31/10/2010 - 11:02

حرارة اللقاء بين حيفا ويافا كسرت جنون العاصفة/سلمان ناطور

-

حرارة اللقاء بين حيفا ويافا كسرت جنون العاصفة/سلمان ناطور
بالرغم من الطقس العاصف الذي اجتاح الكرمل يوم السبت الماضي الا أن العشرات من أهالي حيفا ويافا وعبلين الجليلية حضروا أمسية "سهرة كتاب" في قاعة مسرح الميدان بحيفا، هذه السهرة الشهرية التي ينظمها معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية بالتعاون مع المسرح، وكانت هذه المرة بعنوان: حيفا تستضيف يافا. وذلك بمناسبة صدور كتابين عن هذه المدينة الفلسطينية التي كانت قبل النكبة احدى منارات البحر المتوسط والعالم العربي.

الكتابان هما: "يافا بيارة العطر والشعر" للكاتب سمير فوزي حاج، وهو أنتولوجيا الشعر العربي عن مدينة يافا، والكتاب الثاني (بالعبرية) للباحث التقدمي د. دان ياهف وهو بعنوان : "يافا عروس البحر".

درجات الحرارة التي اقتربت من الصفر والبرد الذي "يقص المسمار" – كم نقول بلغتنا الفلاحية- والرياح العاتية التي كسرت فروع الأشجار، لم تمنع العشرات من المثقفين ومحبي المدينتين، الشباب والكهول، من أن يصلوا الى المسرح ليقضوا ساعتين دافئتين مع ذاكرة يافا، وأغنياتها ومع الشعراء الذين تغزلوا بها يوم كانت صبية يفوح عطرها البرتقالي، وبين ليلة وضحاها صارت امرأة شمطاء – كما وصفها الكاتب سمير حاج- . لم يندبوا يافا في هذه الأمسية، بل أعادوها الى زهوها والى فرحها، الى صباها وعشقها، اليها كما هي في الذاكرة وكما هي على صفحات الكتب وكما هي في القلب.

لم تكن مصادفة أن تفتتح الأمسية بأغنية "زهرة المدائن" التي قدمتها فرقة الكروان، وقد انتبه لهذه اللفتة الطيبة جابي عابد، رئيس الرابطة لرعاية شؤون عرب يافا، فكانت تحية المدينتين الى الشقيقة البكر القدس المطوقة النازفة، وهذا الوصل بين الساحل والجبل منح الأمسية بعدا وطنيا أعمق وأشمل من مجرد الاحتفاء بكتابين ومدينة تحولت من صبية الى امرأة شمطاء. جابي عابد، الذي نقل تحية يافا على رأس وفد من قياديي الرابطة تحدث عن مدينته بصدق العاشق لكن بارادة الوطني المصر على اعادة الحياة والنشاط الى مدينته، تحدث عن الترميم: ترميم الانسان أولا وترميم البنايات واقامة المؤسسات الثقافية تواصلا مع التاريخ والحضارة.

افتتح الأمسية وأدارها الدكتور جوني منصور ابن حيفا وموثق شوارعها العربية، قال:

لحيفا ويافا خريف واحد. . . .
لحيفا ويافا شظايا من ربيع واحد. . .
ليافا وحيفا حوار ذاكرة
وبين يافا وحيفا امواج حنين
حكاية حب،
حكاية تاريخ. . .
إن تدق ساعة يافا
نسمع هنا صدى الرنات،
أنشودة الماضي والحاضر
في سفح كرمل حيفا ومنشية يافا.

وإن اردت ان تبحث عن تاج عروس فلسطين فما عليك الا بيافا عروس البحر.

استحقت اللقب وحافظت عليه الى ان عصفت بها رياح الموت القاتلة فأردتها صريعة القدر ، ولم تقم من نومها الطويل.
تشدنا يافا الى تاريخ حافل ومجيد يحمل في طياته انجازات حضارية كبيرة لمدينة شقت طريق مستقبلها بيد ابنائها البررة الذين احبوها واحبتهم وبقيت وفية لهم الى ان حلت اللحظة اللئيمة والقاسية.

