09/06/2011 - 23:28

قصة قصيرة: صبغة شعر / امتنان الصمادي*

التحمت بالمرآة، فتشكلت حلقات البخارالمتصاعدة من فمها ضبابا كثيفا يلف وجهها الأبيض الناصع ، رفعت يدها معلنة عن ولادة فرشاة ألوان بخمس شعرات ارتفعت إحداها في وجه المرآة لتعبث في تفاصيل الوجه الأربعيني المتورد بفضل قطرات الندى التي سكنته أثناء الاستحمام، فما دامت سمحت لمصفف الشعر أن يعبث بألوان شعرها ويحوله من أسود فاحم إلى اللون الأصفر الفاقع، لها الآن أن تعبث هي الأخرى بكل شيء.

قصة قصيرة: صبغة شعر / امتنان الصمادي*

- امتنان الصمادي، قاصة وأستاذة في الأدب الحديث -

التحمت بالمرآة، فتشكلت حلقات البخارالمتصاعدة من فمها ضبابا كثيفا يلف وجهها الأبيض الناصع ، رفعت يدها معلنة عن ولادة فرشاة ألوان بخمس شعرات ارتفعت إحداها في وجه المرآة لتعبث في تفاصيل الوجه الأربعيني المتورد بفضل قطرات الندى التي سكنته أثناء الاستحمام، فما دامت سمحت لمصفف الشعر أن يعبث بألوان شعرها ويحوله من أسود فاحم إلى اللون الأصفر الفاقع، لها الآن أن تعبث هي الأخرى بكل شيء.

ستسلم العينين لطبيب العيون ليفقأ العدستين الزجاجيتين ببعض إشعاعات الليزر، والحاجبان سيكونان ملكا لخبيرة التجميل التي ستصنع منهما سيفين معقوفين لا يصلحان للإيقاع بقلب رجل واحد!!

اقتربت من المرآة أكثر فأكثر، دققت النظر لترى جمال العينين بلا زجاج كما يتمنى زوجها ذلك، فرحت جدا ورفعت رأسها، أمسكت بشعرها الأصفر الجذاب وقالت: الآن لن يذكّرني زوجي اللعين بالحاجز الزجاجي الذي تغرق به عيني كلما أغضبه أمر من أمور البيت والأولاد. 

أحضرت المقعد المركون في إحدى زوايا الغرفة، وضعته أمام المرآة بهدوء كي لا تحدث جلبة فيتنبه من في الخارج لعالمها الجديد، وتضيع المفاجأة، حركت أصابع يدها الملونة بالأصفر على المقعد مستبدلة اللون الفاقع بالغبار، اعتلت فوقه بخفة غير معهودة، أعجبتها خفتها فأعادت الكرّة مرة أخرى، ولو رآها ابنها الصغير تقفز هكذا لقال: جنت ماما، ماما تضيع وقتها وتلعب مثلنا بمقاعد الصف، لمحت علبة سجائر زوجها مختبئة فوق الخزانة، لم تكترث لاكتشاف الحقيقة ما دامت الآن أكثر قربا من المرآة، أمكست بأنفها، فركته بيدها، لفت أصابعها حوله، حملته بهما برقة كمن يحمل كأسا مملوءا بالماء، وبعد أن انتهت من معاينة طوله واستدارته، قررت أنها ستسأل عن أفضل أطباء عمليات التجميل كي لا تخسر رأس الأنف المرفوع، فقد سمعت من مدرسة اللغة العربية يوما أن الأنف الأشم من علامات الجمال عند العرب، وستحرص على ألا يكون طبيبها هو أحد الجراحين الذين ركبوا أنوف الفنانات، إذ لا يروق لها ما انتهى إليه أنف بعضهن، ضحكت بصوت مرتفع وهي تهز رأسها يمنة ويسرة متأملة الأنف الجديد، شعرت بسعادة عندما تمكنت من استنشاق كمية أكبر من الهواء، تذكرت لوازم الهواء، فسحبت سيجارة من علبة سجائر زوجها التي كان يخفيها عنها أعلى الخزانة درءا لزعيقها المتكرر في وجهه المختبىء خلف الدخان، أشعلتها باحتراف، وأخذت نفسا عميقا لم تكن لتحصل عليه قبل الآن دون أن تشعر بالاختناق، أطفأتها بسرعة، وقررت أنها لن تحرم زوجها لذة الاستمتاع بالتدخين بعد الآن، وعادت تحدق في المرآة.

