31/10/2010 - 11:02

نماذج حضارية .. أعــوذ بالله/ : محمد فؤاد المغازي

نماذج حضارية .. أعــوذ بالله/ : محمد فؤاد المغازي
تعبير الدولة العظمي من المصطلحات التي يستخدمها الكُتَّابْ والباحثون في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية ووسائل الإعلام. فمصطلح الدولة العظمي يفرض ومنذ اللحظة الأولي على الجميع تقسيمات أولها أن هناك دول عظمي، ودول نصف عظمي، ودول تمشي في كنف العظماء وهم الأغلبية من دول العالم.

ومصطلح " الدولة العظمي " كان من بين المفردات التي تناولها أستاذنا محمد حسنين هيكل بالشرح والتفسير. ففي كتابه أحاديث في أسيا وكان هذا في عام 1973 وفي سياق إجابته على سؤال طرحه شواين لاي على الأستاذ هيكل..حول مفهوم القوي الأعظم. فكان رد هيكل..أنه يضع عددا من العناصر يجب أن تتوفر لدي أي دولة تستحق وصف القوة الأعظم، رصدها على النحو التالي:
1_ مقعد دائم في مجلس الأمن (والصين لها هذا المقعد).
2_ قوة نووية رادعة (الصين لديها السلاح النووي).
3_ إمكانية اقتصادية ضخمة (وهذا متوافر للصين).
4_ قوة بحرية (وليس هذا بعيدا عن متناول الصين).
بعد 17 سنة..أي في عام 1990 وفي كتابه الانفجار (حرب الثلاثين سنة) عاد أستاذنا هيكل فقدم لنا معادلة تتضمن وشرح أوفر، وعناصر جديدة مضافة لتعريف الدولة العظمي فكتب: " أن وصف دولة ما بأنها واحدة من القوتين الأعظم. ليس حساب طاقة إنتاجية، وليس قياس ترسانة نووية، وليس مسألة كتلة مشايعة محيطة بالمركز، وليس قضية عقائد اقتصادية وسياسية، وإنما هو بعد ذلك وقبله، استعداد للخروج بذلك كله إلي العالم الواسع، والمنافسة النشيطة على قاعدته، والدعوة إليه كنموذج حضاري يلهم الآخرين..ويغريهم."
وهكذا حددت لنا المعادلة الهيكلية عناصر الدولة العظمي ومكوناتها على النحو التالي:
دولة عظمي = طاقة إنتاجية + ترسانة نووية + كتلة مشايعة للمركز + عقائد اقتصادية وسياسية + الاستعداد للمنافسة على أساس طرح نموذجها الحضاري تعرضه على الآخرين كي يلهمهم..ويغريهم.
بعد الحرب العالمية الثانية ظل هذا اللقب قاصرا على كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قبل وصول جورباتشوف الذي سلم مفاتيح الدولة العظمي في كواليس مدينة هوليود ولم يمنحوه جائزة الأوسكار.

وفي زماننا الحاضر انفردت أمريكا بهذا اللقب، أو بتعبير آخر بالملعب والدور، فالدولة العظمي الثانية الاتحاد السوفيتي لم تعد عظمي وإنما كشفت عن عِظَامِهَا أمام الدنيا، ولم يعد المتبقي من العظمة غير ترسانة نووية جاري تفكيكها، وحتى بيعها وإن لزم الأمر البيع بالتهريب، ويكفي أن أعيد على القارئ ما قاله المستشار الألماني السابق هلموت شميت في حديث تلفزيوني حول حادثة الجنرال الروسي الذي كان يخبأ صاروخا يحمل رأسا نوويا في جراج منزله.