ليس من السهل تعداد الأدوار التي لعبتها هذه المدينة الساحلية ، فمنها نبغ كبار الصحافيين وأشهر الصحف الفلسطينية كـ " فلسطين" لمحرريها عيسى داود العيسى واخوته وابناء عمومته ، وجريدة " الصراط المستقيم" لصاحبها الشيخ عبدالله القلقيلي، وجريدة " الدفاع" لابراهيم الشنطي، وجريدة " الجامعة الاسلامية"لصاحبها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي وغيرها من الصحف التي عكست مواقف ابناء يافا وفلسطين في أحلك ساعات كان يمر بها الوطن الكليم.

ويافا مدينة المسارح ودور عرض الافلام السينمائية العربية والغربية الشهيرة، جورج ابيض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وزوجته بديعة مصابني ومحمد عبد الوهاب وام كلثوم وفريد الاطرش وشقيقته اسمهان وملاك وليلى مراد وبشارة واكيم وعلي الكسار وغيرهم من الفنانين نزلوا يافا وقدموا عروضا لم تشهدها مدن المشرق العربي، وذلك على مسارح سينما الحمرا وسينما الرشيد وسينما ابولو وملهى عبد المسيح، وملهى الباريزيانا .

ويافا العلم والخدمات بأطبائها الكبار: زاهي حداد رئيس الجمعية الطبية اليافية، ويوسف وهبه تماري جراح الاسنان المشهور، وصبحي حماده متخصص في امراض الرأس ، وحسن بك الخالدي رئيس عيادة دوائر الصحة بيافا، وفؤاد الدجاني صاحب مستشفى الدجاني الشهير وغيرهم.

ويافا بشعرائها وكتابها ومفكريها:كنعان ابو خضرا، محمود عبد الحميد الافغاني، عميد الامام، محمود سيف الدين الايراني، عادل جبر، محمود الحوت، ابراهيم الدباغ، مصطفى مراد الدباغ، درويش الدباغ، يوسف زعبلاوي، محمود نديم الافغاني، بشير القبطي، هيام رمزي الدردنجي، ابراهيم ابو لغد، هشام شرابي، والقائمة طويلة.

ويافا بشوارعها العريضة كشوارع العجمي وبسترس واسكندر عوض وجمال باشا والملك جورج. واحياء المنشية والنزهة والبصة.

ويافا بمدارسها المرموقة كمدرسة الفرير والعامرية والزهراء وراهبات مار يوسف، ومدرسة ضابيطة الاسكتلندية وكلية يافا الارثوذكسية.

ويافا بجمعياتها ونواديها الانسانية والاجتماعية كجمعية التضامن النسائي والنادي الاسلامي، والنادي الارثوذوكسي، والنادي الرياضي الاسلامي، والنادي الانطوني، ونادي الشباب المسلمين، وجمعية الزهرة النسائية. وفرق الكشاف الكثيرة التي كانت تحيّ اجمل المناسبات والمهرجانات والمواسم كموسم النبي روبين.

برتقال يافا شعار لها ولتاريخها ، رحل أبناؤها واحتفظوا بإسم برتقال يافا، هل اشفقوا على هذه المدينة ام انهم جعلوا اسمها جزءا من تاريخهم ؟

بعد هذا التذكار والتذكير توالى عشاق هذه المدينة على مغازلتها، فوقف سمير حاج مؤلف الكتاب، وهو محام وأستاذ للغة العربية من قرية عبلين الجليلية لكنه أمضى بضع سنوات مدرسا في يافا وكانت كافية ليلهم ويتيّم فيها. قال سمير مستشعرا ومستحضرا للشعراء:

في العام 1984 رايت يافا فيزيقيا امرأة شمطاء مكفهرة الوجه تبحث عن ذاتها وأسمائها المنسية.

تنفست عبق تاريخها ورائحة امواجها الهدارة احد عشر عاما خلال عملي في مدارسها، فثملت من ذاك العبق المعطر بالماضي المصلوب على خشبتها.

