31/10/2010 - 11:02

ميل يا غزّيل/ رشاد أبو شاور

-

ميل يا غزّيل/ رشاد أبو شاور
فنّان شاب لم يشتهر كثيراً في زمن فوضى الفّن السائد هذه الأيّام، يتمتّع بصوت حلو وقوي، أصدر شريطاً استعاد فيه أغاني عدد من المطربين والمطربات الراحلين، أو الأحياء الصامتين صوناً لكرامتهم!.

حسناً فعل، فقد ذكّرنا ـ أنا وأبناء وبنات جيلي ـ بمن شدوا بأحلى وأعذب كلام الحب، في أغانيهم الطربيّة، أو الشعبيّة، أولئك الذين كانت أغانيهم كلاماً له معنى، وليس قرع طبول، وصراخاً وتلوّي أجساد...

هذا الفنّان الشاب ذكّرني شخصيّاً بـ: نجاح سلام، محمد سلمان، سهام رفقي، رفيق شكري، معن دندشي...
استعاد في شريطه أغنية شعبيّة خفيفة لنجاح سلام المطربة اللبنانيّة ذات الحنجرة القويّة والصوت المليء طرباً، والتي تفهم في الموسيقي ـ كان والدها من المقربين من العملاق محمد عبد الوهاب ـ وهي من أغانيها التي ذاعت شهرتها قبل عقود:

ميّل يا غزيّل يا غزيّل ميّل
ميّلك ميّولة قيّلك قيّولة
نسقيك فنجان قهوة نعملّك تبولة
حاجة بقي تخيّل يا غزيّل
أغنية خفيفة، كلماتها فيها دلال، وغزل حلو ـ غزل أيّام زمان ـ وأكلة لبنانيّة فاتحة للنفس مشهيّة: التبولة.

الحبيبة تدّلل المحبوب بـ(غزيّل)، مصغّر الغزال، لأنه شاب، وهي مثله شابة، غزلان مع بعض يا حبيبي، ساق الله على أيام الغزلان!. والغزيّل متيّم بدليل أنه يخيّل، يعني رايح جاي من قدّام بيتها، وهي ملهوفة عليه، ومبسوطة من تدلهه بها، تريده أن يهدأ، وإن كانت تستمتع باضطراب حاله وتخييله.

تقديري، ومن وجهة نظري، وباعتقادي، أن الغزيّل هو من الحارة، لكنه حفاظاً على الأصول لا يفعل أكثر من التخييل ـ ليس من المخيّلة، ولكن من الخيل، فهو يمتطي ساقيه ـ وهو يطارد ذارعاً الشارع، أو الزقاق، وهي تراقبه من الشبّاك، أو من الشرفة.

في زمن مضى كان العاشق يحتاج لوقت طويل، لجهد مضن، حتى يلفت انتباه المحبوبة لتدلهه بها: نظرات العينين، والتنهدات عند المرور الخاطف، والابتسامة الخفيفة لمرأى المحبوبة، ورفع راحة إليد والتمسيد على الشعر بحركة مفتعلة، مقصودة، يراد أن تبدو عفوية وما هي بعفوية...
كان هذا يحدث في زمن مضى، والغزيّل يخيّل، فهو على نار، يريد إشارة تريحه، تطمئنه إلى استقبال رسائل العيون، وإليد، والفم، والغمزات اللطيفة.

فإن حدثت الاستجابة، فإن العاشق المعني لا يكتفي، فنار الجوي تصيح: هل من مزيد؟
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
الشاعر بترادف الكلمات، كان يصف حالة العاشق الذي لا يكتفي، والعاشق يطمع في المزيد، فعواطفه شرهة، وكل حالة تدفعه إلى ما هو أبعد عمقاً في العلاقة.

في تلك الأيام التي تبدو بعيدة ـ يا لسرعة الزمن! ـ كانت أغان كثيرة تصوّر حالة العاشق، منها أغنية في شريط هذا المغني الشاب، للراحل رفيق شكري، تقول في مطلعها:

في الفلا جمّال سارح
قلت: سارح وين
يا ناري عالمحبوب يا ناري
قايده في الجنبين
من الذي يغنّي في هذه الأيام للنار المتقدة في الجنبين؟
بنات وشباب هذه الأيّام بالكاد يسمعون بالجمل والناقة، فهم غارقون في زمن (مايك) و(مادونا)، وابنة العم (شاكيرا) ورقصها الناري، العولمي، المزيج من نار الشرق وجنون أجساد الأمازونيات!...

