25/08/2011 - 14:21

في الذكرى العاشرة لرحيله: أبو علي مصطفى: قيَمٌ وخصال وسجاياٌ

في الذكرى العاشرة لرحيله، نكابد الكتابة عن قائد بين مجموعة قادة وطنيين استثنائيين، تصدوا لهوان ما بعد النكبة، وأسسوا للثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، وأشعلوا شراراتها الأولى، وقادوها لعقود، حروباً ونضالات، في الوطن والشتات

في الذكرى العاشرة لرحيله: أبو علي مصطفى: قيَمٌ وخصال وسجاياٌ
علي جرادات
   في الذكرى العاشرة لرحيله، نكابد الكتابة عن قائد بين مجموعة قادة وطنيين استثنائيين، تصدوا لهوان ما بعد النكبة، وأسسوا للثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، وأشعلوا شراراتها الأولى، وقادوها لعقود، حروباً ونضالات، في الوطن والشتات.
 
قائد قَدَّ البطولة من صوان جبالنا، وبسط صدره واسعا كسهل مرج ابن عامر، حيث رأت عيناه النور في ركنه الجنوبي.
 
   قائد برحيله خسرنا جوادنا الأبيض النقي، الجامح المقتحم، الذي لم يتعبه سفر الآفاق. قائد ظل ذاهبا إلى حيث بقعة الدم...الوشم... المصير، لكل من وهب حياته لقضية بحجم قضية العرب الأولى، قضية فلسطين.
 
   لم يكن الصاروخ بحاجة إلى دليل كي يهتدي لشمس تسطع في سماء الكفاح، بل كانت شمسه إغراء بالوصول إليها من عدو يحترف الحروب ويرفض التسويات ويكره البشر.
 
   نحن إزاء جبل راسخ ملأته حقول العطاء، شامخ كسارية تخفق فوقها رايات الأحرار. نحن إزاء فارس شق غبار المعارك حتى آخر نبض وما ترجل تَعباً أو هزيمة، وظلت عيناه المتوقدتان ترنوان إلى العلى وآفاق انبلاج شقائق النعمان على ضفاف الجداول، نحن إزاء قائد شهيد، ظلت وصاياه كتابا مفتوحا للجماهير.
 
   لن نقول الآن، وبعد عشر سنوات على صعودك إلى مقام الشهداء ومحرابهم، أننا في ظروف الجزر، بل هاهي الجماهير العربيةُ من أرض اليمان إلى تطوان تتدافع أيهما يسبق في كسر القيد وتبديد عتمة الليل العربي البهيم، لتصنع فجرا جديدا وحقيقيا للأمة. ها هي الأمة يا رفيقنا تنهض، تملأ الشوارعَ الغضابَ بالمظاهرات، تكسر جدار الخوف وتستبيح هيبة الشرطي، في منظر لا أبهى ولا أجمل. هو جيل جديد يتلقف راية جيل مضى، ويصنع غده بيديه، يهدم القديم، فإذا فلسطين ُتزهو في الحناجر، ويصبح للهتاف طعم الأمل. فلتفرك يديك فرِحا وجذِلا، فمكر التاريخ هو أن من يضحك، يضحك أخيرا.
 
   لم تكن فرعاً يابساً في شجرة هرمة، بل كنت سروةً باسقةً، تطاول عنان السماء في حقلٍ تربتُه من خصب مرج ابن عامر، حيث شقت معاول أهلك تربةً تفوح بكلِّ الخيرِ القادمِ، ففي معمعانِ ثورةٍ عمت البلادَ عام 1936 كان خروجُك للحياةِ من صلبِ فدائيٍ صاحَبَ القسامَ، وعلى حديثِ ذكرياتِ البطولةِ كان يزهر وعيُك، وكنتَ تمتص رحيقَ ذكريات الآباء زاداً. كنت تختزنه كمن يخزِّن مؤونة الصيفِ لشتاءٍ مرعدٍ. كانت الذكريات ووجع المشردين حطب نار قلبك المشتعل، وكنت تبحث عمن تعطيه من مرجلِ ثورتك شرارةً تَحرق سهلاً.
 