تركت يافا في العام 1995 على مضض، وفي داخلي شوق وحنين مبرح لماضيها الحضاري وألقها الشاعري، وحسرة ومرارة كاوية لما الت اليه. وهذه العصارة من الشوق والحنين والحسرة والمرارة اثارت في نوستلجيا ملحاحة، لاستقراء تاريخها الحضاري وما اوحت ربة الشعرفيها. فكان الكتاب (يافا بيارة العطر والشعر) ، عربون محبة سرمدية وعشق مجوسي الى يافا.وقد ضمخته ما كتب في يافا شعرا خلال فترة مائة عام
بدءا من قصيدة الشاعر الرملي سليمان التاجي الفاروقي(سقوط اول طائرة فوق يافا)المنشورة عام 1912 وحتى اليوم.

يافا الضاربة جذورها عميقا في رحم التاريخ ، والتي كانت " واحة أفلتت من الجنة " ، غاب قمرها ، وخبا نوار برتقالها ، وسكت كنارها .

في هذه " الارض الطيبة " ولد أساطين الادب ورواد الفن وفياهق الفكر.

ومن بياراتها ومغارسها الخضيلة أثقلت عنابر السفن بصناديق البرتقال ، واقلعت من مينائها العتيق ، ومخرت عباب البحر ، لتنقل هدية يافا العطرة وكنزها السندبادي .

والى يافا ترحل نوارس الشعر ، وإضمامات الاغاني ، بعد ان غادر الشعراء . هل غادر الشعراء ؟!

لقد قيل للشعراء : لماذا أيها الشعراء تغنون الوردة ؟ دعوها تزهر في قصيدتكم .

وفي غياب البيارات ، وشميم الورود في شارع " جمال باشا "، تبقى الأزاهير وفراشات الربيع ونوارس البحر ، وبراعم البرتقال ، وأغصان الليمون ، و"برج الساعة " و "الميناء" ، تغطي المساحة الكبرى من مخيلة الشعراء. وقصائدهم المحبرة بالدمع وعصير الشوق والحنين .

يافا العابقة أنسامها بنتف عبير بياراتها الآفلة ، غدت مهيع الذكريات لمسارح الطفولة وملاعب الصبا .

هذه المدينة المعتمة ، المسفوعة بأمواج البحر ، وأسراب السنونو ومزامير الغربة ، تعيش مع حجارة بيوتها العتيقة ، وملابس صياديها المهترئة وأغاني فيروز الآتية من البحر .

سيدة الميناء تبحث عن محارتها في غسق اليل .

عروس البحر تردد أغاني بحارتها المسورة بحب " العجمي" و"المنشية " و"مدرج الميناء " و"الفنار" .

من هنا نزح سارق النار ، ونفخ بخور الحكمة ومسك المعرفة ، في المشرق الباحث عن ذاته.

يافا المعبودة المغروسة في بيارات القلوب ، تقرأ " سفر التكوين " على لسان نوتي يافي طاعن في السن .

يافا البرتقالة " الشموطية" أصبحت في قاموس الشعراء هوية وأغنية وقصيدة .

ويافا في عيون أهلها، وردة حمراء في أردان صبية يافية، وغرسة ليمون في مدخل بيت باق على الشاطئ، وعش دوري في لوح قرميد، وصنارة صياد، وحقيبة مدرسية، وحكاية عمر مصدع، وبرتقالة مشطورة.

هذه الجميلة القديمة بين المدائن، ذات الجذور الكنعانية، الغافية على شاطئ البحر المتوسط، تذرذر عطر تاريخها وحصباء شاطئها، وتنثر أنجمها الحزينة وحكاياتها الكئيبة فوق بحرها المالح المزبد، على مرأى من "برج الساعة"، الشاهد على عمق هذه المدينة في التاريخ والزمن.

المخرج أديب جهشان، يحمل المدينتين الشقيقتين في قلبه وعلى ظهره، فقد ولد في حيفا وهناك أمضى شبابه وبلور حماسه الابداعي وروحه الوطنية، أعطى نصف عمره لحيفاه وأعطى نصفه الثاني ليافاه، وهو الذي بلغ الستين ويبدو أن انحيازه الى يافا سوف يبقيه هناك للسنوات الطويلة التي نتمناها له مغرما بين معشوقتين. قال أديب جهشان في كلمة مؤثرة:

"أذكر أول مرة زرت فيها مدينة يافا، في عام 1962 مع الفنان الحيفاوي عبد عابدي، زرنا دوار الساعة والكنائس القديمة والجامع الكبير وجامع العجمي، في تلك الفترة لم يكن وجود لحي المنشية، كانت آثار الحرب والهدم والدمار الدليل على ما كانت عليه المدينة قبل النكبة، وحال مدينة حيفا لم يختلف كثيرا، وعندما أعود الى طفولتي تعود الي تلك الصور لمدينة جميلة تنبض بالحياة لكنها كالغزال الذي أصابه سهم، فسقط جريحا وظل قلبه ينبض بالحياة، فمن بقي في حيفا ويافا يعيد اليهما الحياة.

