31/10/2010 - 11:02

مخيمات لا تنسى/رشاد أبو شاور

-

مخيمات لا تنسى/رشاد أبو شاور
(إلي خالد الحروب)
الدهيشة ليس مكاناً ينسى، ولا ينتقص منه أنه مخيّم، وله أن يدلّ على غيره من الأمكنة بأنه جار بيت لحم، المتداخل معها، وفيها، مكاناً، وناساً، وحياةً.

فيه كرجت قدماي علي الصخورالمستلقية البيضاء التي تبدو كفقمات مبحرة لفرط حياتها، حاملةً علي متونها الحراذين، والجنادب، والفراش، وطيور الحجل، والحباحب، مكحلّة الأطراف بعشب زغبي.

في الدهيشة تعلّمت أول الكلام، ونشيد (موطني)، وكتبت أوّل الحروف، وبللت بفمي سنّ قلم الكوبياء ليكون خطّي أعرض وأوضح، فمن هناك بدأت رحلتي مع الوضوح.

الأساتذة: نمر (العطابي)، محمود الخطيب، أحمد العجّوري، سليمان مزهر وابن عمّه أحمد مزهر، والأستاذ الياس الذي كان في الشتاء والصيف يركض من بيت لحم إلى الدهيشة، ومنه تعلّمنا أن نركض بلا توقّف في هذه الحياة.

هل علّمك هؤلاء يا خالد؟
طبعاً أنت أصغر منّي، ولدت وبقيت في الدهيشه، وهذا يجعلني أتوقّع أن بعضهم علّمك!.

في الدهيشة قضيت قسطاً من طفولتي الموحلة الشقيّة جائعاً برداناً، سطوت مع أترابي على قطوف العنب وهي حصرم، والسفرجل ولمّا ينضج، وحبّات تين فجّة غالباً وشبه ناضجة أحياناً (دافور)، وجنّت حواسي في تلال الخضر وأنا ألتهم الحصرم وعيناي تنزفان ماءً حامضاً. أكان ذلك من الحصرم، أم تراه من حموضة أيامنا؟

من بستان (حنّا) سرقنا حبّات اللوز وهي صغيرة كالحلمات الخضراء، وقرشناها بلهوجة مع الأوراق الطريّة من فرط الجوع، ثمّ ركضنا وحنّا يصرخ علينا ويطاردنا كأنما يلعب معنا نحن الثعالب الصغيرة.

هل عرفت كرم حنّا يا خالد؟
الدهيشه أدهشني بأوّل تظاهرة، وأنا والأولاد جنّنا، زعقنا كالعجول وبرطعنا على الإسفلت، والصخور، ورشقنا الخيام التي كانت تتلاصق وتسمّي مدرسة، بالحجارة، فمن الدهيشة يا خالد بدأت رحلة الحجارة.

من تحت إحدى الخيام ـ خيام صيوان، وخيام مزعمطة أي بعمود واحد ـ انتزع رجال الشرطة أبي، وجرّوه مع رفاقه إلي سجن بيت لحم، وهناك حجزوهم شهراً، ومنذ ذلك الوقت بدأت أعرف ماذا يعني أن يكون لك أب شيوعي مطارد، وأن تكون بلا أم أو أخ أو أخت!.

يا أخي خالد:
وأنت في ساحة (المهد) تتنقّل بينها وبين مسجد سيدنا (عمر)، هل خطر ببالك أن هذا المسجد حوّل إلى مأوى لمن تمّ إنقاذهم من تحت الثلج عندما غمرت الثلوج الكثيفة الخيام، وحاصرت مئات الأسر؟

أنا واحد ممّن تمّ إنقاذهم، ونقلهم إلي المسجد، ولن أنسى كيف انبهرت وأنا أرى الرايات، واسمع الموسيقى وهي تصدح، ونافخي الأبواق الصغار بملابسهم المزركشة.

وقفت حافي القدمين ببنطلون قصير، متحمّلاً البرد الذي سرى في عظامي من أجل الاستمتاع بالمشهد الباهر الساحر الخيالي الذي لم أشهد له مثيلاً.

تلك بيت لحم في أعياد الميلاد يا خالد،
بيت لحم جارة الدهيشة الذي شاركها دائماً أعياد الفصح ـ خميس البيض ـ وأعياد الميلاد، وأولئك هم أهل الدهيشة الذين اعتادوا أن يقسموا بحياة سيدنا عيسى، وأمّه سّتنا مريم، برحابة نفوس وعقول، دون تفريق بين أنبياء الله، هم المصلوبون كذلك النبي الذي ولد، وثار، وبشّر، وصحح، وصلب على أرضهم: فلسطين.

