05/03/2011 - 14:37

بدلت ذاكرتي/ ماهر رجا

(كانت تلك أول مرة أرى فيها صورة واقعية للقرية الكرملية ـ قرية أمي وأبي وأجدادي التي لم تمنحني فرصة لقاء واحد.. وكم صدمني أن الصورة لم تكن تشبه مطلقاً ما نسجته في خيالي طوال عقود عن ملامحها.. في تلك اللحظة الغريبة المتكررة، قلت لنفسي "عليك إذاً أن تبدل ذاكرتك" كي تتعرف إليها من جديد" إلى "إجزم" الواقفة بما تبقى منها كتلويحة معلقة في الريح.. هناك في خاصرة حيفا الخضراء).

بدلت ذاكرتي/ ماهر رجا

 

(كانت تلك أول مرة أرى فيها صورة واقعية للقرية الكرملية ـ قرية أمي وأبي وأجدادي التي لم تمنحني فرصة لقاء واحد.. وكم صدمني أن الصورة لم تكن تشبه مطلقاً ما نسجته في خيالي طوال عقود عن ملامحها..

في تلك اللحظة الغريبة المتكررة، قلت لنفسي "عليك إذاً أن تبدل ذاكرتك" كي تتعرف إليها من جديد"

إلى "إجزم" الواقفة بما تبقى منها كتلويحة معلقة في الريح.. هناك في خاصرة حيفا الخضراء).

 

— —

 

 

بالأمسِ حينَ رأيتُ صُورتَها

بَدَّلْتُ ذاكرتيْ

وَلَمَسْتُ ضِلْعَ غََرَابتي

في الرُّوحِ ثمَّ هَمَسْتُ: مَنْ مِنّا خَيَالٌ في السُّؤالِ،

وَكَمْ سنبقى حَيْرَتَيْنِ أنا وأنتِ ، فليسَ لِيْ

سَفَرٌ وَلَسْتِ مدينةً

آتي إليها مثلما تَصِلُ القَوافِلُ في المَغيبْ.

في وِحْدَتي أمشي معَ الغُرباءِ،

لا أقدامَ تَحْمِلُنا ولكنْ فِكْرةُ

الليلِ الطويلِ،وأنْ نعودَ معَ المساءِ مُعَذَّبينَ

ومُنْهَكينَ منَ التساؤلِ واندهاشِ الآخرينَ، وكُلَّما

صَرَعَ الطريقُ مسافراً بكلامِ نافذةِ المَدَى

رَبَّتُّ فَوْقَ ذراعِهِ ودموعهِ

وَسَألْتُ سَيِّدَةً تخاف من الحقائبِ

هل ستعرفُني فنهربَ من محطتنا

القريبةِ عند آخرةِ الصّدى؟

وهربتُ مني كي أصدِّقَ أنني

ما كنتُ أبكي عندَ صورةِ قَرْيَةٍ

سأقولُ في سِرٍ لَها:

حتى تكوني قريتي.. بَدَّلْتُ ذاكرتي!

*  

بدَّلتُ ذاكرتي إذاً من صورةٍ:

أغلقتُ باباً خَلْفَها

لامَسْتُها وأصابعي غَبَشٌ

كما العينُ الضريرةُ حينَ تَصْدِمُ بالفراغ بلا دَليلْ

وَجَزِعْتُ حينَ هَوَتْ نِثاراً مِثْلَ خَيطِ الضوءِ في بَيْتِ الغُبارِ،وصاحَ رَجْعٌ منْ تَهَدُّمِها كَفَأسٍ في الهَديلْ

فَحَمَلْتُ أضْلُعَها على كَفَّيَّ في جَزَعٍ، وَسَالَ على الأصابعِ مُخْمَلٌ

مما على جَسَدِ الفَرَاشةِ، ثمَّ مَالتْ في تَقَلُّبِها النَّحيلِ كَرُوحِ عُصفورٍ صَباحيٍّ قَتيلْ

...

رتبتُها بيتاً فبيتاً في احتمالاتي الغريبةِ: هَهُنا

نَهْرٌ ، وفي الأفْقِ الطَّريِّ سُنونواتٌ حائراتٌ فوقَ مَقْبرةٍ

وهناكَ لَيْلٌ كان يمشي خلف قنديلِ الفتاةِ.. هنا اختفى

طَيْفُ الوَلِيّ، هناك كان الذئبُ يعوي كُلَّ ليلٍ في عَرَاءِ السِّنديانِ، وراءَ عُشْبِ الدَّارِ نَحْلٌ يستضيفُ عرائسَ الأزهارِ في قَصْرِ الشُّموعِ. على المدى فَجْرٌ سيأتي مِنْ لُهَاثِ الماعزِ الجبليِّ. فوقَ مدارجِ العُلّيْقِ خطواتُ الصَّبايا  الكرملياتِ النُّعاسِ، وخُفُّ بُسْتانٍ يَجُرُّ وراءَه نهراً إلى الوديانْ..

وأكونُ قد بدلت ذاكرتي تماماً، بعد أن أُحْني البيوتَ المُطْرِفاتِ على جُرُودٍ واقفاتٍ في مزاميرِ الرُّعاةِ، وأُرْجِعَ الذكرى إلى شَجَرٍ قريبٍ، ثم أُشْعلُ نجمةَ الآسِ النَّقيَّةَ فوقَ شاهدةٍ تحاولُ أنْ تُطِلَّ على طريقِ العَابرينْ... 