أما العاصمة موسكو لم تعد مركز تشايعه كتلة وإنما مركزا ينفر منه الجميع ويتبرءون من أي علاقة كانت تربطهم به من قبل..أكثر من هذا فإن طاقتها الإنتاجية غير قادرة على تغطية السوق الروسي، فتشتري موسكو الطعام بالدين..وبالإحسان تارة أخري..والموتى يلقي بهم في صفائح الزبالة بسبب أن أهل الموتى لا يملكون تكاليف دفنهم. وما زالت موسكو تقدم التنازلات وتنحني أمام المطالب الأمريكية الأمر الذي يلغي أي تأثير سياسي لها في المحيط الدولي إذا ما استمرت على ما هي عليه فمآلها إلي العزلة.

وبعد أن كانت للعقيدة الماركسية_ اللينينية شنة ورنة، زال عنها بريقها الذي كان يغري ويلهم الآخرين، وتحولت فجأة إلي العقيدة التي تسببت في كل الكوارث التي جرت على كوكبنا الأرضي والفضائي، بعد أن كانت في يوم من الأيام عقيدة لا يصلها الباطل من الجهات الأربع الأصلية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فراحت الأحزاب الشيوعية تغير من أسماءها فبدلوا من جلودهم ليسقطوا صفة الشيوعية عنهم.
خلاصة القول: تحولت الدولة العظمي الثانية في ليلة وضحاها إلي عضو جديد ينضم إلي نادي دول العالم الثالث قد تكون موسكو الأولي في ترتيب عواصمه..يا هلا. وهكذا، انتهي الأمر وأسدل الستار على المشروع الشيوعي الذي هان واستكان..فلم يعد يلهم الآخرين أو يغريهم، فالضعيف لا يلهم وإنما يغري الآخرين بالتهامه.

ولم يتبقى من المعروض غير المشروع الحضاري الغربي يلهم..ويغري، وتمثله الدولة العظمي الوحيدة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فهل تمثل أمريكا نموذجا لمشروع حضاري يلهم الآخرين..ويغريهم ؟
بحثا عن إجابة..علينا أن نعاود لنناقش مكونات النموذج الحضاري من خلال معادلة أستاذنا هيكل.

تنمية الطاقة الإنتاجيـــة :
عند التدقيق سنجد أنفسنا أمام نموذجين في مجال تنمية الطاقة الإنتاجية. النموذج الأوربي يأتي ترتيبه الأول في عملية النصب الدولي في إطار الترويج لتنمية الطاقة الإنتاجية للدول التي ابتلعها وسيطر عليها أحقابا.
النموذج الثاني جري تطبيقه داخل أمريكا وساهم في إنجاحه عوامل ذاتية منها: الإمكانيات المادية الهائلة التي في حوزة النموذج الأمريكي، إضافة إلي استخدام قانون السخرة والرقيق في بناء ما يسمي بالبنية التحتية. نهج تنموي يلغي كل معني لما هو حضاري وكل ما هو إنساني..علينا أن لا ننسى ذلك.

كانت محصلة النموذج الأوروبي والأمريكي في تقديم العون والمساعدة لتنمية الطاقات الإنتاجية للآخرين بغرض أن يلهمهم ويغريهم محصورا في النطاق الجغرافي الأوربي والأمريكي، لم يقدم المشروع الحضاري الأوروبي أو الأمريكي نموذجا واحدا _ على امتداد العالم كله _ ساعد على تنمية الطاقة الإنتاجية لدولة واحدة.

لم يحدث مثلا أن ساهم النموذج الغربي بشقيه في تنمية الطاقة الإنتاجية لأقرب المخلصين التابعين لهم، من الذين قدموا أوطانهم قواعد عسكرية لهم، وغنيمة مباح العبث فيها اقتصاديا وماليا وثقافيا..لم يحدث هذا مع ماركوس في الفلبين، وسوهارتو في إندونيسيا، ولا مع تركيا التي باع نظامها الدين طمعا في الدنيا، ولا في مصر الذي سلم فيها حكام المنوفية بكامل الشروط الأمريكية، ولا مع شاة الذي لم يراعوا له جميل ولا أي قدر من الشفقة عندما تحول إلي طريد مريض!!!

