18/12/2010 - 22:13

عن السينما في المدينة.. وأمور باريسيّة أخرى/ سليم البيك

رجعت من هناك محمّلاً بثلاثة عشر فيلماً، أو هكذا ظننت حين سُئلت عن عدد الأفلام التي أحضرتها من باريس، لأكتشف بعد نبش الحقيبة المجهدة بأني رجعت وقد حمّلتها بواحد وعشرين فيلماً، علب الـ DVD موزّعة بين الملابس والتذكارات والبروشورات.

عن السينما في المدينة.. وأمور باريسيّة أخرى/ سليم البيك
عن السينما في المدينة.. وأمور باريسيّة أخرى
 

سليم البيك

 

    رجعت من هناك محمّلاً بثلاثة عشر فيلماً، أو هكذا ظننت حين سُئلت عن عدد الأفلام التي أحضرتها من باريس، لأكتشف بعد نبش الحقيبة المجهدة بأني رجعت وقد حمّلتها بواحد وعشرين فيلماً، علب الـ DVD موزّعة بين الملابس والتذكارات والبروشورات.

    لا أدري لماذا احتفظت ببروشورات وتذاكر جميع المتاحف والمعارض والمَعالم، ربّما هو القلق الدائم المسبب/المبرر لكتابات مفترضة/محتملة قد تتحقّق. وقد يكون الأمر ذاته فيما يخصّ الكتب والأفلام، لا أستعير أياً منها لسبب علنيّ وهو أني أفضّل اقتناءها لحاجتي المحتملة/المفترضة لها بعد الانتهاء منها، ولسبب مكتوم هو أن أصْدق حين أبرّر تهرّبي من إعارة أيٍ منها بأني: لا أعير ولا أستعير.. مريّح بالي، رغم أن بعض الأصدقاء لازلت أقترح عليهم إعارتهم بعض الأفلام والكتب، كان آخرها فيلمين لفيديريكو فيلّيني سبقهما فيلمان لجوزيبي تورناتوري!

    الواحد والعشرون كانت أفلاماً فرنسية عدا ستة: ثلاثة أفلام قديمة لوودي ألن، أحد أفضل/ألذ المخرجين لديّ، وثلاثة أقدم لمارلين مونرو، إحدى أكثر الممثلات إغواءً/إغراءً لديّ كما لدى الشعوب بما فيها شعبي (العربي) الفلسطيني. عجزت عن إيجاد أفلام إيطالية وإسبانية -وهي، مع الفرنسية والجاد من الأميركية، المفضّلة لديّ- بترجمات (سَب تايتلز) إنجليزية، وهذا ما أشعرني، واقفاً أتأملها، بالفقدان والوحشة، رغم عدد الأفلام التي أقتنيتها. ووصلت تلك الوحشة ذروتها حين حملت بين يديّ (هاتين) في أحد المحال خمسة أو ستة أفلام لبيدرو ألمودوفار، المخرج الإسباني الجميل، والتي تخلو جميعها، لخيبتي، من ترجمة إنجليزية.

    إضافة لعدّة أمور تميّز الباريسيين في حبّهم لمدينتهم وللحياة والمقاهي والفن والأدب والجمال في كلّ صوره، يمكن الحديث مطوّلاً عن حبّهم للسينما والذي لا مفرّ لكل زائر من أن يلحظه من خلال دور السينما المنتشرة في شوارعها الداخلية وحاراتها كما شوارع المدينة الرئيسية، والأفلام المعروضة هي بمجملها ذات طابع ثقافي جاد (إلا أن الأمر لا يخلو من أفلام "الجَنْك" الهوليوودية) بخلاف تام لما تعرضه دور السينما هنا في الإمارات. كما يمكن ملاحظة حبّهم وشغفهم أكثر من خلال محلات بيع الـ DVDs/الأفلام المنتشرة بين كل مقهى سينما مطعم مكتبة، ومقهى سينما مطعم مكتبة، والمشغولة دائماً بمرتاديها.

    معظم هذه المحلات صغيرة وعادةً ما يكون أصحابها هم العاملون فيها، كما المقاهي التي يغلب أن يكون فيها النادل هو صاحب المقهى. يضاف إليها أكشاك متحرّكة تبيع الأفلام والموسيقى، وكلّها نسخاً أصلية بعلبها، المغلّفة في معظمها، بخلاف سوريا (أو لبنان أو الأردن مثلاً) التي عدتُ منها الصيف قبل الفائت بأكثر من خمسين فيلماً منسوخاً، وإن كانت بجودة عالية. لا ألوم ناسخي الأفلام هناك، فلولا ذلك لما وصلت السينما (نسبياً) إلى الفقراء وعامة الناس، وهذا موضوع آخر.

    لكن الصيغة المبتكرة التي يعتمدها الباريسيون في الأفلام وكذلك في الكتب، هي بيع نسخاً أصلية لكن مستعملة (أوكازيون، خاصة في مكتبة جلبير)، وكذا كانت معظم الأفلام التي أقتنيتها من هناك. في معظم المحال تجد مجموعة أفلام نظيفة، من الخارج والداخل، ولا يمكن اكتشاف إن كانت مستعملة أو جديدة دون الدمغة الصفراء (أوكازيون). يشتري أحدهم الفيلمَ (أو الكتاب) الجديد، يشاهده، ثم لسبب ما يبيعه لأحد المحال الذي يبيعه بدوره بأقل من نصف سعره الأصلي. هي صيغة، ربما، لحفظ جميع الحقوق وأولها حق من لا يستطيع شراء فيلماً بعشرين يورو في أن يجده بعشرة أو خمسة يورو. هذه التجربة أظهرت أيضاً مراعاة واهتمام الباريسيين بكتبهم وأفلامهم بعد استخدامها لتبدو كأنها ما تزال حارّة.. الآن طلعت من الفرن. لابدّ أن إعارة الكتب والأفلام ليست من العادات الباريسية!