وقُبَيلَ أبعدِ خَيْطِ ضوءٍ في ارتعشات الأصيلْ

أهْوِيْ بقلبي فوق دَرْبٍ كان يذهبُ نحو حيفا

فَيَجيءُ صوتٌ: "كَيْ تَرانيْ عُدْ لِقَلبكَ

عُدْ لقلبكَ.. يا قَتيلي!"

وأرى فتاةً لم تُهاجِرْ مُنذُ أنْ

قَصّوا أصابعها عن الأشجارِ في الوادي الظَلِيْلِ.

*

بدَّلتُ ذاكرتي فقد شاهدتُ صورتَها:

بيتانِ مِنْ حَجَرٍ على سَفْحِ الضَّبابْ

والمَسْجِدُ المَسكونُ بالسَّروِ القديمِ

يرى ظلالاً لا تَرِيْنُ على السُّهوبْ

وقبائلُ الصبَّارِ نَدَّاباتُ لَيْلٍ

كُنَّ يَفْرِدْنَ الأكُفَّ على مَقَاسِ الصَّمْتِ

في الجُدْرانِ.. كَانا في المكانْ

بيتينِ ينتظرانْ

بيتينِ في قَوْسينِ مِنْ تلويحَةٍ بيضاءْ

حَجَرَيْنِ من عَهْدٍ بعيدٍ مِلءَ رأسي يَنْحَبَانْ...

 

لَنْ تعرفيني يا بِلادُ

أنا خَيَالٌ والخَيَالُ بلا مَكانٍ أو عُيونٍ، كُلما أبْصَرْتِني أبْكَيْتِني

أمشي إليكِ، وَلَعْنَتي أنّي حِوارٌ عَابرٌ

في الأمسِ بَيْنَ سَحَابةٍ وظِلالِها العَجْلاءِ فوقَ المَاءِ

 ذاكرتي سِوَايَ وقَبْرُ جَدّيْ..

لَمْ يَعِشْ جَدّي ليعرفني ويعرفَ ما سأمنحُ لاسمه من لَهْفَتي

قد ماتَ في يومٍ قليلِ الضوءِ مِنْ تحديقِهِ

في خُضْرَةِ النَّعْنَاعِ، مِنْ ترديدِهِ عَتَبَاً لزوجتِهِِ التي

سَبَقَتْهُ يوماً نحو بُستانَ الأجاص على سَديم الأفْق:

 "كيفَ تَرَكْتِني وحديْ وصِرْتِ مريضةً

بالطَّيفِ، خَائفةً إذا أنْصَتِِّ عَبْرَ الريحِ ليْ!".

غَسَلوهُ بالهَمساتِ في بابِ الحُقولِ ووَسَّدوهُ

الذكرياتِ، وحَيَّرَتْهُم أنّةٌ في القَبْرِ عند مغيبهم

}وارتاح في أمسٍ بعيدٍ.. لا نوافذَ في التراب، وكان جَدّيْ يَتْرُكُ الأبوابَ مُشْرَعَةً ليبقى الظِّلُ أخْضَرَ في الحديقةِ، كان يُخْفي غَيْمةَ التسبيحِ في كفيهِ كي تستدرجَ الأمطارَ.. يصحو قُرْبَ إبريقِ التِّلاوَةِ بَيْنَ أبْخِرَةٍ من السَّجَّادِ والبَرْدِ الصَّباحي المُبَلَّلِ بالتَّنَهُدِ.. كان في لَيْلِ الرَّحيلِ يُحَدِّثُ الأشياءَ كي يَتَعَلَّمَ المَغْزَى مِنَ الصمتِ الطويلِ، وَيَذْرَعُ العَتَبَاتِ مِنْ بَابِ الفِنَاءِ إلى السِّرَاجِ وقد غفا ما بَيْنَ "قُنْبَازٍ" وَثَوْبٍ مِنْ حَريْرٍ ، يَدْخُلانِ إلى الزَّمانِ ويَخْرُجانِ.. وَيُصْغِيانِ إلى الظَّهيرةْ{

والأرضُ تنظرُ في السُّكونِ إلى الغُزاةِ .. ولا تَرَاهُمْ

لا تَرَى غَيْرَ المَكَانِ على المكانِ،

إلى تَهَدُّجِ قَطْرَةِ الشمسِ الأخيرةْ..

والليلُ يأتي، سَوْفَ يأتي

وأنا وَحِيْدٌ كي أُرَدِّدَ دونما مَعنى

بَدَّلْتُ ذاكرتي!

*

لَوْ كُنْتُ أعرفُ كَمْ سَنَةْ

سَتَظَلُّ رِيْحُ الليلِ تَصْفِرُ في نِثَارِِكِ

كَمْ عدواً سوف يَطْلُعُ بيننا

لو كنتُ أعرف كم سَيَعْدُو الشَّوْكُ مَزْهُوّاً على

أشْلاءِ دَارِكِ..

كم نَهاراً سوفَ يَصْعَدُ في انتظاري وانتظاركِ

كم دُعاءً سوف تُرْسِلُني على آلامِهِ

أمي إليكِ.. وَكَمْ سأسقطُ في الطريقِ الآخِرةْ..

لو كنتُ أعرف؟ .. ما يُفِيْدُ حكايتي لو كنتُ أعرِفُ

بينما أمضي أُبَدِّلُ كُلَّ يَوْمٍ ذَاكِرةْ ؟!

 

التعليقات