ولا حدث هذا مع منظومة دول النفط في الخليج العربي..والتي كان ينظر للعلاقة التي تربطهم بالحليف الأوروبي والأمريكي على وجه الخصوص بأكثر من حميمة وبأنها علاقة استراتيجية..تغيرت الآن فأصبحت أكثر من فاترة، ولم تعد استراتيجية وإنما علاقة على كف عفريت..فسبحان من له الدوام!!!

كذلك، لم يحدث أن ساهم النموذج الحضاري الأمريكي في نهوض تنمية حقيقية في بلد واحد من بلدان أمريكا اللاتينية والتي تحمي مؤخرة الولايات المتحدة الأمريكية من أي عبث يعرض أمنها القومي للخطر.

لقد ظلت الدول الدائرة في فلك الاستعمار الأوروبي ثم الولايات المتحدة الأمريكية دولا متخلفة، كما ظل دورها في العملية الإنتاجية محصورا في قطاع إنتاج المواد الأولية ووفق شروط النموذج الأمريكي والغربي من حيث حجم الإنتاج وتحديد أسعاره، وبحيث لا تفضي الدورات الإنتاجية إلي تحقيق أي فائض قد يساعد على قيام تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، وإذا حدث بالخطأ أو بالسهو وتَكَّوَنَ هذا الفائض فإنه يتحول إلي أرقام في خزائنهم لا يملكون حق التصرف فيها، فإذا ما حاولوا ذلك، تم تجميد أرصدتهم بقرار غربي أمريكي.

في مقابل ذلك استطاع النموذج الشيوعي_ وهذه حقيقة_ أن يقدم مساعدات وتسهيلات ومن غير استغلال يذكر للكثير من دول العالم الثالث، ويكفي أن نذكر هنا وفي عالمنا العربي ما قدمه الاتحاد السوفيتي لمصر ولغيرها من الدول العربية من دعم في مجال تنمية طاقتها الإنتاجية.

النتيجة أن المتطلعين للنموذج الأمريكي والغربي لم يجدوا فيه ما يحقق لهم تنمية حقيقية لطاقاتهم الإنتاجية، وإنما وجدوا فيه نموذجا يقدم مزايا وفرصا للنخب من السماسرة المحليين في أن تشارك النموذج الأمريكي والغربي في استغلال شعوبهم، وقد ينجح سماسرة من الدرجة الثانية أو الثالثة في تحقيق نسب ربحية كبيرة خاصة إذا كانوا من المتفوقين في مجال الكتابة والدعاية والنصب الثقافي والديني.

وعندما علا صراخ العالم الثالث يئن بالشكوى، نصبوا له سركا سموه حوار الشمال مع الجنوب، انتهى إلي حوار الصم والبكم. هذا هو النموذج السراب الذي طرحه النموذج الأوروبي في البداية ومن بعده النموذج الأمريكي..الذي بدأ بعرض مشروعه الحضاري عبر السينما الأمريكية، وبعد الانفراد بالقوة ظهر لنا وجهها الحقيقي القبيح متمثلا برامبوا، وهو على كل الأحوال لا يغري ولا يلهم ولكنه يخيف، نموذج حضاري ليس فيه ما يغري الآخرين ويلهمهم، وإنما نموذجا يلهيهم..وينسيهم.

الترسانة النووية :
لقد أخذت أفتش بحثا عن دور للترسانة النووية في المشروع الحضاري الأمريكي يلهم الآخرين ويغريهم، فلم أجد غير قضية الأمن تصلح أن تكون مدخلا يلهم الآخرين ويغريهم. كيف ؟
بداية، المشروع الأمريكي لا يعرض على الآخرين المشاركة في ترسانته أو الشراء منها، وإنما المعروض..هو ظلال أمنها وبغير مقابل، العرض مغرى، ولكن هناك بعض الإجراءات الإدارية يجب أن تطبق أولا في الدول الراغبة في التمتع بمظلة الأمن الأمريكي، هذه الشروط تبدأ بأن يكون للولايات المتحدة الأمريكية مطلق الحرية في تحديد مفهوم الأمن الوطني لتلك الدول، ودورها في إطار الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، كما لأمريكا الحق في أن تحدد القوي السياسية التي تتولى القيادة في الداخل، والقوي السياسية المطلوب كسر عظامها.

