01/11/2010 - 23:01

البحر خلف النافذة- قصة قصيرة/ فؤاد خطيب

غرقت في عملي رغم الجهد الذي بدا واضحاً على محياي والذي شاهده الزملاء والممرضات

البحر  خلف النافذة- قصة  قصيرة/ فؤاد خطيب

غرقت في عملي  رغم الجهد  الذي  بدا واضحاً  على محياي   والذي  شاهده  الزملاء والممرضات عندما احتجت  الى تركيز مكثف  ومباشر  لفحص  الحالات  المرضية المتتالية   ووصف الدواء   وكتابة التقارير  الطبية المتتالية. قال   زميل  مداعبا . "  ماذا جرى    ؟ ماهذا الوجوم   والحزن   والسرحان   أراهن انك  بت ليلتك سابحاً في بحر من الشعر ألكستنائي والعيون العسلية " ناظراً الى  الممرضة الجميلة الشابة التي ساعدتني بعملي . ابتسمت هي ألاخرى بدورها   وتابعت  عملها ولم تهزها    المداعبة لامن بعيد  ولا من قريب .

بدا البحر  خلف النافذة الزجاجية  للعنبر  قريباً  رمادياً اختلط  أديمه  الصباحي  بوجه   الغيم   وضاعت أمواجة التي طالما  شاهدتها من مكاني هذا . تتفتت مبعثرة   الزبد ألأبيض  على كاسر ألأمواج  وعلى الشاطئ الرملي الواسع خلفه .

قلت لذاتي  متلهفاً  "..يارب  اجعل  هذا اليوم  زمهريرياً  واطلق   عواصفك  ورعودك وبروقك وأمطارك   كلها  وأقصف  هذه ألأرض الملعونة  القاسية  الحبيبة الشقية  التي  لعبت بي  صغيراً   ودارت دوائرها  بي   في كل الاتجاهات . هاهي  تعيدُ  الكرة  ثانية وثالثة   وتلعب بي  وتلفُ عوالمي  حتى غدوت لها أسيراً  واختلط علي  زماني  ومكاني   حتى أصبحت  على شفير هاوية ..على حافة كاسر  ألأمواج ذاك  الذي أراه  غارقا في البحر . لاشك ستأخذني يوما   ما موجة من موجاته  وأتوه في مدى  ذاك ألأزرق العابث  الى ألأبد  " .  نظرت ألى الممرضة الجملية والى شعرها  ألكستنائي الجميل الذي يموج  كموج البحر مع كل حركة وانحنائة ويموج مع موجاته قلبي  وتخيلتها  حورية بحر  تسرقني  هناك  مع الموج الى ألأعماق  نبحث واياها  عن قعر ساحر بعيد  اقضي   فيه بقية   عمري  ابحث عن  سمكتي  الذهبية   الهاربة مني  أبداً خلف شعب المرجان .

عن يميني  أعيش  حياتي  الحاضرة   مع أسرتي  وعملي  وأصدقائي  وكتبي   وعن يساري  يفور  دوماً  معين  ذاكرة لا تنضب   اختلطت في سمائها   نجوم ساطعة  وهاجة قريبة من القلب  وأخرى واهية  بعيدة  بعد الزمن كله . أرى  وجوهاً  لاتغيب  عن بالي  تملأ كالمرة ألأولى  كياني  هنا وفي كل مكان . أرى منصوراً   بكوفيته  السوداء  وعقاله ألأسود العريض . أرى سلمى   رفيقة قلبي الصبي  بفستانها  ألأحمر البديع  وزهرة  البسباس  الفاقعة على مفرق  شعرها  وكأنها أميرة كنعانية  تبحث    عن شقائق ألنعمان  في مرج ابن عامر  أو  تقطف الجلنار  تحت رأس الناقورة لتصنع منه  صبغا  ارجوانياً   تخربش به  الافق الغربي  ليبدوا ساحراً حالماً وقد مالت  شمس ألأصيل  الى الغروب .