وكان في الأمسية صوت آخر، أو صوت "الآخر"، صوت الباحث اليهودي دان ياهف مؤلف كتاب : يافا عروس البحر، كتبه بالعبرية عن سيرة هذه المدينة في عمق التاريخ وما تعاقب عليها الى اليوم وهي حتى هذه الأيام تأكلها سياسة التهويد التي بدأت قبل النكبة، ويشهد عليها دان ياهف ليس كباحث وحسب بل كمن ولد على الحد الفاصل بين يافا العربية وتل أبيب اليهودية.

قال ياهف: "ان الذي دعاني لتأليف هذا الكتاب ليس فقط حب الاستطلاع الأكاديمي بل لأنني ابن لهذه المدينة وكنت شاهدا في طفولتي على ما ألم بها. ولدت في حي هو خط التماس بين تل أبيب ويافا وقد شاهدت بأم عيني ما فعلته الحرب والاحتلال لهذه المدينة الجميلة وكنت شاهدا على النزوح والتهجير، وبعد أن انتهت الحرب وصلت عائلة يهودية من أقربائنا من الخارج، دخلت هذه العائلة وسكنت بيتا عربيا مهجورا، كأنه ملك لها، ثم استولت على بيت آخر على الشارع وحولته الى حانوت كأنه ملك لها.. وأنا كطفل لم أفهم كيف يتم ذلك، فقد عرفت العائلات التي سكنت في هذه البيوت، وفيما بعد أدركت أن سياسة تهويد المدينة هي التي تجيز لهذه العائلة من الأقرباء بالاستيلاء على الدار، هذه السياسة ما زالت تمارس حتى اليوم. الهدف كان ولا يزال تهويد المدينة.

نبيل عازر، قرأ الشعر من أنتولوجيا يافا، وفرقة الكروان غنت وعزفت واختتمت أيضا بزهرة المدائن، وحضرت ذاكرة هشام شرابي وشفيق الحوت ممن سجلتهم امتياز ذياب في كتابها: يافا عطر مدينة، وقد شدت حرارة اللقاء الجمهور للبقاء في القاعة والاستماع الى المزيد، بعد ساعتين من الحب والعطر والحنين، فخرجوا الى العاصفة والبرد الذي يقص المسمار..
معهد اميل توما، يعمل على احياء الذاكرة الفلسطينية وصياغة رواية هذا الشعب المشرد من وطنه، والذاكرة تعني اعادة المشهد الحضاري الذي طمسه الاحتلال، المشهد الانساني أولا ثم المعماري ثم الثقافي وباختصار، المشهد اليومي لشعب قدم للحضارة الانسانية ما قدمته شعوب مماثلة خلال حقب التاريخ المتعاقبة، فوضع سلسلة "سهرة كتاب" وسلسلة أخرى هي "ذاكرة حيفا" ويعد لنشر انتاج أدباء وشعراء فلسطينيين رحلوا دون أن تنشر ابداعاتهم في كتاب وهي متناثرة على صفحات الجرائد والمجلات والجوارير ، ومعهد اميل توما الذي عقد في آذار الماضي مؤتمر حيفا الأول عن حق العودة يستعد لعقد المؤتمر الثاني في أيار المقبل، وهو يواصل التأسيس لحوار مع "الآخر" ليس على قاعدة ما هو متفق عليه بل ما هو مختلف عليه للوصول الى فهم أعمق للعيش الكريم على هذه الأرض، العيش بلا عنصرية ولا احتلال ولا استعلاء ولا اقصاء لأي طرف.

أمسية يافا كانت محطة أخرى .. والقطار يسير ويسير...


_________________________________________
* الكاتب مدير معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية- حيفا

التعليقات