   صار الكفاحُ حياتَك، ودخلتَ إلى معتركِهِ، صلب العود، غير هياب، فأنت العامل ابن الفلاح، لم تتعود لوك الكلام، وتعودت أن تختصر كلَّ الطرق إلى روما، تكابدُ شظفَ العيشِ، لكنك تبحث عن حريةِ الناسِ والبلادِ، تعمل هنا، وتنتقل هناك حيثما يمكن لبذرةِ ثورةٍ أن تنبتَ شتلةً، من معملِ الزجاجِ إلى مراسلٍ في البنك إلى مصنعٍ للكرتونِ، إلى كلِّ القصصِ الساترةِ لنشاطِك الثوريِّ، من متجرِ أدواتِ الفلاحينَ، إلى مطعمِ الفلافلِ الصغيرِ، وحين يجِدُّ الجدُّ تجدكَ نابض الحركة، في المظاهرةِ وفي التنظيمِ وفي التحشيدِ، وتجدك بين رفاق القيد، وفي مقدمة من امتشق السلاح وحارب. لم تعرف مستقرا إلا حيث يكون فيه موقعٌ لنضالٍ، ولم تعرف غير ثبات الموقف، واستقامة الفكر، رغم تعرجات الطريق. وطَّنت نفسك على حياة الكفاح، فاستطاب لك، وطابت معها النفس الملتحمة بصعوباتها والمتحدية لكل مصاعبها. هناك في سواد أيلول، في أحراش جرش وعجلون، في جنوب لبنان والبقاع، في عبور الأردن إلى الوطن، تنسج شبكة من المقاتلين، تزودهم بالطلقات وكلمات عن الاستمرار والصمود والتضحية، وصرخة واضحة كحد السيف، حين أطلقتها لحظة وطئت قدماك تراب الوطن مرة أخرى: "عدنا لنقاوم، وعلى الثوابت لا نساوم"، كنت ترجمة حقيقية للموقف الثوري الذي لا يساوم على المبادئ، وكنت أنت، لا كما أراد غيرك.
 
   نتجشم مخاطر الكتابة هنا عن قائد شهيد، لا لنمارس رياضة اللسان ، بل لنقدمه كقدوة، هي أفضل من ألف موعظة، كنموذج حي في الدمج بين القول والممارسة، في جسر الهوة بين النظرية والتطبيق، وفي تعميد المواقف بعرقِ ودمِ وتعبِ النشاط اليومي المثابر. وتأخذ الكتابة هنا طابع المخاطرة، ليس لأن الرجل إشكالي، بل لان تكرار الحديث عن الشهداء في تعداد المناقب مختصرة وموجزة بات إشكاليا، وتلخيصيا، يُفقد التفاصيل دورها في تكوين الجوهر العام لكل شخصية.
 
   فأبو علي، وهو العامل ابن القرية الذي لم يتلق تعليماً عالياً، لم تكن فرصُهُ المتوقعةُ في قيادة أي تنظيم أو فصيل عالية، أو مضمونة، بل ربما كان أكثر ما يتوقع من بيئةٍ كهذه أن تخرِّج ضابطا متوسطا مقاتلا وعنيدا، لكن أن يضطلع أبو علي بكل هذه المواقع المتقدمة حزبياً ووطنيا ًوقومياً، وبشكل مبكر، يعني أن في الرجل خصال استثنائية، وأنه لم يبخل بتقديم أقصى ما لديه بحماس الشباب. وشهادة الحكيم فيه هنا حاسمة حين يقول " تملك أبو علي خصائص ومواصفات القائد السياسي والعسكري مبكرا، ... فالقائد يتقدم بالحس السياسي والفهم المتميز لحركة المجتمعات وقوانين الصراع بروحية فكرية جمعية مقاومة للانغلاق والانعزال، متزاوجة مع حس شعبي شفاف".
 
   تمتع أبو علي القائد بشجاعة الناقد حزبياً ووطنياً، فيما لم تحرفه نقديته الجريئة عن طريق الوحدة، فقد عرف قانون وحدة وصراع الأضداد، كأساس للتطور، فكان صمام أمانٍ وعامل تجسير بين النظرية والممارسة، بين الحزبي والوطني وبين الوطني والقومي، وبينهما وبين الاممي، دون أن يفقد البوصلة، ودون مغالاة في تقدير أهمية كل طرف من أطراف هذه المعادلة التي يتشابك فيها صراعنا الوطني ويشتبك أحيانا.
 