وظل الاختيار أمام الدول التي تسعي لضمان أمنها في كنف رامبو اختيارا أحاديا إلي يومنا هذا، فإما أن تقبل الدول بما تعرضه أمريكا عليها، أو أن يتحملوا تبعات عصيانهم.
زمان..تنبه شارل ديجول للفخ المنصوب، وقرر إنشاء مظلة نووية فرنسية تكون في خدمة الأمن الأوروبي بديلا عن الترسانة النووية الأمريكية. نفس الشئ حدث مع عبد الناصر فقد رفض هو الآخر النموذج الحضاري الأمريكي برمته. وقد أثار رفض ديجول وعبد الناصر غضب أمريكا، غير أن وسائل الضغط والعقاب بالنسبة لديجول كانت هامشية قياسا على ما تعرض له عبد الناصر، الذي راح العقاب معه يأخذ أشكالا متنوعة تبدأ بالتجويع وتجميد أرصدة مصر والحصار الاقتصادي ودعم العدوان العسكري وصولا إلي وضع الخطط لقتله.

يذكر أستاذنا هيكل كيف تابعت وتتبعت أمريكا كل خطوات مصر عندما بدأت تتجه في دخول مجالات محظورة مثل مجال صناعة الطائرات والصواريخ وفي مجال الأبحاث النووية، وهي أمور يعتبرها هيكل من المحظورات على العرب، ويدلل على ذلك بالحملة التي تعرض لها العراق في محاولته لتطوير صواريخه وقدراته النووية.

وهكذا، أصبح علينا نحن العرب أن نفهم وبدون اعتراض أو حق فيه..أن من أختار من العرب الاعتماد على الأمن الأمريكي أصبح في دائرة النفوذ المطلق للأمريكيين، وحركته ودوره يحددها القرار الأمريكي. هذا هو دور الترسانة النووية في إطار المشروع الحضاري والمتعلق بالأمن المعروض على الآخرين..ليس فيه ما يغري، ولا يلهم..وإنما نموذجا من الأمن الخادع يلغي وجود الآخرين !!

كتلة تشايع المركز..وعقائد اقتصادية وسياسية :
انتهت الحرب العالمية الثانية وبانتهائها تم فرض شكلا جديدا من العلاقات الدولية. وتحولت مراكز الثقل والقيادة إلي عاصمتين الأولي واشنطن والثانية موسكو، وخضع تشكيل الكتل المحيطة بكل مركز إلي شروط الواقع العسكري والاقتصادي والسياسي الذي أفرزته نتائج الحرب العالمية. تحول النصف الغربي من أوروبا إلي كتلة تشايع مركزها المرغمة عليه _ بقدر ما _ من قبل واشنطون، وخضع الجزء الشرقي من أوروبا إلي كتلة تشايع مركزها المرغمة عليه _ بقدر أكبر _ لموسكو تبرره شعارات وبهارات الثورة.

تولت الولايات المتحدة قيادة الغرب مدعمة بالعقيدة الليبرالية على صعيد الاقتصاد والسياسة وبذراع عسكري ممثلا بالناتو. أما موسكو فقادت كتلتها الشرقية مدعمة بالعقيدة الماركسية _ اللينينية على صعيد الاقتصاد والسياسة ومدعمة بحلف وارسوا ذراعا عسكريا لها.

وبدأت عملية النصب الكبرى حينما بدء كل مركز تتبعه كتلته يبشرون المحرومين الحالمين بالحرية وبالعدل الاجتماعي، ونسي كل البشر _ ونحن العرب في مقدمتهم _ أننا نشاهد عرضا لمسرحية مملة ومتكررة، والجديد فيها هو جمهور المشاهدين.
فالمسرحية شاهدتها أجيال سابقة علينا، وبدأ عرضها الأول مع القرن السادس عشر، عصر النهضة والتبشير بالتقدم العلمي في أوروبا. أيامها فعلت أوربا نفس ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية اليوم بعد أن أصبح مفتاح القيادة بالسطو في يدها..دغدغة حلم المحرومين في الحرية والعدل الاجتماعي، ولا يذكر التاريخ أن حلم السابقين علينا بالحرية والعدل الاجتماعي قد تحقق.

