة نقلت أمي زينب محمد صالح الصوص ، بعد أن انكسر لوح خشبي تحت قدميها لتهوي على حزام بابور الطحين ، وتتعرض لكسور في ساقها ، وذراعها ، وتمزيق أحد ثدييها ، وتمزّق ثوبها ، فيرتفع صوتها : أفا عليكم يا رجال ، غطّوا لحمي . ويغطي أحد الرجال لحم زينب بعباءته ، بينما هي توصي صاحباتها أن يعتنين بابنها رشاد ، ثمّ لتموت في القدس بعد ثلاثة أيام ، وتدفن في قبر يحتضن جسدها على جوار والدها وجدتها وعمتها ، ولتلحق بها أختي معزوزة بعد شهرين تقريباً .( لقد نسيت أمي أن توصي صاحباتها بأختي معزوزة ، ربما لأن ذكر ، وهذا ما سيحفظ ذكرها ...

قريتنا الوادعة ، قرية الذكر ، والذكرى ، والعيد تعرّضت لهجمات كثيرة من العصابات الصهيونية ، التي فاجأت أهلها ، وإليها وفدت وحدة عسكرية من الجيش المصري الذي كان يضم جنوداً مصريين وسودانيين ، ففاروق هو ملك مصر والسودان ، ولقد اتخذت تلك الوحدة من مدرسة قريتنا مقراً لها ...

الطفولة الشقيّة تفتحت على دوي الرصاص ، وهدير طائرة في فضاء قريتنا التي لم تعرف من قبل سوى رفوف الطيور الأليفة ، أو المهاجرة موسمياً...

في ذكرين رأيت ابن الشيخ سالم تيلخ وهو يركض رافعاً بندقيته ، لنجدة مدافعين عن قريتنا تعرّضوا للهجوم ، ثمّ رأيته ممداً في ( الدسكرة ) ، وجهه إلى السماء ، وهو بملابسه العسكرية ، كأنه ينام ...

كان ذلك أول شهيد من قريتنا ، وللآن أخطيء في ذكر اسمه إن كان محمداً ، أو محموداً ، ومن الغريب أن اسمه لم يرد في قائمة الشهداء الذين ضمهم ملحق كتاب ( كي لا ننسى ) !...

لقد رأيت جدّتي أم أبي وهو تفرد ( غدفتها ) لتصد بها الرصاص عن ابنة عمي التي كانت محمولة فوق أغراض على الحمار ، أي أن جدتي لم تكن تعرف أن الرصاص يخترق القماش الأبيض الذي تغطي به رأسها !...

أمّا امرأة عمّي فكانت تفرد جسدها فوقنا لتحمينا من قذائف الطائرات التي ألقيت على بلدة ( بيت جبرين) حيث رحّلنا أهلنا لنكون في مأمن بينما يواصلون هم الدفاع عن قريتنا ...

عندما سقطت قرى الخليل تلك ، ومنها ذكرين ، رحلنا إلى الخليل في سيارة شحن ، عدّة عائلات ، ولقد رأيت عمّي حسن وهو يتطلع بانكسار صوب قريتنا ، وسمعته يردّد : مع السلامة يا دورنا ، يا أرضنا ، يا ..

وسمعت تعبيرات لأول مرّة اسمعها : يا من درى بنعود يوم من الأيام ؟ ( يا من يدري ) ...

ولقد رحل كثير من الذين طرحوا سؤالهم الحارق الملتاع : يا من درى بنعود يوم من الأيام ، ومن ردّدوا : اللقا ليوم اللقا ..أي اللقاء يوم اللقاء ، وكأنما هم ينتظرون اللقاء بالعدل السماوي الإلهي ... زكرين صارت وراء الظهر ، تلتوي الأعناق ، وتتطلع العيون بحسرة ، ولكن سيّارة الشحن تمضي بنا من بيت جبرين إلى الخليل ، أي إلى اللجوء والغربة ...

أيام الجوع ، والتسلّل ، والثلج ، والتعلم تحت الخيام بدأت أيام الجوع . فالمقتلعون من قريتهم لم يحملوا معهم سوى القليل من القمح والشعير ، وحتى الفراش ...

