17/05/2015 - 11:23

ميرون/ ناجي دعّاس

قصة قصيرة حائزة على جائزة الأدب في جامعة حيفا

ميرون/ ناجي دعّاس

يلوح النسيان عائدًا إلى ماضي الجليل الأعلى، شرق سفاح جبل الجرمق السامقة  تقتنُ هنالك قريةٌ استعلت عليها أشجار الزيتون وكروم العنب. عن ذلك الحيّ في تلك القرية هنالك وُلدت طفلة سميت باسم أرضها 'ميرون'.
ميرون تلك الفتاةُ الفرعاء ذات الجدائل الطويلة التي بلغت التاسعة من عمرها غصبًا، مَرِحَتُ الحيَّ، سمفونية العائلة، نبيلةُ القلبِ وشاهدةُ العيان! نعم هي شاهدةٌ لكل ما جرى هنا وهناك....
في بيت العم كعوش ترقدُ الجدّةُ 'عالمة' على كرسيها المُعتاد تدقُ ساعةُ الحائط الخشبيّةُ على تمام السادسةِ صباحًا، تنهي حياكة ثوب الربيعِ أبيض اللون الذي أعدتهُ لطفلتها ميرون .
 هي في أيام نيسان المزدهر تستيقظ باكرًا حتى تشهد على كل شروق للشمس وتشهد على دعابات الندى فوق أزهارها المُأدبةُ فلا تضيع بذلك أية لحظة من لحظات الربيع الفاني.
على غير عادتها تُصرُ ميرون على الذهاب برفقة عمها كعوش الى كرم العنب. تُعدُّ نفسها وتختار ان تلبس ثوبًا أخضر اللون يلائم طبيعة المكان، لكنها اختارته صدقًا على ان تقوم بالاختباء من عمها بين خبايا الورق الأخضر...
تحملُ سلتها الذهبية وفيها ما فيها من رفاق دربها: فطائرُ العنب وأزهارُ البرقوق وعقد عصا الراعي. وافرغت مكانًا ضيقًا اعدته للحصرم ... مع علمها انّ عمّها سيمنعها من ذلك.
حملت برأتها معها وطفولتها الشقيّة ورسمت على حواف الطريق ابتسامتها الذكيّة التي فيها تُعكس حب كل ما رأت عينيها... كان هذا حتى ان اصطدمت بمبنى المدرسة التي أعدت فقط للذكور حتّى سن العاشرة، بعد ان أخبرها عمها بسر هذا المبنى وسبب كبره وذاك الصُراخ الذي يصدرُ منهُ.
لم تعِ ميرون حجم ردة فعلها التي أظهرتها بعد أن رمت سلتها أرضًا مُعلنةً شغفها للرسمِ وارتدادها للمدرسة ودأبها القوي في التعلم. لكن العم كعوش حاول إرضائها كما في كل مرةٍ انه سيجلب لها معدات الرسم وسيقوم بتدريبها على ذلك لكن داخل البيت فقط!
بعد هذا الصراع اللين الذي دام بينها وبين حبات الحصرم ومرحها الشقيّ وجنون طفولتها الأبدي،  يقرر عمها ان يصحبها الى جنوب القرية. جنوب القرية هو تمامًا كجنوب الجنة تحرسُهُ أشواكٌ لطيفةٌ لا تقوى على أذية من حمل نوايا سليمة وقلبه وادي يضخ شرايين الارض وشلالٌ يصرخ مرحًا وخربة الشمع أثرٌ دام بعد زوال السنين وضياع التاريخ  واشجار الزيتون كالبيت العتيق تباركًا و كبارها وصغارها أزهار ونحلٌ يعكس بيوته كنوز ذهبية دبّ فيه لمعان الذهب باصطدام الشمس فيه.
على عكس الذهاب كانت العودة مودوعةً بالتعب فسحر غروب الشمس يجلي هيجان النهار... حتى تبجلت الوان كل شيء بصبغة الشمس البرتقاليّة ... تستلقي ميرون في حضن جدتها التي اعدت لها قصة النوم على كرسيها الهزاز وتغرق ميرون في النوم ويغرق اليوم بالهدوء تمامًا مثل نوم هذه الصغيرة.