أيامها كان التبشير بإمكانية السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم..وتسخيرها في خدمة الإنسان. ولم يكن يدري أجدادنا سكان _ العالم النحس _ والمعروف الآن بالعالم الثالث، أنهم جزء من موارد الطبيعة نفسها، وأن حديث التبشير بالحلم لا يشملهم.
وجاء القرن الثامن عشر ليمثل ثورة على الثورة التي بدأت مع عصر النهضة، فحلت الصناعات الآلية محل الصناعات اليدوية، وتبعها بداية تشكيل طبقات اجتماعية جديدة مرافقة للمتغيرات المرتبطة بالعملية الإنتاجية الجديدة، وظهرت المدارس الاقتصادية خاصة الليبرالية وكان من أشهر أعلامها الاقتصادي الإنجليزي " آدم سميث " (1723_1790 )، ونتيجة لمجمل تلك الأحداث الكبرى التي شملت الفكر الاقتصادي والسياسي الجديد والعلاقات الدولية، وانتهت إلي رؤية جديدة مغايرة لدور الدولة في أوروبا، حيث تراجعت ورفعت يدها عن التدخل في الشأن الاقتصادي للأفراد.

وجاءت الثورة الفرنسية لتضيف إضافة نوعية عندما رفعت شعارها الخالد في الحرية والإخاء والمساواة..فساهم بدوره في دفعة رومانسية قوية للحلم القديم الجديد، فأرتفع صوت المبشرين بالعدل والمساواة والسلام ليصل إلي آذان الملائكة الطيبين يوقظهم كي يروا أن الحلم الوعد قد أقترب مولده على الأرض..وبين البشر.

ولأن فعل زرع يأتي في الترتيب قبل فعل حصد..فمع مجيء القرن التاسع عشر، كان الحصاد لا يبشر بأن الزرع له أزهار وثمار، ولا يقترب من قريب أو بعيد من صور الحلم التبشيري. كان الحصاد بؤسا نشر ظلاله على الجميع ولم يستثني منه حتى المبشرين الكذابين أنفسهم، فالخراب والتدمير صورا حية موزعة على قارات الأرض تظهر ما جري من جرائم ارتكبت بحق الأبرياء من الأطفال والنساء والأبرياء.

وبدلا من التضامن لوقف الخراب، دارت عجلة الحروب الأوربية وفلسفة الخراب، لتطحن القارة الأوربية نفسها ومعها العالم. وفي فترة الهدنة الممتدة ما بين (1919_ 1939 ) ظهر إلي جانب التيار الليبرالي تيارات أخري كالماركسية والفاشية والنازية، وعادت الشعارات ترفع، والدعوات التبشيرية تجلجل مرة أخري..تؤكد وتطمئن بأنه آن الأوان لتحقيق حلم المحرومين من العدل الاجتماعي والسلام على أيدي المبشرين الجدد المسلحين بأفكار ونظريات، والكل يقسم بكل مقدس بأنه الصادق والقادر الوحيد على إنقاذ سفينة الإنسانية من الغرق، وتجنيب العالم كوارث جديدة فيكفي..ما كفي.

وبدلا من أن تتحاور الأفكار، راحت تتصادم، وتتسارع معدلات والصراع _ وتعود ريما الأوربية لعادتها القديمة في السيطرة وبناء رفاهيتها على حساب فقراء وبؤساء العالم _ ويتفجر الصراع بين بلطجية التاريخ من ذئاب أوروبا وينتهي الأمر بحرب كونية ثانية خسائرها في التدمير مفجعة، كان أكثر الخاسرين فيها تلك الملايين من الفقراء الحالمين والمنتظرين بشائر الخير التي سيحققها المشروع الحضاري الأوروبي.