أرى  زهرة جارتنا  خلسة  وهي تغتسل   في تلك الزاوية المظلمة  بعتم النهار  وارى  لأول مرة  جسداً انثوياً    بضاً متناسقاً  بكل  عنفوانه . سحرني  ذاك الجسد  وشدني    الى عالم وردي  ساحر   مغمور   بورود   الرغبة الحمراء  التي نبتت في القلب وفي كل مكان .  أرى  العم مسعود  وحصانة العجوز  يجره وعربته  ألمهترئة   في طرقات القرية الترابية   غادياً   واتياً   ملهماً  دورة  حياة  أبدية  في قرية على أطراف الوطن  زارتها  ألهه الموت مرة وسرقها الى قعر بحر الموت  وقصفت حبقاتها   وشردت  ناسها  وربضت  على صدرها  بكل رهبتها  وعظمتها  وبؤسها.

أرى أشقياءاً  بعمر النرجس  يلعبون  ويدرجون  ويخبطون  أديم الارض الصلدة . أرى الحياة كلها  كرة مطاطية  تلف وتدور  بين أقدامهم  الصغيرة  التي   رفضت الموت  وطردت ألهة الموت وفضلت البقاء  هنا في هذه الطرقات   السحرية التي  تبدأ من القلب   وتنتهي  في القلب  مرة واحدة والى ألأبد .

 أتت  هذه التداعيات   هواجساً  عابرة  خلف البلور الكبير على صفحة يوم رمادي  أخر .. ماطر  بعد أن اختفت الشمس  التي كادت  تلامس  سطح المستشفى . انتشيت   ليس حباً   بالمطر بل  رغبة جارفة لمواصلة مشوار ذكريات حية   جارفة   هدتني  وخطفت  لون الحياة مني  وأغرقتني  في هواجس متداعية الواحد تلو ألاخر كموجات البحر الرمادية التي تتفتت على كاسر ألأمواج وعاودت  الكرة من جديد .

ذكريات   لا  يعرف كنهها احد  غيري  اختمرت عمراً  بحاله   في دهاليز الدماغ   البعيد بعد ألف سنة ضوئية وعادت  كل مرة  واحتلت  وجودي  بوقع  خاطف  أسرع من لمح البصر.

زوجتي   حسبتني   قلقاً   ساهماً  بعيداً عنها  وعن بيتنا   وعن الاولاد وعن كلبنا الصغير الجميل  وحسبني زملائي  عاشقاً ولهاناً  حتى الموت . أما أنا  عرفت  حقيقة ذاتي ولم  أبح بها لمخلوق لأنها ملكي وحدي ولن تنته  حتى لو انتهيتُ  في قعر بحر الموت . عجبت من  حبل الذكريات الذي  لا ينقطع  ومن ذاك الجني   الذي  اقتحم  على  عالمي  متكوراً من  لهب  ودخان الموقد   في ليلة عاصفة وكأنها ليلة صلب المسيح .  عرض على ذاك الجني   رغم أنفي   كيساً   كبيرة  كبر  عالمي  محشوة   بلوحات   ذكرياتي   وبرسوم  حياتي  التي عاشت  ردحاً   طويلاً   من الزمن  في دهاليز  ابعد من الخيال  ذاته . انتهى الدوام     وخرجت مسرعاً   راقصاً بين  حبات المطر   نحو سيارتي  الصغيرة  التي انطلقت  تعبر وهاد  الوطن ووهاد  القلب . انتظرت ميعادي    في ليلتي   ألأخيرة على أحر من الجمر.

سقط  مطر غزير   في طريق عودتي  المسائية   وتلبدت الغيوم   قحفت  بحر حيفا  كله  معها  وسطع برق    وهدر رعد  هز الدنيا   كلها وبدد حتى أحلام  العصافير.

اعترتني نشوة  طارئة   وأنا أرى   أمنيتي  تتحقق  أمام  عيني . ليلة  عاصفة وبرد  وبرق  ورعد وموقد وذكريات .