   فهو حين وطئت قدماه أرض الوطن عائدا، بدأ يتلمس الواقع الجديد، فاكتشف أن لا بد من معالجة معادلة الوطن والشتات وعبر عنها بقوله " أقول حقيقة وبدون رتوش أنني في الخارج لم أكن افهم كل ما يحصل في الداخل، وجودي في الداخل عزز معرفتي بالتفاصيل كاملة، كنت أعرف لكن معرفتي كانت ناقصة... لذا يجب الانتباه وعدم فقدان البوصلة وأن نصل إلى نقطة توازن في كيف يفهم الداخل الخارج وبالعكس".
 
   كما أنه لم يحمل موقفا سياسياً عدميا، بل عبر عن موقفه في لقاء صحفي حين قال: "حتى الحركات الوطنية التي قادت الكثير من الشعوب فاوضت، لكن متى؟ وكيف؟ وبماذا؟ هذا هو المهم، لقد اختارت لحظة قوتها بالتفاوض، بينما القيادة الرسمية الفلسطينية اختارت لحظة ضعف وتركت كل الأسلحة، وبذلك أوصلتنا إلى بؤس الاتفاقات بل أبأسها، بعد أن جردت نفسها من كل الأسلحة وفي مقدمتها الانتفاضة الشعبية".
 
   وظل دائما منشدا إلى الوحدة، غير ساع لانقسام، دون أن يفرط بموقفه، فهو يقول: " رغم الجحيم الذي مثله التناقض في السياسة مع السلطة والقيادة الرسمية، حافظنا على إدارته بمشروعية العمل السياسي والجماهيري، بحكمة ومسؤولية ووعي مشترك من الجميع، فنحن في الجبهة لا نعتبر نفسنا بديلا عن الإجماع الوطني، بل نحن جزء من حالة وطنية عامة شعبية معارضة موجودة في الوطن والشتات، دورنا فيها ومن خلالها يقوم على مبدأ التعاضد في حماية المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني والنضال من اجل أهدافه العليا".
 
   وقد كان منافحا عن الديمقراطية التي تولي المؤسسات الوطنية أهمية في اتخاذ القرار بعد أن تكون هذه المؤسسة قد حظيت بالإجماع الشعبي، وبين أوراقه نجد ما كتبه بتاريخ 5/7/2000، "نؤيد إقامة هيئة تشريعية واحدة موحدة للشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات، بل إني دعوت لها في المجلس المركزي حيث تكون هيئة منتخبة ديمقراطيا حيث أمكن، وبالتوافق حيث تعذر، فالحاجة إلى هذه المؤسسة أصبحت ملحة، وهي من مقومات انتزاع حقوقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة"، ما قاله أبو علي يعتبر انتباها مبكرا ودعوة متقدمة لأجل انتخاب مجلس وطني جديد، وهو يكمل بالقول: "علينا البدء باحترام المؤسسة، فبناء المؤسسة هو الذي يقدم الشعب الفلسطيني كشعب مثقف، سياسي، حضاري"، ويضيف: " هنالك واقع حال سلبي في المجتمع الفلسطيني ، وهنا أطرح تساؤلاً: لماذا لا تبدأ انتخابات للمجالس البلدية والقروية، أو عقد مؤتمرات للاتحادات الشعبية والنقابية، فعلينا البدء من القاعدة الشعبية بالأساس".
 
   وهو أيضا في هذا المجال، لم يكن أسير حزبيته، بل وطنيا ديمقراطيا منتميا لتوجهات الجماهير حين يقول" هناك حاجة لتشكيل هيئة ذات اختصاص ولا يكون فيها أساس العضوية، التمثيل الفصائلي بل الكفاءة، ويمكن لأي فصيل أن يسمي أو يقترح من يراه مناسبا ليكون عضوا في الهيئة شرط أن لا تكون حيثية عضويته فيها بسبب انتمائه لفصيل بقدر ما هي حاصل حالة مساهمة واغناء وخبرة".
 
   وهو الناقد الجريء لغياب المؤسسة الديمقراطية الفلسطينية حين يقول: "هي الانتفاضة التي تسببت في عقد قمتين عربيتين وقمة إسلامية، ولم تنجح لمرة واحدة في عقد دورة للمجلس العسكري الفلسطيني، وهي الانتفاضة التي تسببت في سقوط حكومة باراك ولم تسقط وزيرا فلسطينيا فاسدا واحدا".
  