وهكذا، مرت خمسة قرون كانت تفصل بين التبشير بالحلم الحضاري وبين حصاده. خمسة قرون مضت لا وعد بالحرية تحقق، ولا عدلا اجتماعيا بزغت له شمس، ولا مساواة جرت بين البشر. خمسة قرون مضت وإنسان العالم الثالث على ما هو عليه وجودا اقتصاديا متخلفا، ووجودا سياسيا تابعا، ومعملا اجتماعيا لكل التجارب تجري وبغير رحمة على وجوده وروحه، من قبل المبشرين المتحضرين البيض الأوربيون ومن معهم من أبناء العالم الثالث الذين أداروا ظهورهم لمنبتهم، فتاجروا بأوطانهم.

خمسة قرون مضت أوصلتنا إلي عصر الاحتكارات والتكتلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية والبنكية، تكتلات قدرتها على تخطي الحدود أسرع وأشمل وأقل ضوضاء ولا تحتاج لإعلان الحرب أو طلب تأشيرات للدخول من باب المجاملة، لأنهم وباختصار أصبحوا يملكون ويسيطرون على ما وراء تلك الخطوط الوهمية المسماة..بالحدود.

خمسة قرون أوصلتنا إلي انفراد دولة واحدة بمصير العالم، والكارثة أن هذه الدولة تم بنائها على أساس قاعدة السطو، والقوة السافرة والسافلة التي يستمتع الكثير من أبنائها برؤية الدم والكتش آب، دولة يعظم أغلبيتها القوة بصورتها العارية، ويكفي أن أذكر للقارئ بمشهد شاهدته على شاشة التلفزيون الألماني يصور مظاهر وصلف وغطرسة القوة، فقد أهدي رجلا أمريكيا أبيضا يبلغ من العمر أكثر من الثمانيين إلي زوجته الشابة الحسناء والتي تبلغ من العمر 78 سنة..دبابة من مخلفات الحرب العالمية في عيد ميلادها!!

دولة تحشر أنفها في كل مكان في العالم، وتلوح بالعصا لمن عصا، تحدد للآخرين ما هو مسموح وما هو ممنوع، ولها وحدها أن تحدد ما يدخل في نطاق أمنها من مناطق ودولا وبشرا، فتتحول تلك المناطق وتلك الدول إلي محمية عسكرية وطبيعة ممنوع الاقتراب منها والتصوير.

هذا هو الحلم الذي وضعته وبشرت به أوروبا المتحضرة في البدء، وتسلمته منها مناصفة بعد الحرب العالمية الثانية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. ثم انتهي الأمر ليصبح التبشير بالمشروع الحضاري من نصيب أمريكا وفي قبضتها، ولينتهي الأمر من تعددية حضارية تبشيرية، إلي النموذج الحضاري الأوحد، والذي لا يحمل من سمات التحضر غير اقترانه بالصفة الكاذبة !!

لا يا سادة أمريكا التي بنت وجودها على قتل الآخرين ونفي وجودهم، لا تملك نموذج حضاري يلهم الآخرين ويغريهم. فالقتلة لا يملكون نماذج حضارية، والنموذج الأمريكي هو نموذج غير حضاري..وهو غير حضاري لأنه غير إنساني..وهو غير إنساني لأنه من أصل أوروبي استعماري الفلسفة والتوجه.

أين هي سمة التحضر، والتمدين، والأخلاق في نموذج حضاري يفرض على الآخرين بالقوة المباشرة..نموذج العراق، أو بالتهديد باستخدامها..نموذج بقية الأنظمة العربية؟
ولماذا يركز ويصر الأمريكيون ومن معهم من دول أوروبية _وآخرون يؤثرون السلامة في المرحلة الحالية انتظارا عما ستسفر عنه تجربة دفع العرب إلي حظيرة الحضارة الغربية قصرا وبالحذاء إذا لزم الأمر_ على فرض رؤيتهم على العرب على وجه الخصوص؟ هل يعني هذا أن دول العالم التي كانت خارج دائرة التحضر والتمدين قد استكملت بناءها الحضاري ولم يعد هناك غير هؤلاء العرب الرافضين للتحضر والمتمردين على الحرية والتمدين ويفضلون عن ذلك السكن في المقابر..وسباق الْجِمَالْ؟

