08/04/2014 - 21:50

طفلة في غابة الذئاب/ دارين طاطور

كانت في السابعة وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم قتل طفولتها وهي غير مدركة لكل ما يحصل، فقط لأنها كانت طفلة.. أمسك يدها وأبعدها عن بيتها، حتى وصل لغرفة مهملة صغيرة بجانب بيته، أدخلها وأغلق الباب، أضاء مصباحًا صغيرًا كان معه

طفلة في غابة الذئاب/ دارين طاطور

ما زلت أذكر تلك اللحظة التي قابلتها بها وقالت لي: "حياتي.. يظن الجميع أنهم يعرفونها، ويدركون كل شيء فيها وذلك ما يميتني من الضحك!".

بعد أن مرّت الأيام وبعد أن انتهى كل شيء وأصبحت دارين في الثلاثين من عمرها، أدركت أن ما قالته أورد لي محبة جارفة لأن أكتب عنها وعني وعنهم.. قلت لها وأنا أبتسم حزنًا: لدينا الفن كي لا نموت من الحقيقة..

طقس ربيعي شجعنا على مغادرة الغرفة المعتمة، كان الخوف باديًا عليها كأنها الهاربة من ذنب اقترفته، متحاشية كل شيء يعترض طريقها، متجاهلة كل شيء يمكن أن يلفت نظرها، تشق طريقها في خطوات متزنة تعيد إلى وجهها الأصفر حيويته الضائعة، تتأمل الطريق أمامها وكأنها كانت تتلذذ بالانتصار على نفسها.
لم تعرف أين تذهب لكنها استطالت النظر في المكان أكثر،  سألتها إلى أين سنذهب؟

كانت تمشي متعبة وكأنها تتحسس آثاراً لجراحٍ عميقةٍ عالقةٍ على جسدها، وخلفها تبحر ذكريات شاحبة تمدها ببقايا الحزن المتمكن منها، وكومة من شظايا الصور القديمة تندس في مخيلتها لتجد نفسها ساقطة على شاطئ البحر المنتشر حوله وجوهًا عديدة..
من غير أن تشعر بشيء يفرحها ضحكت وابتسم ثغرها.

أردتُ أن أعرف سر الإحساس الذي انتابها آنذاك فجعلها تبتسم من غير سبب.. فكرت في غرابة هذا الموقف كثيراً.. وتساءلت مراراً ما الذي جعلها تضحك وتبتسم..؟! إنها تفرد مشاعرها بتلقائية من غير أن تشعر.

معها أحسست فقط أنني سأبدأ بالكتابة، وجلت أبحث عن الحروف التي ستكتب تلك الحكاية التي لم أختر كتابتها بل هي التي اختارتني لأكون بطلتها في السرد.

جَلَسَتْ على الرمال تراقب الأمواج المتلاطمة في شرود، رفعت بعضًا من خصلات شعرها الأسود الذي غطى حاجبيها، وتابعت النظر إلى البحر حتى رأت بينها وبين البحر الذي أمامها شبهًا كبيرًا، اقتربتُ منها، سألتها هل أنت جاهزة للحديث معي؟
أغمضت عينيها وبدأت بسرد الحكاية قائلة:

كان من المفترض أن أترك كل شيء جانبًا وألتفت فقط للدراسة، حيث أنني في مرحلة حاسمة فيها، ولكن لا أحد يشعر بالحقيقة ويمسها غيري أنا، فقد صار كل شيء يجرحني ويقلقني، وكل كلمة تعيد إلى نفسي الذكريات التي كابدت الكثير من أجل نسيانها، بتُّ إنسانة مختلفة لدرجة أنِّي أصبحتُ الغريبة عن نفسي، أو ربما صِرْتُ صديقة نفسي فقط؟!

نعم كنت تلك الإنسانة التي ترى وتسمع وتتساءل وتتحدث بصمت، والأهم من ذلك أنني كنت طفلة بنظر نفسي، طفلة لا تكبر، أو ربَّما لا أريدها أن تكبر.
هكذا كانت دارين طفلة صغيرة، مطيعة مبتسمة للحياة، تبتسم لكل شيء وترى نفسها أجمل من أي شيء.

تتبدل ملامحها وتغيب هذه الضحكة وتكمل قائلة:
أذكر جيدًا طفولتي، هي لم تكن طفولة وحين أتحدث عن تفاصيلها أبحث لها عن كلمة أخرى تشبهها، لا أذكر أي شيء يذكرني بمعاني السعادة، نعم هي طفولة ولكنها امتلأت لحظاتها بالألم، هي طفولة بنت في السابعة من عمرها، أعتدي عليها جسديًا واغتصبت مرّات ومرّات عديدة وهي لا تعلم ما الذي يحصل لها وبها.
كانت في السابعة حين بدأت حكايتها، طفلة اغتصبت في هذا العمر، واستمر اغتصابها لسنوات طويلة، ولم تجد من ينقذها من غابة الذئاب البشرية التي وقعت بها.

