30/03/2012 - 00:26

لوحة رملٍ كحليّ / بيروت حمّود

الدّخان يتصاعد لاغيًا في معنىً ضيق مساحةً موجزةً من التّفاصيلِ، يغازل ما اشتاق له من حياة، يدغدغ الحديث، يتملّص هاربًا من ذاته تتابعه عيناي الغارقة في كحلٍ أبديّ، تريان كما لحق ِعينٍ ثالثةٍ في البُعد.. منحازةٌ عيناي نحو الجمال وليس لها أن تقاوم.. عيناي مستسلمتان لقنديل القلب، مشدودةٌ يصحبها الدّخان المترامي إلى تلال الموج.

لوحة رملٍ كحليّ / بيروت حمّود

- بيروت حمّود -

الدّخان يتصاعد لاغيًا في معنىً ضيق مساحةً موجزةً من التّفاصيلِ، يغازل ما اشتاق له من حياة، يدغدغ الحديث، يتملّص هاربًا من ذاته تتابعه عيناي الغارقة في كحلٍ أبديّ، تريان كما لحق ِعينٍ ثالثةٍ في البُعد.. منحازةٌ عيناي نحو الجمال وليس لها أن تقاوم.. عيناي مستسلمتان لقنديل القلب، مشدودةٌ يصحبها الدّخان المترامي إلى تلال الموج.

يغيب الدّخان وهو يُنْبِتُ في الجوّ خُصلًا بيضاء كما يفعل زهر اللّوز حين يتفجّر فوق الأرض، فتصير الخمّارة بنا غابة شيب. ننظر إلى ساعاتنا مغادرين إلى حبس التّوقيت.

نخرج غير راغبين في الخروج، يشدّنا الحديث الّذي نما على أطراف الطّاولة فجأةً، كأنّه يستحثّ فينا غدد البقاء أن تفرز أكثر من الكلمات الّتي قلنا، وأن ننزف أبعد من الأحاديث التي خطرت لنا!

بدا النّهار غير مكتملٍ، فالثّلاثاء لا يكتمل إلّا بساعةٍ صباحيّةٍ من نهار الأربعاء، كما لا يكتمل الأحد إلّا بصباحيّة الاثنين. نظرت في المرآة صباح الثّلاثاء، كانت بركة الكحل قد صنعت هالاتٍ سوداءَ حول عينيَ.. لم أكتفِ بالسّواد.. رسمت مزيدًا من الخطوطِ لوّنت لوحة الرّؤية بمزيدٍ من الرّصاص والفحم، وكان الشّعر المنثور بعفويّةٍ ناضجةٍ على الكتفين آخر اللّمسات على اللّوحة الّتي في المرآة.

سارت اللّوحة في طريقها إلى الجامعة، شاهدت مليون لونٍ أخضرٍ ينتشر فوق الأرض لا يشبه أي أخضر، أخضرٌ آخر وكانت اللّوحة تستعير من فوضى التّناقضات: شمسك يا بلدي عكّا ما بتتغطّى بشمّاسي والقمر العالي فوقك ما بتمحيه المآسي. وظلّت اللّوحة تغنّي وهي ترفع صوتها، تمرّ بين الوجوه المستغربة، تجتاز الشّتائم والفضول والدّهشة لتصل إلى قاعة الامتحان.

ذهبت بنفسي إلى غرفة الكنز، اجتزت الرّواق. كان باب المكتب مغلقًا، نفخت هواءً في الهواء ثمّ تذكّرت أنّ الجامعة تقيم احتفاليّةً لذكرى ميلاد محمود درويش في قاعة كمال ناصر، فقادتني قدماي إلى جحيم الضّجر، خرجت بعد ربع ساعةٍ تقريبًا من الاحتفاليّة. درويش ليس أيقونةً لكنّه ليس مبتذلاً أيضًا ولن يكون.