فبداية أيها سادة..فإن النموذج الحضاري........
هو النموذج الذي يخلقه أصحابه ويوفرون مكوناته بأنفسهم، لا يفرضوه على الآخرين، ولا يروجون له بتهديد الآخرين. نموذج حضاري تكون قاعدته ومكوناته ودوافعه إنسانية، مشروع حضاري لا يحتاج لترسانة نووية كي تحميه. مشروع حضاري تكون فيه تنمية الطاقة الإنتاجية والاجتماعية قائمة على فلسفة تعظم قيم العمل الإنساني ومن غير استغلال، ويكون العلم في خدمة التنمية بديلا عن الشعوذة والبلطجة. نموذج حضاري يفجر طاقات الإنسان الخيرة..وينجز أكثر مما يطنطن.

ومن غير أي رغبة في التعالي، أو التنفيس عن عقد بسبب الانتماء، نقول: أنه في يوم من الأيام كان لأمة العرب مشروعها الحضاري، أعطى الآخرين بأكثر مما أخذ منهم. لذا، فالعودة إلي تاريخنا وحاضرنا إلي ذاتنا، لنشيد نسيج ثوبنا الحضاري الجديد بمكوناته الإنسانية والتاريخية والدينية والثقافية والإبداعية الخاصة بنا _ دون أن نعترض على الآخرين في بناء نماذجهم الحضارية _ ساعتها سوف نجد في نموذجنا الحضاري ما يلهمنا ويغرينا بالدرجة الأولي، ويشفينا من عقدة الخواجة.

لكن هذا لن يتم في ظل النظام العربي الحالي، فأول مطالب التغيير هو كنس هذا النظام العربي القائم، وإحلال بديل لنظام تكون فيه النخبة الرائدة والقائدة بغير صحيفة سوابق. لم تشارك الغزاة من أمريكيين وصهاينة وأوربيون في استغلال أبناء الأمة..ولم تصدر فتاوى تستخدمها رموز النخب السلطوية القائمة في تبرير جرائمهم في حق شعوبهم وأمتهم.

وعندما تستعرض النماذج الحضارية بعضها بعضا وبأسلوب حضاري، عندها ستتعاون النماذج الحضارية وتتصادق فيما بينها، تتبادل الأخذ والعطاء بغير وصاية ولا استعلاء، وسيختفي النموذج الأوحد المسيطر المنفر، وساعتها سوف تستبدل السيطرة بالتعاون، والحوار بديلا عن القتتال، والتواضع بديلا عن الغطرسة، وسنجد أنفسنا نحقق فلسلفة السلام الحقيقي، وليتولى أصحاب النموذج الحضاري الغربي المزيف إطعام أنفسهم ولو لمرة واحدة من غير استغلال الآخرين.

وينتهي دور دولة الإرهاب الأمريكية، فوجودها يمثل في حد ذاته الدليل المادي على غياب أي نموذج حضاري، فأمريكا دولة قامت على قهر واغتصاب واعتصار وجود وروح الآخرين، دولة تلوثت أيدي من أسسوها بدماء الملايين ممن قتلوهم بدم بارد، دولة تقاس معدلات الجريمة فيها بالثواني، دولة يمارس فيها أطفالها القتل بالنار وبالجملة، دولة قيادتها للعالم تمثل خطرا يهدده بالتدمير. دولة كريهة ومكروهة، الدولة رقم واحد التي تحرق أعلامها وتداس بالأقدام في كل ساحات العالم. فهل يعقل بعد كل هذا أن يقال..أن هناك نموذج غربي..أو نموذج أمريكي حضاري يلهم الآخرين.. ويغريهم…أعـــــــوذ بالله.

التعليقات