    المحلات الصغيرة هذه تنافس، لانتشارها، المحلات الثلاثة الأكبر في المدينة والتي تبيع الـ DVDs: فْناك: وهو على ما يبدو البديل الثقافي الفني لفيرجن، وفيرجن: صاحب شعار "ثقافة اللذة"، ومكتبة جلبير المتفرّعة المتخصّصة. سأشير سريعاً إلى فيرجين، ذي ثقافة اللذة، والمنتشر في العالم، وما يفرق بينه في باريس-شانزليزيه، وبين أكبر فروعه في دبي مثلاً. في فيرجين دبي هنالك ستاند "مترين طول بمتر عرض" يتيم لأفلام تحت تصنيف خجول هو "سينما العالم" (لا وجود له في فيرجن أبوظبي)، وهي بأغلبها الأفلام التجارية (التي تحقّق مبيعات) القادمة من أوروبا وآسيا، أما باقي الفيرجن فتستأثر به "منتجات" هوليوود المبارَكة. في فيرجن باريس هنالك ستاندات لأفلام غير تلك الموسومة بالهوليوودية تشغل مساحة تفوق كل مساحة فيرجن أبوظبي مثلاً. هذا ولم أتكلّم عن قسم الموسيقى أو المكتبة أو غيرها في فيرجين باريس، ولم أتكلم حتّى عن فناك أو مكتبة جلبير.

    سأكتب متألماً عن الفقر والتقشّف المتفشّيين (جداً) في الفن والثقافة (إن وُجدا) في حياتنا، أمر مافتئ يطرأ كضربة شمس على رأسي كلّما دخلت مكتبة أو محلاً لبيع الأفلام والموسيقى، وهذه المحال شغلت من أيامي الباريسة ما لا يقلّ كثيراً عمّا شغلته شوارع المدينة. وأذكّر، تنكيداً، بأن الثقافة/العادة السينمائية عند الباريسيين مجرّد مثال سيكون الحديث عنه أكثر رأفة بالحال العربي من الحديث عن الفن والأدب والحضارة والتاريخ والانفتاح والعقليّة.. وعن الفرق بينها عندهم وبينها عندنا.

    هنالك، فوق كلّ ذلك، "سينماتيك فرانسيز" بمبناها الضخم ومكتبتها السينمائية الشاملة ومتحفها الدائم ومعارضها الموسميّة التي كان آخرها عن الشقراوات والسمراوات في تاريخ السينما، وتتصدّر بوستر المعرض "فوتايج" لبينلوبي كروز بالشعر الأشقر مأخوذة عن فيلم ألمودوفار الأخير "عناقات محطّمة"، والذي، لحسرتي، لم أجده بترجمة إنجليزية. فالسينماتيك هذه بمفردها حالة سينمائية تشارك في رسم معالم ثقافية فنيّة لمدينة كباريس تبعد عنها كل المدن العربية كل البعد. أمّا المحلات المتخصّصة في بيع أفيش (ملصق) أفلام كلاسيكية ونادرة غائرة في القِدم، وهي غير محلات السوفينير المنتشرة والتي تبيع أفيشات أفلام ذاع صيتها، فهذا مبرر آخر للإحباط عينه.

    رجعت من هناك بفيلمين حضرتهما في السينما هما "ميرال" الفاشل و"ستقابل غريباً طويلاً أسمر" الجيّد لوودي ألن، أحد الرموز الباريسية غير الفرنسية، مع مارلين مونرو وتشي غيفارا. كما رجعت بأفلام فرنسية جهدتُ حتى وجدتها مترجمة إلى الإنجليزية، كانت بأسعار أقل بكثير مما قد أجده (صدفةً، إن توفّرت أساساً) في الإمارات (والحال في الإمارات أحسن من غيره بكثير)، وبحسرة أفلام فرنسية وإيطالية وإسبانية وغيرها قرأت عنها، أو يعجبني مخرجيها أو إحدى (لا: أحد) ممثلاتها (لا: ممثليها) ولم تتوفّر فيها تلك الترجمة، رغم أني الآن في محاولة متكرّرة لتعزية نفسي بأن الترجمة الفرنسية لهذه الأفلام لو كانت تسعفني لرجعتُ من باريس بديون قد تزيد حقيبتي المجهدة وزناً، والتي (بالمناسبة) زادت بوزنها عن الحد المسموح به للمسافر باثني عشر كيلو غرام. وليكمل الباريسيّون طيبتهم قبل دقائق من تَركي لأراضيهم في مطار شارل دي غول، فقد سمحوا بتمرير الحقيبة بوزنها الزائد دون غرامة، بل وبابتسامة من تلك التي يميل الرأس بها.

    أمر أخير.. وجدت في باريس من الأفلام الفلسطينية ما لم ولن أجده هنا.

التعليقات