تتطرّف المأساة فيّ.. تنتشر سريعًا.. تتفجّر في أوداجي.. يصير الدّم فيها شلالات حزنٍ كأنّ أطرافي كلّها على شفا البكاء، وإذ جسدي تطاوعه رغبةٌ في اللّطم والنّزيف وأداء رقصة الدّيك المذبوح، وأرى اللّوحة تتمزّق ترشق بالطّين والغبار، فأركض مسرعةً إلى باص الجامعة وأعود إلى سكني. لا أقول مرحبًا لأحد، لا أردّ على سؤال أحدٍ عن حالي؛ أدفن رأسي وجسدي تحت الأغطية وأشرع في البكاء.. يسيل الكحل، يلوّن الوجه كلّه بالسّواد، وليس حزنًا، ليس حزنًا أبدًا هكذا يكون الجنون!

في السّواد الّذي يغطّي اللّوحة يظهر قوس قزح، في ظروفٍ غير عاديّةٍ ترافقه الشّمس، وقليلٌ من رذاذ المطر، أهدأ قليلاً ثمّ أقوم لأفعل ما أفعله كلّ يوم: أتفقّد حسابي في الفيس بوك.

في الأسفل ومنذ يومين أو أكثر، نسيت نوافذ الحديث مفتوحةً.. تقفز النّافذة غير الاعتياديّة ذات الزّجاج الشّفاف الوحيد تقريبًا، والّتي تكره كلّ الأقنعة، بداخلها كلماتٌ صغيرةٌ لأحاديث عادية. "أنا زعلانة منّك، لإن إجيت على مكتبك اليوم وما لقيتك". "أنا هلّأ بالمكتب"، "بس أنا روّحت.. شو عليك؟"، "ما شي.."، "عبالي إشرب شي تروح؟"، "تغدّيتي بالأوّل؟!"، "خلص بنروح نتغدّى".

وكأنّني فقدت الرّغبة في التّلوين.. ارتديت على عجلٍ ملابسي، محوت فقط بعض السّواد في اللّوحة وخرجت.

انتظرت قليلاً عند مدخل الجامعة الشّرقيّ، اكتشفت في سعة الدّقائق أنّ كلّ الاشخاص المارّين بجانبي عميان، إنّهم ينظرون إليّ ولا يشاهدون غابة السّرو الّتي تنتشر على جوانب الطّريق!

 إلى مشروع الغداء الّذي هو حقًّا كلّ المشاريع غير الغداء بالنّسبة لي.. تحدّثنا، تحدّثنا كثيرًا عن الله، وكان يشغلني أكثر من الله عينه، مشاهدة الوردة.

خفت عليه، خفت أن تبرد حرارة الجرح فيشعر بالألم، إنّه يحمل فكرةً أرجوانيّةً عن مكانٍ لا يعرف أنّه مصنعٌ للأقنعة الماخوريّة جاء إلى هنا يعتقد كما اعتقدت أنا، أنّ هذا المكان مليءٌ بالملائكة الوديعة.. كنت أخشى أن يستفيق من الصّدمة فينظر حوله ليجد حظيرة خرفانٍ ضالّةٍ ليس لمخلّصٍ قدرةٌ على تخليصها.. ليس لساراماغو لو عاد من قبره إلّا أن يكتب عنها كتابًا آخر يعاتب فيه نفسه على ما كتبه عن عميانه الأوائل، لأنّه حقًّا ليس لهذا العمى المتفّشي هنا مثل!

لكنّه كان خارقًا أكثر ممّا تصوّرت، أجابني: إنّ الحياة تكمن في التّفاصيل. يكره الازدحام المروريّ الّذي يستوقفه في شارع الارسال وهو يقود سيّارته ليصل إلى الجامعة صباح كلّ يوم، لكنّه اكتشف ذات يومٍ وردةً نبتت وحيدةً في الجزيرة وسط الشّارع، فصار يحبّ الازدحام، إذ يمنحه بعض الوقت لمراقبة الوردة. بعد ليلٍ ماطرٍ مرَّ صباحًا ولاقاه الازدحام ذاته، استوقفه كما يستوقفه كلّ يومٍ وخلال هذا الحدث الّذي صار جزءًا لا يتجزّأ من النّهار.