أحسست بالاختناق   كلما دارت  عقارب الساعة    الى الامام   .  انتظرت لحظة الخلاص   آتية   من أسنة اللهب   ومن سحابات   الدخان  التي  حامت  بفراغ الموقد   قبل عبورها   المدخنة للفضاء  الرحب.  كفت  عن التسامي   الى ألأعلى وانغلقت  على  شكل دوائر  ودوائر  رمادية وبنية   وسوداء  . تكور الجني الملعون  أمام ناظري كما تكور أول  مرة  وعلى شفتيه تلك الابتسامة   البلهاء . انعقدت  شفته الغليظة   السفلى  في زواياها  وهو يرشف     لعابه  اللزج  الذي  سال  على ذقنه ألأسطورية   الخالية من الشعر . نظرت اليه بشزر ونظر الى ببلاهة  لم اعهدها على احد من قبل. قلت  له بحدة "  أين كنت أيها اللعين..لقد غبت طويلا ؟ " .

قال  راشفاً  لعابه مرة أخرى  " كنت برفقة صاحبي  علاء الدين   في مدينة النحاس.. بحثنا هناك  عن  قناديل " . 

قلت   "  عن أية قناديل تتكلم  ياغبي ؟ " .

قال    وقد ارتسمت  على سحنته  علامات الجد    واختفت ولو  للحظات علامات  البلاهة والهبل " قناديل  نضيء  بها عالمكم المظلم  يا سيدي " .

قلت   جادا ً بدوري "  من طلب منك   ومن صاحبك المهرج  مثل هذا ألأمر  ؟ " .

قال "  لم يطلبه احد  .. في سفراتي الى عالمكم   رأيته  أبداً مظلماً .. طلبت منه ووافقني وحملتة   على ظهري وطرتُ به الى مدينة النحاس   نطلب تلك القناديل".

قلت   مندهشاً  ساخراً "  ..وهل أحضرتم  تلك القناديل  ..يا أبله  ؟ " .

  قال بثقة وثباث  " نعم أحضرناها    بجميع ألألوان   وألأحجام ..أضاءت   الطريق  الى عالمكم  بالمئات  ..وبقي معي منها المئات " .

قلت وقد  شدتني  اللهفة وحب الاستطلاع   ومواصلة الحديث العبثي  بعد أن أصبح شيقاً .

  " هل لي  برؤية بعضها ؟ " .

ما كان من الجني الا أن انحنى  والتقط  الكيس   المعهودة  كحاو   بالسيرك   مخرجاً  قناديلاً  صغيرة   وجميلة مختلفة  ألأشكال  بألوان قوس قزح كلها . اخرج   واحدا ازرقاً  فغدا  الجو بالحال  ازرقاً سماوياً   بعيدا  سَبحت في أبعاده   نجوم وأفلاك كثيرة . اخرج اصفراً   فانقلب المدى  اصفراً  كلون الليمون  وغدت عوالمة واهية بعيدة . تناول من الكيس   واحداً ابيضاً   أصبحت معه  الدنيا بيضاء كندف الثلج . أخرج  اخضراً  .. وهكذا دواليك   حتى تعبت  عيناي   وقلت  متوتراً 

" أخرجها كلها أيها ألأحمق" .

  أخرجها في الحال   ورأيت عوالماً   مختلطة  من أجمل ما يكون    بيوت  بيضاء  سفوح خضراء  بحور زرقاء  كلون بحرنا   وورود  حمراء  كلون وردتنا  ..رأيت ضياءاً   وتحتها عربة وحصاناً   وأولاداً  يلعبون وجدول مياه فضية وطاحوناً وبيادراً  وستائراً بلون السماء في يوم صاف لعبت  بها الريح    هدأت نفسي   من تلقائها ..  وطلبت  منه هذه المرة  بنفس ساجية  وروح هادئة .

"  اسمع ياهذا  ..  اتركها  كلها  مضيئة  كما هي وعد بنا  الى الوراء "   . وضع  الجني المصابيح   كلها   في زاوية حيث   تداخلت أضواءها  بتناسق  بديع  لم أعهده  من قبل  سرق أبصاري كلها . عندها   غدا  الجني بعيني  لطيفاً  رقيقاً   يكاد   يذوب رقة وسط هالة  الضوء البديعة  على حافة عالمين تواصلا وتداخلا  بتناسق  رهيب .

 قلت  وانا مسحوراً  بالاضواء  المختلطة  بتداخل  آخاذ  بعث  في قلبي  نشوة طارئة   وعلوية  " ..اسمع  يا هذا  لي عندك طلب أخير .." .