كما أنه استشهد وهو يراهن على الجيل الجديد من الشباب، دون تطير من كل مظاهر اللامبالاة أو الاستنكاف الشبابي في لحظة معينة فهو الذي يقيم شباب الأرض المحتلة كجزء من انطباعات عودته القصيرة، بشكل إيجابي حين يقول: "أهم ما تغير أن هناك جيلا جديدا لم نعرفه نحن بالمعنى الشخصي، كنا نسمع عنه فيما مضى من خلال دوره النضالي، خصوصا في زمن الانتفاضة الفلسطينية المجيدة، وهذا الجيل أصبح بعد 32 عاما هو الأكثرية".
 
   هنا يلخص أبوعلي ضميره الديمقراطي الواضح، والذي يتسم بما وصفه الحكيم به بالقول: "إنه الحس الشعبي الصادق، والبوصلة التي تتخذ من الجماهير مركزها ونقطة حركتها، كما يتخذ من الوطني العام أرضية الحركة والانطلاق".
 
   لم يفقد أبو علي ثقته بالجماهير العربية، ولم يعبر عن قنوط منها، بل ظل مراهنا عليها، رغم جفاف الوضع العربي وتصحره، فهو يقول: "إن الجماهير العربية التي قاومت الاستعمار وأحلافه وأتباعه عبر تحركها الشامل الواسع، تستطيع اليوم أن تفشل المشروع الصهيوني الأمريكي الساعي لإخضاع الوطن العربي وتصفية قضيته المركزية، وحماية الأمة من عملية سلب إرادتها وثرواتها، إنها قادرة بحركة واسعة ومنظمة على إلغاء الاتفاقات والمعاهدات التي عقدها بعض العرب مع الكيان الصهيوني، وهي قادرة على تبديد كل الأوهام حول سلام مزعوم مع قاتلي الأطفال وقاطعي الشجر وممتهني الكرامة الإنسانية". وكأنها النبوءة، لكنها في الحقيقة قناعة راسخة في فكر ثوري، لا يلمح التناقضات لمحا، بل يسبر غورها ويبني على أساس قراءتها المتمعنة موقفه وقناعاته.
 
   على الصعيد الحزبي كان منشدا للجماعية في اتخاذ القرار، وكان قادرا على التمييز بين دور الفرد ودور الهيئة، فهو الذي قال في المؤتمر الوطني السادس للجبهة: "إن الأفراد في تاريخ الشعوب والثورات والحركات يلعبون دورا جوهريا، لكن الأفراد لا يقررون مصير تنظيم، ما دام هذا التنظيم قائما على أساس ومرتكزات يكون العمل الجماهيري فيها هو الأساس".
 
   وهو الداعي للتجديد والمتبني له حين يقول" لا نجزم القول على أي حال كيف نكون بعد فترة، إلا أننا نجزم بالجدية على السير نحو التجديد، ولندع الأيام والزمن والناس يقولون كلمتهم في إنجازنا أو إخفاقنا".
 
   هذا هو أبو علي الملح الذي لم يفسد والضمير الذي لم يصدأ والعزيمة التي لم تلن والقائد الذي عركه الكفاح وعلمه فنون القيادة، وبُعد الرؤية، والحرص الوطني، والانشداد للفقراء، هذا هو أبو علي، الذي لم يتعب، مؤكدا "أننا لا نزال في بداية الطريق، ومشوارنا صعب، وطويل لكننا نسير بالاتجاه الصحيح وبيدنا بوصلة الرؤية السياسية والتنظيمية والفكرية والكفاحية، التي لن تجعلنا نتوه عن الطريق".
 
   هذا هو أبو علي القائد الذي خسرته فلسطين والأمة، فحين اغتالوه لم يختاروا عينة عشوائية لإشباع نهم الإجرام الدموي لديهم، أو حتى توجيه رسالة سياسية إلى طرف فلسطيني آخر، بل انتقوا ضحيتهم بعناية وهم يعرفون سلفا ماذا تمثل لشعبها وانتفاضته.
 
 لكن بهجة القاتل لم تدم طويلا، فالرجل عاد قطرات دم تتطاول شجرا سامقا يرد الظلم، عاد إلى التراب الذي يحب. حكايته حكاية قادة يتقدمون الصفوف حتى الاحتراق، حكاية رجال يهزمون قبورهم.

التعليقات