أما الشفتان فكان لا بد من التفكير مليا بهما، فهما أكثر جزء تحتاجه في حياتها، أشّرت بإصبعها على الشفة السفلى، وبحركة بطيئة ذكّرتها بأصابع زوجها عندما تعزف على شفتيها معزوفة الحب الليلي، حددت الحجم المطلوب، وحارت في مصيرالشفة العليا كيف ستكون فيما لو قررالمتخصص ضرورة إعادة بنائها لتتناسب وأختها، وماذا لو فشل في ذلك، هل ستختلف مقاييس الشفتين المتوازنتين الآن؟ هل سيغضب زوجها عندما يدرك أنه خسر سيمفونيته الليلية؟ احتارت مرة أخرى وأجلت التفكير في الشفتين للعمر القادم عندما تضبط زوجها وهو يعزف بأصابع يديه على شفاه المطربات في مجلاتها الشهرية.

لم تنس أمر الأسنان، ستعمل ليل نهار في الشركة الفنية للحاسبات الإلكترونية لتأمين أجرة الطبيب ما دام يستورد المواد الخاصة في التقويم والتركيب كرمى لجمال الجميلات، تأججت سعادتها لهذا القرار الحكيم الذي سيدفعها للعمل والإنتاج أكثر من ذي قبل، تحسست أطراف شعرها الأصفر وهي تعلن أنها ستتخلص من داء الكسل والتراخي الذي يكبل يديها بمجرد ختم بطاقة دخول الشركة كل صباح.

جلست أمام المرآة وهي تلف خصرها بيديها فقد اعتادت أن تقوم ببعض الحركات بعد الاستحمام اليومي لتعاين مقدار الزوائد التي قد تتكدس في أطرافها على حين غفلة بسبب عشقها للحلوى، اطمأنت أن مشكلات السمنة محلولة ، لكنها جحظت بعينيها الملونتين عندما فاتها التفكير في الطول، فماذا عن الطول؟ كيف لها أن تعيد بناءه ليصبح فارعا!! أطرقت قليلا ثم أسرّت لنفسها بأن لا حاجة للبحث عن تعديلات في خلق الله ما دام قدّر لها هذا الطول المقبول، وما دام الكعب العالي الذي اعتادت عليه منذ عشرين عاما يحل المشكلة، شرعت تذرع غرفة النوم جيئة وذهابا وهي تفكر بعمق.

أمسكت بالمشط، دققت النظر فيه وكأنها تراه لأول مرة، دارت حول نفسها ثلاث دورات استعدادا للدخول في عملية تسريح الشعر الأصفر الجديد بعد أن اكتملت ملامح الأنثى الجديدة، لوحت بالمشط في الهواء وهبطت بهدوء على اللون الأصفر، حاولت تصفيفه لكنه لم يستجب، استبدلت المشط بآخر، حاولت أن تستحضر عذوبة تسريحه السابقة وهو ينساب بلونه الأسود الفاحم على كتفيها، وروح خصلاته الحريرية تتهلل مع تمايلات عنقها، لكنه الآن بات يتنكر لها وصار أمر حراثته صعبا ويحتاج إلى مجهود مضاعف، انتهت من إرغام خصلاته على الإذعان للتصفيف، أكملت ارتداء ملابسها بعناية فائقة بالتفاصيل المتعلقة بالألوان، فالشعر الأصفر الجديد يلزمها بالمزيد من العناية، لوحت مرة أخرى في وجه المرآة بأصابعها الملونة قائلة: لابد أن الجميع سيفاجؤون، فالأصفر الفاقع الذي يبرق في رأسي سيرعد في عيونهم، حدّثت نفسها بثقة، قررت أنها ستغمرهم بحنانها ، ستتابع مع الأولاد دروسهم اليومية، وستقدم لزوجها كل ليلة كعكة الفرح بشفتين مكتنزتين، وستنادي الخادمة باسمها بعد أن ضاقت ذرعا بالصراخ في المجهولة المتحركة أمامها حتى صار الجيران يحفظون قاموس الشتائم الذي تمطر جدرانهم به كل يوم.

فتحت باب الغرفة لتخرج عليهم وهم ينتظرون منذ ساعة بفارغ الصبر كي تفرج لهم عن موعد العشاء، مشت مشيتها المعتادة، تلكأت قليلا إذ لم تر الاندهاش في عيونهم، وازدادت دهشتها عندما لم يرفع أحدهم عينيه عن التلفاز ليقول لها عمت مساء يا جميلة، دخلت المطبخ بسرعة، صرخت في الخادمة، وألقت صحنا على الأرضية ، خرجت متجهة نحو الباب، بدأ زوجها يناديها والأولاد يحدقون بها، لم تلتفت وظلت تبرم المفتاح في كل الاتجاهات، لقد نسيت كيف يفتح الباب، أصيبت بالذعر عندما رفعت رأسها ولم تعرف صاحب الصوت فقد اختلط صوته بأغنيات الفيديو كليب التي يصدح بها التلفاز، أرادت أن تخرج من هذا المكان بسرعة إلى الشارع، نادت أحد الجالسين بصوت متوتر ليفتح لها الباب، وهي تتمتم علي أن ألحق بزوجي والأولاد، لا أعرف أين تركتهم ينتظرونني.

التعليقات