مرّ سائقٌ مسرعٌ في الجهة المقابلة، رشق الوردة بمياه مطر الأمس - دون قصد. غضب.. غضب كثيرًا، أراد بكلّ بساطةٍ أن يتأخّر ربّما نصف ساعةٍ عن موعد المحاضرة، لا يهمّ، لم يعد يعنيه، المهمّ أن يلحق بالسّائق، لكنّ السّائق غاص عميقًا في الشّوارع.. والمحاضرة والطّلّاب والوردة!

لقد قلت له إنّ الحياة إشارات: أنتَ الوردة الّتي في الشّارع، الشّارع جسرٌ بين هنا والخارج. قال إنّ اللّيلة ماطرةٌ جدًّا وأنّ عاصفةً تقتلع الأشجار، وأنّه يخشى أن تقهر العاصفة الوردة، لكنّها حتّى لو ماتت تكون ماتت وهي تقاوم.

أعرف أنّهم يراهنون عليك، أنا لست منهم، أنا أخاف عليك فقط، إذا ماتت الوردة فإنّهم ربحوا الرّهان، لكن على الأقلّ انكسرت وأنت تقاوم.

انتظرنا الصّباح، أقسم أنّني انتظرت الصّباح أكثر منه، لم أنم. تجنّبت الحديث صباح الاثنين، كنت خائفةً، هربت إلى مصنع الضّجّة، تناولت القهوة ودخّنت وبُعثت وحيدةً من الضّجيج إلى الضّجيج.

لم استطع الانتظار، ذهبت بنفسي بعد انتهاء الدّوام في اليوم عينه إلى شارع الإرسال، درّبت عيني أن تكون أقوى، أن تشاهد أبعد ما تستطيع، وفجأةً في وسط شارع الإرسال ظهرت الوردة الوحيدة. فابتسمت عميقًا لكنّني خفت أن تكون غيرها!

صباح الأربعاء أخبرني أنّه بحث عنّي الاثنين ليقول إنّ الوردة أصبحت أقوى وأجمل بعد العاصفة.

قلت هم خسروا وأنت ربحت.

في الشّارع ونحن في طريقنا إلى مشروع الغداء شاهدنا الوردة معًا.

كان ذكيًّا جدًّا ليلاحظ أنّني شعرت بالضّيق في المكان الّذي تناولنا الطّعام فيه، وأنّني بفعل الأحاديث الّتي خضَّتْ عقلي، صرت بحاجةٍ ربّما مثله، إلى المشي.

الشّارع شهادةٌ للتّفاصيل، الوحيد الّذي ليس بإمكان أحدٍ أن يخلع عليه الأقنعة، والشّارع في اللّيل يرفض ما يلقى عليه من تهمة الكتمان، فهنالك رجلان يبيعان القتيل بعشرين ألف دينار، وهنالك طالبة تكرهني رأيناها معًا، بالنّسبة لها ما أكثر من اللّيل احتيالاً إلّا الشّارع وهو يعرّي غرابة ما يقوم به الأستاذ والطّالبة!

ما أجمل (لافيه)، ما أجمل (لافيه،) توقّف أيّها الرّمل عن الرّكض!

في (لافيه) يحصل كلّ ما كان متخيّلا أنّه لن يحصل!

امتلأ (لافيه)، امتلأ ولم ننتبه، ازدحم كما الشّارع وظهرت وردةٌ نبتت فجأةً لا ندري كيف ومتى.. وتوقّف الرّمل وخرجنا غير راغبين في الخروج تاركين العيون والطّاولات وأوّل الّذي بدأ في كؤوسنا من سُكرٍ، لكنّنا قلبنا السّاعة، عاد الرّمل يسقط من جديدٍ، رملٌ فوق رمل.

التعليقات