28/12/2011 - 20:46

رثاء في أربعينيّة الدّكتور سليم مخّولي / جريس بولس

خبر عز عليّ مستمعه، وأثر في قلبي موقعه.. خبر تستاء له المسامع وترتجّ منه الأضالع، خبر يهدّ الرواسي ويقلق الحجر القاسي.. كادت له القلوب تطير، والعقول تطيش، والنفوس تطيح.. خبر يشيب الوليد، ويذيب الحديد، قد كاد من الحزن أن تنقبض الألسن عن هذا النعي الفادح وتخرس، وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرّزء الفادح وتيبس.

رثاء في أربعينيّة الدّكتور سليم مخّولي / جريس بولس

- الرّاحل الشّاعر سليم مخّولي - 

خبر عز عليّ مستمعه، وأثر في قلبي موقعه.. خبر تستاء له المسامع وترتجّ منه الأضالع، خبر يهدّ الرواسي ويقلق الحجر القاسي.. كادت له القلوب تطير، والعقول تطيش، والنفوس تطيح.. خبر يشيب الوليد، ويذيب الحديد، قد كاد من الحزن أن تنقبض الألسن عن هذا النعي الفادح وتخرس، وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرّزء الفادح وتيبس.

ولقد كنت من الأوائل الذين علموا بوفاة المرحوم ورأوه راقدا في فراشه ساكنا لا يتحرّكْ، فتسمّرت في موقعي من الحزن أتمزّقْ، وقلبي من الألم يتحرّق، ودمعي كاد يفضحني ويتدفقْ.

سليم مخّولي... أبو حبيب

 عرفته أخا وأبا عزيزا، كنت أزوره، وأحيانا برفقة أبي يزيد، المرحوم العزيز فريد سعيد، تشدّه إليّ محبّة خالصة، يحدثنا في شؤونه وشجونه، يبثنا لواعج نفسه عن فلسطين التي تشغل منه البال والضمير، فلسطين مسقط رأسه، ومحط آماله وأحلامه، ومصدر قلقه وآماله، فلسطين الوطن السليب والحق الجهيض.. فلسطين الأرض والشعب، فلسطين هي ذاكرته ورؤياه، وهذا ما عبّر عنه في شعره وأدبه ورسوماته وفنه، هي المحور وهي القضية.. هكذا كان طوال حياته، هكذا كان في شبابه، كما في كهولته وحتى لحظة رحيله.

 وكنا نلتقي في الرّأي أن قضية فلسطين هي قضية وجود لا مجرّد قضية حدود، لذا فإنها قضيّة إنسان سلب حقه في الحريّة وتقرير المصير قبل أن تكون قضيّة أرض، وبناء عليه، فإن الحل المنشود للقضيّة ليس في القرار 242 الصادر عام 1967، وإنما في القرار 194 الصادر عام 1948، قضيّة فلسطين بعبارة موجزة تعادل حقّ العودة للاجئين إلى ديارهم.

 شهد أبو حبيب حال الاقتتال الانتحاريّ بين حركة حماس وحركة فتح على أرض فلسطين في تناحر على السلطة، في وقت كانت إسرائيل تواصل اعتداءاتها على الشعب والأرض، ثم على الحرم الشريف، المسجد الأقصى، وغيرها من المقدسات الاسلاميّة والمسيحيّة.

 فقال كما قلت: "لمَ قيّض الله تعالى لي العيش لأبلغ من العمر عتيّا فأشهد هذه الحال المزرية غير المسبوقة من الفرقة بين إخوة في النكبة والنضال في فلسطين، وبين إخوة على خطوط التمايز المذهبيّ والطائفيّ المقيت في لبنان؟

 عرفته صديقا وفيّا حميما.. أبثه لواعجي القومية فيشاطرني أفراحي وأتراحي، همي ورجائي، حيال ما يواجه الوطن العربي في شتى الأقطار من تحوّلات وتغيّرات وتقلّبات، ما يحل بالشعب العربي في مشرق العالم العربي ومغربه من نمو ونكسات، من ازدهار وكساد، من بحبوحة وعجز، من نعيم ورزايا، لا بل ما يقع فيه من خطوب وما ينتظره من تطلّعات وآفاق.

 إلى ذلك، أبو حبيب شاعر وأديب وفنان ورسّام، رجل ناجح وبارع، وهو فوق ذلك محترم، كان يجلّه كل من يعرفه، لأنه كان يحترم نفسه، أرسى قواعد إبداعه بيديه، بكدّه وجدّه وعقله، فولد الإبداع في حضنه وترعرع ونما، فكانت حيوية الإبداع آية من آيات حيوية الرّجل، تنعكس فيه رصانته وحصافته، ويستمد صلابته من قوة إرادته.

 كان الرجل واثقا من نفسه مطمئنا إلى منعته اطمئنان المؤمن بإمكانات الوطن، المدفوع بزخم دافق لشعب بلا حدود.

 وكان الرجل إنسانا كبيرا في حنانه، في عطائه، قلبه مع المحتاج، مع الملهوف، مع الفقير، مع البائس، هذا هو سليم مخّولي، أبو حبيب، الذي عرفته وكما عركته.

 كانت لحظة فراقه الحياة لحظة ألم ولوعة لي شخصيا، ولكل من عرفه وخبر مزاياه، مزايا ذلك الإنسان الكبير والفذ. بغيابه أفتقد شخصيّا صديقا وفيّا صدوقا ورجلا مميّزا.

 والموت خطب قد عظم حتّى هان، وأمر قد خشن حتى لان، ولعل هذا السهم قد صار آخر ما في كنانتها، وأزكى ما في خزانتها، ونحن معاشر التبع نتعلم الأدب من أقواله، والجميل من أفعاله، فلا نحثه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر، فلير فيهما رأيه.

 رحم الله أبا حبيب، وحفظ ذكره مصدر إلهام للإنسان المنفتح الخلاّق، للمواطن الصالح، كان كذلك في مجتمعنا، كان يجسّد في شخصه القيم الوطنيّة والقوميّة في فلسطين والأمّة العربيّة في أبهى صورة، وتكريمه فعل إيمان في تلك القيم.. سيبقى ذكره خالدا في ضمير أحبائه والمعجبين به، وستبقى سيرته قدوة لمن يقتدي.

 وأختم عزائي بالقول: العزاء على الأعزّة رشد كأنّه الغيّ، وقد مات الميّت، فليحي الحيّ.  

التعليقات