أقمنا في غرفة فسيحة ، ضاقت على من ازدحمت بهم من العائلات ، في أحد كروم منطقة ( جورة بحلص ) التي يقيم فيها الخلايلة في موسم الصيف ، موسم العنب والتين ، وجورة بحلص شهدت معارك مع الإنكليز في ثورة 36- 39 ، والتي قادها في جبال الخليل البطل عبد الحليم الشلف ( أبو زياد ) والذي شارك أبي تحت أمرته في بعض تلك المعارك ، وربطته به علاقة صداقة طالما اعتز بها ...

الجوع ، البرد ، الحزن ، حالة الانكسار هذه بعض عناوين تلك الأيام . سمعنا بالصليب الأحمر ، ولكن لم تطل أقامتنا ، وانتقلنا إلى مخيم ( الدهيشة ) الواقع بين بيت لحم والخضر ، غير بعيد عن الخليل . آنذاك أخذ الكبار يتسللون إلى القرى ليجلبوا منها ما تركوه من مال ، ولباس ، وحنطة ، ولقد اشتبكوا مع قوّات الاحتلال ، وقتل منهم من قتل ...

ما زلت أتذكر عمي ( عثمان ) الذي حضر إلينا من مكان ما ، وبات عندنا عدّة ليال ، ومن بعد توّجه مع عدد من ( المتسللين) إلى زكرين ، ولكنه ..لم يعد ! ...

الحكايات كثيرة عن تلك الأيام ، وبخاصة عن الذين تسللوا ، أو ( غرّبوا ) _ اتجهوا غرباً _ حيث قرانا ، ولم يعودوا ، ومنهم من عاد بساق مبتورة ، أو يد واحدة ، أو بعد فقد عين ، أو ...

لقد ناح طائر ( البوم ) في فضاء مخيم الدهيشة ، ذلك الطائر الذي يتطيّر منه الفلاّحون ، ويرونه نذير شؤم ، وكم صحوت في الليل على امرأة عمي وهي تسأل الله اللطف في حين يصيح طائر البوم ، ولا يبتعد إلاّ عندما يهب بعض الأشخاص ويلاحقونه بالحجارة ...

أربع سنوات أقمنا في مخيم الدهيشة ، سقط علينا فيها الثلج ، ذلك الذي لم أعرفه في البداية ، وأذكر أنني عندما فتحت باب الخيمة ذهلت من حقول البياض التي غطّت الأرض ، وامتدت لمسافات ، ولقد ركضت دون حذر في ذلك البياض ، ثمّ أخذت ارتجف ، وعرفت أن هذا البياض ليس أليفاً ، ولا حنوناً ، وأنه شديد البرودة . ولأننا لم نحتمل الثلج تحت الخيام التي تمزّق بعضها ، وتطاير بعضها ، وغرق بعضها ، وأوحلت أرضها جميعاً ، فقد تم نقل عوائل كثيرة إلى بيت لحم ، وفي مسجد عمر بن الخطّاب قبالة كنيسة المهد مكثنا لأيام ، حتى خفّت موجة الثلج والبرد والرياح الهوج ...

في الدهيشة شاهدت أول مظاهرة ، ورجمت مع الراجمين الخيام ، ولم اعرف لماذا يحدث ما يحدث ، ولكنني صرخت مع الصارخين ، ومن بعد بدات رحلة الغضب على الخيام ، واللجوء ...

تلك السنوات بين بيت لحم والخضر ، لم نوّفر فيها شيئاً ، كنّا ننطلق كالجراد إلى الحقول ، نأكل العنب وهو حصرم ، التين وهو عجر ، النباتات ، أي شيء ، وهذا ما جنّن أهالي الخضر بخّاصة ، مع أنهم تحملونا كثيراً ...

ومن بعد حملنا ذوونا إلى أريحا ، حيث الدفء ، فبرد بيت لحم لا يحتمل ، خاصة ونحن أشباه عراة .

أقمنا في مخيم النويعمة ، وهو أحد أربع مخيمات تتبع لأريحا ، هي : عقبة جبر ، عين السلطان ، النويعمة ، العوجا ...

في المخيمات تساكن أهالي القرى بشكل متجاور ، وكأنهم بهذا لا يعترفون بما يفعله اللجوء ، فأهل كل قرية ، أو بلدة نصبوا خيامهم متجاورين ، ومن بعد بنوا بيوتهم الطينية ، وصاروا ينتسبون لمخيم بعينه ولكنهم أورثونا الانتساب إلى قرى ، وعوائل ، وملأوا رؤوسنا ونفوسنا بالحكايات عن أصولنا ، حتى أننا حفظنا ملامح قرانا ، وما يميّزها ...