فتحت محفظتها وأخرجت منها صورة، تأملتها قليلًا وأعطتني إياها قائلة متسائلة: هذه أنا أنظري كم كنت جميلة وكم كانوا قساة القلب؟!
كيف استطاعوا كسر قلب هذه البراءة وشعور هذه الطفلة الحالمة؟!

صمتُّ قليلًا تنفست الصعداء وقلت لها أخبريني كيف حصل ذلك؟
أجابتني وقد تناثرت من عيونها بعض الدمعات وقالت: كنت في الصف الثاني طالبة خجولة خلوقة، ذكية ومجتهدة، سألتني المعلمة ماذا ستصبحين حين تكبرين، أجبتها دون أن أفهم معنى جوابي آنذاك، أن أكتب..!

مرَّ الفصل الثاني من السنة الدراسية، وهي لا تذكر كم مرَّ منه، لكنها قالت: أذكر اللحظة جيدًا، أذكرها وكأنها البارحة، حين سلمتني المعلمة دفتر إملاء اللغة العربية وقد نلت على علامة كاملة لثلاث مرات متتالية، وأهدتني لصقة حمراء ووضعتها على صباحي، وأخرى خضراء على دفتري، وطلبت من زملائي التصفيق لي.

مشيت بطريق عودتي للبيت وصدى التصفيق لا يفارقني ودفتر الإملاء في يدي، قاربت الوصول إلى البيت، رآني ابن عمي، كان لي ضفيرتين وشعر ذهبي، أوقفني، قلت له "أخذت عشرة من عشرة بالإملا"، أجابني تعالي سأشتري لك هدية وأخذني معه إلى الدكان...

كانت في السابعة وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم قتل طفولتها وهي غير مدركة لكل ما يحصل، فقط لأنها كانت طفلة.. أمسك يدها وأبعدها عن بيتها، حتى وصل لغرفة مهملة صغيرة بجانب بيته، أدخلها وأغلق الباب، أضاء مصباحًا صغيرًا كان معه، أنزل عن كتفيها الحقيبة وبدأ يزيل عنها ملابسها وهي تنظر غير مدركة لما سيحصل. بكت، صرخت وقالت أنا خائفة أريد أمي.

استمر بإزالة الملابس عنها وكان أول ما أزاله  البنطال، ازداد خوفها، تراجعت للوراء وقالت بصوتٍ خافتٍ، "بدي إمي"، أجابها ببرود لم تفهمه وهي الطفلة، ولكنني فهمت معناه وهي تحدثني عنه: "اسا بنروح بس شوي متخافيش حبيبتي"،  لم تكن الغرفة واسعة ويقيت تتراجع إلى الوراء تحاول الهروب حتى اصطدمت بزاوية المكان وكان بنطالها لا يزال معلقًا بين رجليها وما زالت تمسك بدفترها، اقترب منها ركع على رجليه وبدأ يتحسس جسدها الصغير بيديه الكبيرتين بعد أن قام بخلع كل ملابسها، وهي تبكي وتقول: "خلص بدي اروح عند إمي" وهو يرد عليها ببرود الذئب الذي يغتال نعجة صغيرة "متخافيش بنلعب شوي وبنروح"  لم يترك شيئًا إلا ولمسه من جسدها...

كانت تحدثني وجسدها يرتعش والدمع ينهمر، وقالت: هو كان يلعب وأنا كنت أضيع في عالم الخوف، ولا أعلم كم استمر بهذا اللعب الوحشي فبعد أن أشبع غريزته الحيوانبية بدأ يعيد ما أتلفه.

أعاد ترتيب ملابسها ووضع حقيبتها على كتفيها ودفتر الإملاء ليديها، أمسك سكينًا ووضعه على لسانها وقال لها وعينيه جاحظتين في وجهها "اوعك تقولي لحدا بقطع لسانك وبقتلك"، فتح الباب نظر جيدًا حوله وتفقد المكان، وحملها بين يديه وبدأ يمازحها ويدغدغها وأخرج دمية صغيرة وأعطاها إياها متجهًا نحو بيتها.

قرع باب البيت فتحت له الأم، قال لها وكل أساريره تضحك: لقد نالت على علامة كاملة في الإملاء، أخذْتُها واشتريت لها هدية..

سألتها ماذا حل بهذا الشخص؟
أجابت تزوج وأصبح أبًا وموظفًا في إحدى البلديات العربية وصاحب محلات تجارية بعدة فروع في البلاد.
انتهت ذاكرتها مع هذه الكلمات، وبقيت طوال الوقت متجهمة خائفة.. صامتة.. لا تتكلم بحرفٍ.

أمسكتها حضنتها وبقيت معها وأفكاري ساهرة وأنا أعلم أنها ومنذ تلك الحادثة وهي تعاني من حالة نفسية مزرية، ومن حالة صمت لم تخرج منها إلا بعد علاج دام ثلاث سنوات وبفترة متأخرة من عمرها.

التعليقات