أخي خالد:
كأنك عند عودتك إلى المكان الذي أرضعك، وعلّمك المشي والقراءة، نسيت من فرط شوقك ووجدك واندماجك أن تمّر علي (ارطاس) فتشرب من مائها، وتكحّل عينيك بصنوبر برك سليمان ـ التي بناها سليمان القانوني ـ لتنشي روحك وحواسك بغناء فيروز يطلع إليك من عمق وادي ارطاس، من الكنائس والأديرة، وهي ترتّل باللغة الآرامية شيئاً من كلام سيدنا المسيح، متداخلاً مع أذان ينبعث من مآذن لا تكّف عن ذكر الله والشهادة لآخر أنبيائه!.

أتراك زرت ارطاس، ومررت بمتحفها الصغير الجميل الغني بالمعلومات؟
أما وقفت على سفح جبل (أبوزيد) ـ نسبة إلي أبي زيد الهلالي ـ مستذكراً رحلة بني هلال، عربنا الذين توجهوا إلى تونس الخضراء هرباً من الجدب والفاقة، وربّما حنيناً إلى بلاد (حنّا بعل) القرطاجي الفينيقي الكنعاني، وتجديداً لصلات أسستها جدّتنا الملكة علّيسة (أليسار)؟

بين 1948 و1952 عشت مع أبي في مخيم الدهيشة، مع طيور الحجل، والحمام البرّي، والشحارير، وتنفّست البابونج، والزعتر، والميرميّة، في التلال المحيطة به.

حتى يومنا هذا كلّما ـ في الشتاء خاصةً ـ كلّما وضعت أعواد ميرميّة في الشاي الصباحي، أوقد أعواداً وأستاف عبيرها. أغمض عينيّ، فأراني وقد أخذت في الركض دائخاً كالدارويش في الحضرة، وأنا على مرتفع أطّل على (نحالين) و(حوسان)، والرعاة يضرمون نيرانهم ليستدفئوا، متنفسين عبقاً ينعش أرواحهم، وهم يشربون الحليب في طاسات، مع الثغاء والأجراس، والعبق الضّاج في النسمات الصباحيّة.

أما شعرت هناك كأنك صرت جزءاً من طبيعة أرض بلادنا؟
تلقّنت حّب الحياة من الدهيشه، وبيت لحم، وارطاس، والخضر الغارس رمحه في راس التنين، وهو على جواده، الخضر الواعد بالعدل، الخضر قرية العنب،والتين،والسفرجل، والخوخ، والدوم والزعرور، والماء الزلال.

قبل سنوات عدت إلى أرض طفولة روحي هذه، وكتبت عنها (رائحة التمر حنّة).

رائحة التمر حنّة هي بعض من روائح فلسطين، فكما الزعتر والميرميّة من روائح بيت لحم والدهيشة وأخواتها، فالتمر حنّة رائحة من روائح أريحا الخالدة.

من الدهيشة ارتحل بي والدي إلى مخيّم النويعمة حيث كانت النقلة من البرد والثلج إلى الشمس، من الميرميّة والعنب وأشجار السرو والصنوبر التي تزنّر برك سليمان إلى نخيل أريحا وحقولها.

الدهيشة والنويعمة وغيرهما مخيمات رحّلنا إليها قسراً، ولكن أهلنا خففوا وطء الغربة فيها بحميم العلاقات، وقوّة الإرادة، ونبل المشاعر، بكفاحهم للقمة الخبز الشريفة، والدفتر والقلم لأبنائهم وبناتهم، بدورهم في مواجهة مخططات التوطين، بتصديهم لسياسات الأحلاف المعادية الاستعماريّة.

الدهيشة، النويعمة، وغيرهما من المخيمات، ليست مجرّد أمكنة، وعلاقتنا بها ليست رومانسية، ولا هي رضا بالشتات والمنفى، ولكنها رحلة كبرياء وأنفة وعظمة روح، وغلبة على كّل ما دبّر لأهلنا ولنا من بعدهم.

مخيمات رمينا فيها لننسي، فإذا بها تصبح عناوين في الأخبار العالمية، لبطولة ومقاومة أهلها، وتشبّثهم بإنسانيتهم، واجتراحهم للمعجزات يا خالد...

التعليقات