في النويعمة عرفنا وكالة الغوث ، وطابور الإعاشة ، وكم رأيت رجالاً يوارون وجوههم خجلاً من ذلك المشهد ، ونساء يسترن وجوههن بأغطية رؤوسهن حتى لا يراهن أحد ...

في النويعمة سمعنا بأمراض الجدري ، والسل ، وأمراض أخرى ، وبدأت إبر تغرس في أذرعنا النحيلة والتي هي جلد على عظم ، وتشطّب جلودنا بما يشبه الشفرات ، وانتشر العشاء الليلي ، أو ما اصطلح عليه ( بالهدباد) ، ولذا جرّعنا زيت السمك اللزج السيء الطعم ، والذي تحمّلنا طعمه طمعاً في حبة التمر التي تمنح لنا لتحلية أفواهنا ...

لشدّة الفقر لبسنا أي شيء ، فأنا شخصياً لبست قطعة من بطّانية سوداء خشنة ، فصّلت لي على شكل هندية ( قمباز) ، وهي خشنة لأنني كنت البسها على اللحم ، أو ما يفترض انه لحم !...

ولأن أريحا غنيّة بالينابيع فقد شمّرت الأمهات عن زنودهن وبدأن في دعك أجسادنا ، وحميننا من الأمراض ، وهنا لابدّ أن أتذكّر الصابون النابلسي بكل تقدير لأنه جعل رؤوسنا تخلو من القمل ، بعد أن انتشر القمل وتفشّت البراغيث ...

في أريحا عشقت الحقول ، والبراري ، وصوت الأرغول ...

كان لا بدّ أن يتزاوج الفلسطينيون ، وان يعيشوا الحياة على شظفها وفجائعيتها ، ولذا اخرجوا النايات _ الشبّابات _ والمجوزات ، والأراغيل ، وعمّروا أعراسا في ليالي الصيف ، مع ( السامر) و( الدحيّة) ، والدبكة ، والزغاريد ...

وآنذاك بدأنا نعرف المذياع ، وصوت العرب ، والأحزاب ، وصارت فلسطين حكايات ، ودروساً في الجغرافيا ، وبطولات تروى ، وحلماً لا بدّ أن يتحقق بالعودة ... لقد ولد جيلي في فلسطين ، لكنه عاش خارج ( فلسطينه) على أرض فلسطينية دون استقلالية !

ومع نمو أجسادنا ، وعقولنا ، ومعرفتنا بدأت رحلة عذابنا ووعينا . لقد كتبت قبل سنين بعيدة : الناس في هذا العالم يكبرون في بلادهم ، أمّا نحن فتكبر بلادنا فينا ! ولقد كرّرت هذه المقولة ، وأحسب أن آخرين ردّدوها .

لم تكن تلك مقولة رومانسية ، فجيلي ، داخل فلسطين تحت الاحتلال ، أو في المنافي ( اللجوء ، والشتات) لم يكبر على أرضه ، وفي أرضه بشكل طبيعي كباقي البشر ، وكان عليه أن يتعرّف على وطنه ، قريته ، أو مدينته ، جذوره ، حقوله ، بيته ، من أفواه الأمهات ، والجدّات ، والآباء ، ومن بقي من الأسلاف ...

شاءت أقداري أن اتنقل بين المخيمات ، من مخيمي الدهيشة والنويعمة في فلسطين إلى مخيم اليرموك في سورية ، ومن ثمّ أعود إلى مخيم النويعمة ، ثمّ بعد نكبة حزيران أرحل إلى عمّّان وأقيم في مخيم النصر ..يا للمفارقة ، بعد الهزيمة أسكن في مخيم ( النصر) !!

ثمّ انتقل من جديد إلى سورية ، فأقيم في اليرموك ..ومعي زوجتي ، وننجب في اليرموك جيلاً جديداً من اللاجئين ..و..ومن بعد إلى لبنان ، لأقيم في صبرا ، أي في مدخل شاتيلا !

رحلة عجيبة ! قد لا تقارن برحلات فلسطينيين آخرين !

لكنني منها تعلّمت ، وهذا ما تجدونه في رواياتي ، وقصصي ، ومقالاتي ، وكتاباتي للفتيان ، وأسلوب حياتي ...

الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية واجب وطني ، وقومي ، وإنساني:

يمكنني أن أتحدث لأيام متواصلة ودون توّقف عن تجربة النكبة واللجوء ، وهذا ما بمقدور غيري أن يفعله ، ولكن كل الكلام سيذهب مع الريح إن لم يدوّن ، شعراً ، ونثراً ، وتاريخاً ، وجغرافيا ، وسرد معارك وبطولات ، ودراسات ، وسينما ، ومسرح ، وتطريز ، وحفاظ على آلاتنا الموسيقية ، وغنائنا الشعبي ...

المذابح التي اقترفها عدونا الصهيوني في قرانا ، ومدننا ، ومن بعد في مخيماتنا ، كلّها كان الغرض منها دفعنا للهرب والنجاة بحياتنا الشخصية ، وتحويلنا إلى كائنات بلا جذور .

وبالترافق مع المذابح تمّت عمليات السطو على تراثنا ، وفنوننا ، وحتّى أكلاتنا الشعبية .

نحن مشرّدون في أقطار عربية تناصب الفلسطيني العداء ، أو الشك ، وتضيّق عليه ، وتباعد بين الفلسطينيين فتحرمهم من التواصل غالباً ...

تراثنا في المنافي يتعرض للذبول إن لم نصنه ، وهذا واجب كل حريص ، وصاحب فكر ، وضمير ، وكل قادر بالمعنى المادي ، والفكري ، والإبداعي ...

لقد طرّحت هذا السؤال مراراً في السنوات الأخيرة ، خاصة وأنا أرى ، وأعيش ما يتعرض له شعبنا الفلسطيني :

ما الذي يوحّد الشعب الفلسطيني المشتت في الأقطار العربية ، والمشرّد في بلاد العالم وقارّاته ؟

أجيب :

الثقافة ! ..ثقافته ، وثقافته المكتوبة ، تلك هي التي تصون وحدته ، وتعمّقها ، وتحرسها ...

الأجيال الفلسطينية تختفي ويختطفها الموت الذي هو نهاية كل حي ، وبخاصة من ولدوا وعاشوا في فلسطين ، من عرفوها ، وحفظوها في ذاكرتهم ، والأجيال التي جاءت بعدهم ، جيلي تحديداً ، لم يعرف فلسطين حياةً مستقرة مديدة ، ولكنه ولد على ثراها ، وهو كان على مقربة من فلسطين ، من أفواه الأهل ، وحكاياتهم ، وأغانيهم .. ولكنه الآن يتأهب للرحيل ، فماذا نبقي للأجيال التي ولدت في الشتات واللجوء ؟! ...

لابدّ من الكتابة ، فكل من عاش التجربة ليس من الضروري أن يكون كاتباً محترفاً ليدوّن تجربته ، وذكرياته ، وشهادته ... إن حفظ الذاكرة من التزوير ضروري ، فثمّة من ينتحلون لأنفسهم أدواراً ليسوا جديرين بها ، وفي غياب الشهود ، والشهادة الصادقة ستسود الأكاذيب ، وستزدهر البطولة المزوّرة .
ليس المخيم شرّاً محضاً ، فقراً ، وجوعاً ، وغربة ... المخيم صهر الفلسطينيين ، فبقدر ما حفظ انتماءهم لقراهم ومدنهم ، فإنه قد وحّد انتماءهم الوطني ، والقومي . ولذا لاغرابة أن يتبلور الوعي في المخيم ، وتزدهر أفكار المقاومة ، وتنشر الحزبية ...

في المخيم مدرسة ، وشارعاً ، تعلمنا ، وأحببنا ، وعشنا علاقات حميمة ، وتشربت نفوسنا بالحكايات الشعبية ، وأمثولات البطولة ، والفداء ...

ولذا لا تستغربوا أن أحن كثيراً لمخيم ( النويعمة) قرب أريحا ، أتذكر عازف الشبّابة ، وعازف الأرغول ، وعازف الربابة ، وليالي الأعراس الفلسطينية النقيّة من كل شوائب ، والتي ما زالت أغانيها ، وسهراتها في البال ...

لن أنسى اللويح الذي كان يأتي من مخيم ( عين السلطان ) ، ولا ذلك الراقص الأعجوبة الحدّاء ( أبو فرج ) ، ولا ذلك المطلع في ( السامر) :
أي : صوت الزغاريد أيقظنني من عميق النوم ... ولن أنسى نظرات بنات مخيمنا ، وهن يحملن جرار الماء الراشح على مناديلهن ، وعيونهن ترسل كلاماً من تحت لتحت ..يا لتلك العيون ! ...