في هذا الزمن يحب الشباب، ويختلفون، ويفترقون في ساعات قليلة، فهم في عصر السرعة، والحب مثل الأكلات السريعة، أحمل وامش..يلاّ!.

في زمن مضي، لم أجد سبيلاً لإشعار إبنة الجيران بنار الجوى الملتهبة سوى بالاستعانة بديوان نزار قبّاني (أنت لي)، فالبنت تناولت نسخة الديوان اللذيذ الحجم والكلام والشكل، بأصابع راعشة، وبعد أيام قرأت مقاطع كتبتها بخطّ مرتجف، بالكاد تبيّنت كلماته، ومع ذلك فقد كان أجمل خطّ مرّت عليه عيناي.

كانت أمشي على مقربة من بيتها وأنا أغنّي همساً، بصوت أجش، ملتاع:
أهواك واتمنّى لو أنساك
وانسي روحي ويّاك
وان راحت تبقى فداك
متخيّلاً أنني عبد الحليم حافظ، فإن لم يسعفني جمال الصوت، فيكفيني معنى الكلمات، وما توحي به، وصدق العاطفة!...

في هذه الأيّام يقع الحّب على الخليوي، بكلمات قليلة، مكشوفة، يتواصل الأولاد والبنات، ثمّ يفترقون، فهم في عصر السرعة، لا يسهرون مع (أم كلثوم)، ولا مع (فريد الأطرش):

آدي الشتا يا طول ليإليه
عللي فاتو حبيبه
شتاء ماذا يا عم؟
الأولاد والبنات لا يعانون من شتاء الحّب، زبطت أهلاً وسهلاً، ما زبطتش مع السلامة، يوجد غيرها، أو غيره...

في أيامنا كنّا نكتب رسائل على ورق أزرق، نعطّره، نبلله بدموع العيون، نترك بقعاً باهتةً مستديرة برهاناً على دموعنا:
يا دموع العين سيلي
على أم المناديلي
أيامنا كان (العزول) في كّل الأغاني تقريباً ـ ما عدا أغاني فيروز والرحابنة ـ وهو حاسد، يترّصد المحبين بعينه (الزرقاء)، هادم للذات، مفرّق للجماعات، وفي مواجهته كانت عبارة تتردّد:

يا عوازل فلفلو
وهذا يعني أن (العوازل) يتفلفلون على النار، لأنهم باءوا بالفشل، والتقى المحبون في عناق، وثبات ونبات، وأولاد وبنات...

أيامنا كانت البنت تلّم شعرها في منديل يجمّله مهرجان ألوان ربيعيّة، يبرز جمال الوجه، وأناقة الأنف، وحلاوة الفّم.

في هذه الأيّام ما عاد الجسد ملكيّة شخصية، إنه معروض للعيون، فالجينز ممزّق على الركبتين، والقميصة تنحسر عن السرّة، والبنطلون ينزل عن ال..استغفر الله العظيم!.
بماذا يتغزّل أولاد هذه الأيّام؟ بالعيون النجل؟ أم بالطول الذي كعود الزان؟ أم بالدلال؟.

أعادني شريط هذا الفنّان الشاب إلى أيام خلت، أيام الحب، والعواطف، والغزل الرقيق، الرشيق.
ذكّرني بفنّانين وفنّانات منهم من رحل، ومنهم من هو حي يرزق لكن غناءه بات غريباً في زمن غريب، لا نظرات ساهية فيه، ولا تنهدات، ولا غمز عيون، ولا ابتسامات بريئة، ولمسات يّد مكهربة تبدو عفوية بينما التخطيط لها يأخذ وقتاً أطول من الوقت الذي تستدعيه خطط الجامعة العربيّة للمصالحات بين دولها.

يرحم الله تلك الأيّام التي كنّا نستقطر فيها كل لحظة حّب كما يستقطر ماء الورد الجوري الفوّاح..آه يا غزيّل!

التعليقات