قاطعني  مسحوراً  بدورة  بالالوان البديعة  "  اطلب  ما شئت..وسيكون لك بالحال".

 

قلت   " اريد  بساط الريح  لساعة من  الزمن " .

 

  قال    "  لماذا بساط الريح  ..  أنا أحملك على ظهري  وأنقلك الى حيث شئت  حتى للمريخ   أو الى السماء السابعة "  . بحث الجني بنظراته  البلهاء عن السماء التي اخفتها الغيوم خلف النافذة المشرعة.

قلت "  لا ياهذا    أريد بساط الريح  ..أريد أ ن أكون وحيداً  ليس برفقتي احد " .

قال "  بساط الريح  مع علاء  الدين   وقد تركته قبل  لحظات   في بغداد الرشيد  على الجسر  العتيق  بين الرصافة والكرخ   يستعد لسفرة  الى بلاد الهند والسند وارض البنغال " .

قلت " أرجوك يا جني   هذا والله طلبي ألأخير " .

قال "  انتظر  ..سيكون لك ما أردت " . قال هذا وعاد وتكور   على شكل عامود  دخان  وانسحب  بسرعة  البرق  من  المدخنة  محلقاً الى سماواته البعيدة .

لم يغب  طويلا  . حضر كما  غاب  ممتطياً  هذه المرة  بساط الريح  هابطاً برفق  على أرض  غرفة الذكريات  التي عادت وعبقت   بالدخان . فرك عينيه  المحمرتين ربما   من طيرانه في الهواء .  ترك البساط   السحري   معلقاً   في فراغ الغرفة  على ارتفاع أشبار  قليلة من السيراميك البارد . وقفت مذهولاً  ونظرت الى الجني  الذي تقلص  حجمه  وأصبح بحجم كلبنا الصغير   واقفاً  بجانبي  يشجعني  على اعتلاء متن البساط . اهتزت قدماي    ليس رهبة بل توتراً  من مغامرة  مقبلة  لا اعرف   نهايتها  . ابتسم الجني  وبسط  يدة   وكأنه في حضرة السلطان قائلا  " تفضل  يا سيدي  لك ما  أردت ..لاتخف  وقف بطولك   على البساط وأمره  فيكون طوع بنانك " .  هكذا كان .    أمرت البساط  أن يطير بي من أمام الموقد    الى الفضاء خلف نافذتي الشرقية التي فُتحت  بدورها تلقائياً . شَعرتَني بعد لحظات  ممتطياً  متنه محلقاً  في الفضاء   وسط ألوان  الطيف كلها   وبين القناديل   التي نثرها   الجني  في كل مكان . ذهبت  الرهبة  وحلت  محلها الرغبة وذهب الخوف وحل  محله  الشوق وحب الاستطلاع .  حلقت في سماء القرية  وفوق سطوحها  وفوق قمم   ألأشجار  ومع العصافير  والطيور  التي قاطعت طيراننا  في كل اتجاه    غير فزعة من الطارىء  في مجال طيرانها   ذاك .  هاهي  العين وقبور  الشهداء . هنا قبر أخي   وقبر منصور وهنا  الدغل  وتلك  هي زهور ألدفلى البيضاء التي غطت  مدخل  المقبرة العتيقة  حيث دفن الشهداء بعد معركة العين .  اتجه   بي البساط  ثانية صوب الشرق   حتى أصبحت  قادراً    على ملامسة  قمم أشجار البلوط  ومداعبة   أزهار الصبار التي بدت   في وهج اصفر  غطى ذاك الزقاق المسحور . هاهي أحلامي تَتحق الواحد بعد  ألأخر  وها أنا في دوامة  أسبح خلف تلك ألأحلام .  اتجه بي  غرباً بعد أن  أدرته  وبعد أن شعرت بسيطرتي التامة عليه .  حلق بي فوق البحر وفوق الميناء  وفوق قاع المدينة . بحث عن سلمى   وعن فستانها  ألأحمر وعن زهرة بسباس  فاقعة الصفار  ولم أجدها . طار بي جنوباً وحلقت    كعلاء الدين فوق مأ ذن القدس   وكنائسها وأسوارها  العتيقة  وفوق قبة الصخرة  التي لمعت بوهجها الذهبي  الذي  عبر من حولي  صاعداً الى السماء البعيدة .عاد  بي الى القرية  حتى لامست  طرف الهلال على رأ المئذنة  ورأيت

 

 

 

أسراب الحمام  عائدة من تيهها لتبني  عليها   أعشاشها .