ولن أنسى التظاهرات ، والسجن المركزي في أريحا ، و... المخيم ! ..إنني افرح كلّما عدت إلى مخيم اليرموك ، أفرح وأنا التقي بشباب وشّابات أتعرف على ملامحهم ، واحزن وأنا أرى صور بعضهم على الحيطان ..شهداء على ارض عربية افتداء للأمة ، إن في لبنان ، أو العراق ، أو ...
الذاكرة الشفوية تضمحل وتندثر إذا لم تلقّم بالمعلومات التي تقوّيها ، وتنعشها ...

أتوقف هنا لأحيي ذكرى المعلّم مصطفى مراد الدبّاغ صاحب موسوعة ( بلادنا فلسطين ) ، والدكتور وليد الخالدي صاحب ( كي لاننسى) و( قبل الشتات) ، والدكتورة بيان نويهض الحوت صاحبة ( القيادات والمؤسسات الفلسطينية ...) و ما تركه لنا عارف العارف صاحب كتب ( النكبة ) ، والدكتور أنيس صايغ الذي لا تعد مآثره ، والدكتورة خيرية قاسمية ، ومن يكتبون مذكراتهم بنزاهة وتواضع وصدقيّة مشهود لها كالأستاذ بهجت أبو غربية ، وحنّا أبوحنّا ، ونجاتي صدقي ، وذو الكفل عبد اللطيف ، ومطر عبد الرحيم ( ابوحسين ) ، وكثيرين أيضا يستحقون الثناء ، وروّاد الفن الفلسطيني وفي مقدّمتهم إسماعيل شموط ، والمعلّمة سميرة عزّام ، وغسان كنفاني ، وجبرا إبراهيم جبرا ، وشعراء النكبة عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى) هارون هاشم رشيد ، ويوسف الخطيب ، معين بسيسو ، والفنان الشعبي نوح إبراهيم ، والفنّان الشعبي ( الحسون ) ، والشعراء الشعبيين ، والزجّالين ( الحاج فرحان سلاّم ) و( أبوسعيد الحطيني) ، وراجح السلفيتي ، وسعود الأسدي ، وعازفي الأرغول ، والمجوز ...

هنا لا بدّ أن أتوقف قليلاً لأنبه إلى أن آلاتنا الموسيقية الشعبية في خطر من النسيان والاندثار . فالأرغول ، والمجوز ، والشبّابة هي جزء من روحنا ،ومن مكونات شخصيتنا ، ومزاجنا ، هي التي تشكّل مع الحكاية ، والشعر الشعبي ، والتطريز ملمحاً أصيلا من شخصيتنا وهويتنا ، والحفاظ عليها حفاظ على تواصل أجيالنا ، وجدارتنا بالحياة . ولا يفوتني أن أنوه بتقدير على كتاب السيدة يسرى عرنيطة جوهرية ( الفنون الشعبية في فلسطين ) ، ودراسة باتريك لاما ( الموسيقى الشعبية الفلسطينية ) ، وجهود الّحاجة تودد عبد الهادي التي جمعت (الخراريف) الفلسطينية ، ولا أنسى دور الباحث نمر سرحان المتواصل ... أمّا أبناء وبنات جيلي المبدعين فأرى أنهم أعطوا الكثير ، ورغم سقوط بعضهم في الطريق _ لهم الرحمة _ فإنني أرى أن بمقدورهم العطاء ، والمزيد من العطاء ، فهم جميعاً اكتووا بنار التجربة ، تجربة النكبة واللجوء ، وزمن الفداء ، والانتفاضة المفتوح على زمن فلسطين ، زمن العدل ، وانتصار الحق ، وتحقيق التحرير والحرية ...

ربّما لا نكون في تلك اللحظات المجيدة ، لكن ما سنتركه سيكون هناك في العقول ، والضمائر ، والوجدان ، والذاكرة الفلسطينية الحيّة التي لن تموت ما دامت الشمس تطلع والليل يبدده نورها الساطع ...


----------------------------------------------------------------------
ملاحظة * نص ورقة الكاتب التي قدّمها في ورشة ( الذاكرة الشفهية الفلسطينية والهوية الوطنية ) التي عقدت يومي 17 و18 نيسان في مبنى اتحاد الكتّاب العرب بدمشق ...


التعليقات