  لامست برج   ألأجراس فوق الكنيسة القديمة  ومسكت الحبل  وهززته  وسمعت رنيناً آتيا   من بعيد وكأنه الرنين ألأول . حلقت مرات ومرات فوق بيوت القرية وبحث عن أترابي ألأشقياء كلهم  ولم أجد احدأً   بعد أن شردتهم أنواء العاصفة  في أربعة اتجاهات . عدت الى الغرفة   وشعري مُشعت    وياقة قميصي مبعثرة  شردها الريح. رقد الجني  وتكور  بجانب الموقد  كما تركته وعلى شفتيه ابتسامة رضا  عريضة . لف الجني   بساط الريح برقة   ووضعه  بكيسه   وسحب  من جوفها  لوحة  بلون الخريف   الذي أحب واعشق .  غدت بها ألأشجار  عارية وثناثرت أوراق   الخريف  مع هبات الريح الباردة .  لم تبق خضراء في ساحة بيتنا   الا  السروة الباسقة   وشجرة الخروب القديمة التي غطت أسطبل  الحصان وقسماً من الباحة أمامه .  وقف الحصان هذه المرة   حزيناً مطأطأً رأسه   عيونه غارت  وخفت صهيله  . اكتفى   بلفتة نحوي   ثم غار في عالمه  الحزين وكأنه  حس بساعة الفراق . تكدست  حوله أوراق الخريف  في رحلة الفناء الخريفية . لاطفته   ومَسدت جيده  ومشطت بمشطه    الخشبي شعرات  رأسه ألمثناثرة على غرته . لم اعتل صهوته  هذه المرة  ولم ننطلق نسابق الريح . مشى بجانبي  متثاقلً    هَدته  خطواته على ارض  ألأسفلت   الصلدة . ومشيت  حابسًا عبراتي  باحثاَ له ولي عن رحلة مصير .

وصلنا الى غابة السنديان   على أطراف القرية  الشمالية  الى بداية طريق أتيت منها  مرة بعد الضياع    بعدما أرسلني  العم مسعود وحدي  مع العربة والحصان  من حيث دارت معركة العين   مع  الغرباء . أرسلت الشمس   أشعتها الخريفية الباردة  ولم تبدد العتمة الزاحفة   التي رايتها  تتكور على قمم ألأشجار .  خلعت عن الحصان قيوده   وقبلته بين عينيه  وغسلت دموعي دموعه   وقلت  "  اذهب  يا  صديقي .. انطلق فانا كما تعرفني لا أجيد الفراق " .  صهل الحصان   وضرب  بحوافره اديم الارض  النائمة   وهز رأسه   مراراً    وصهل صهيلاً موجعاً لم أسمعه منه من قبل اخترق حدود الغابة وحدود القلب . انطلق    مسابقاً  الريح بعدما ربت على متنه مرة واحدة . ركض وركض في عتم الليل   الزاحف   وتلاشى في قلب الغابة  السوداء  وعاد السكون مطبقاً  على كل شيء .

ربضت  الطائرة الكبيرة   على ارض المطار    غير بعيد عن شرفة المودعين . صعدت سلمها  وخطوت خطواتي الاولي  في عالمي الجديد . جلست في جوف ذاك المارد المعدني  ولوحت  بيساري  لناسي  وأهلي وذكرياتي   التي تركتها   كلها هناك  معهم . هدر المارد وشَخر  وحلق فوق المطار . غابت  من أفقي بهنيهات  قليلة  كل ألأشياء  وبانت بنايات المطار   كعلب الكبريت . لم أر  الا كوفية أبي  البيضاء   وفوقها عقاله ألأبنوسي   وقد غطت  ارض  المطار كلها وامتزجت  مع  الغيوم البيضاء    في ألأعالي التي  تناثرت  كالعهن المنفوش  قريبة من سدرة المنتهى .

التعليقات