تشحن عقارب الساعة بالتسارع تمامًا كالنار حين تُشحنُ بالوقود عند ثيرانها.
ما ان تدقُ تلك الساعة المُعلقةُ هناك على جدار هذا الحائط العاتي حتى تصلنا في الثلث الأول من شهر أيار. هذه اللحظةُ تمامًا كانت كلحظة سُبات ميرون في نيسانها.  
في الشوط الأول من بداية هذا اليوم يبدأ اضطراب كُلِّ شيء، يستيقظُ العمُّ كعوش باكرًا على عادتهِ، تُعدُّ الجدّةُ كلَّ شيءٍ استعدادًا للرحيل، أيُّ رحيلٍ هذا!.
العم كعوش: هل بات الرحيل فينا راغبٌ؟
الجدة 'عالمة': قد يرغبُ الرحيلُ أن نهجرهُ لكنَّ هذه الأرض وتلك الأشجار تعلمُ بالضبط سرّ وجودنا لربما هي ترفضت مثلنا كغيرنا ممن رفض، لكن الأمرُ جليٌّ يبقى هذا صراعٌ بين حجرٍ ودبابة، بين اسدٍ وفأرٍ بلا ملجأ. فمن في نظرك قد يكسب؟!
العمُّ كعوش: النهايةُ يحسمها القدر، لربما حمل خفايا زواياه بعضًا من تلك الأحداث التي ننتظرُ وقوعها!
الجدة 'عالمة': لا تحط نفسك بما سيرفضهُ عقلك.
كعوش: ماذا عن ميرون؟
الجدة 'عالمة' دعها تغرقُ في النوم ففي هذا الصباحِ فعلًا انتهى زمانها، لا داعِ لأن ننهك احلامها عبثًا فقد تكون آخرَ جولة لها هنا.
ها هي تلك الازهار تختبأُ والنحلُ في خلاياه والأنهار في مسترقٍ لها والشمسُ شديدةُ البردِ وشجرُ الليمون باتَ أصفرّ اللونِ!.
الكلّ يستعدُّ للرحيل فمن فينا ومنا تمامًا أعدَّ نفسهُ لذلك ليس طوعًا انما استسلامًا للقدر.
توقظُ الجدةُ ميرون ومحاولةً إقناعها بشيءٍ من الغباء بأنهم سينتقلون للعيش عند اختها هنالك. تبدي ميرون نوعًا من التعجب واضعةً كلتا يديها على بعضٍ شعرها متطايرُ غير مجدّلٍ وهي راقدةُ على سرير البراءة.
تُصرُّ ميرون على ارتداء ثوب الربيع الأبيض رغم أنّ جدتها أصرت على أن ترتدي لونًا آخر على ألّا يتسخ، لكنها إذا أصرت ما من شيءٍ يمنعها من فعلِ ما تريدُهُ.
العمُّ كعوش: دعيها ترتدي ما طاب لها، فلا نريد أن نصبح كالقدرِ صارمين على قرارتنا، فلتفعل ما تشاءُ.
الجدة 'عاملة': ومن قال إننا سنطوعهُ! ليس لدينا وقتٌ للأبيض فلترتدي الأسود على فالأفضلُ لها أن تُعزيها نفسها على انّ تعزي روحها.
تقفُ ميرون بينهما كالضال بين صحراءٍ وبحر مُلعنةً وقفةً صمت بينهما.
ترفع الجدةُ يديها هناك لتخلع جنون الوقت وصريخُ عقاربها فترفضُ ميرون ذلك على أنَّ العودةَ شيءٍ جائز فلا داعي لأن تصحب الساعة معهم.
 تستعري الجدرانُ من ثوبها ومن أناقةِ الصور إلّا تلك الساعة الخشبية هي فقط من تُريدُ البقاء وتشهد على كلِّ تحولٍ ويبقى كلُّ شيءٍ حيٍّ من زهرٍ محفوف بالوداع ويعدُّ نفسهُ لأجلهِ فلا ساقٍ سيدوم له.
تضعُ الجدّةُ فمها قرب هذه الأزهار وتهمس في آذانها: نحنُ لا نخشى الموت كما نخشى مواجهة الحياة بالحياة فكونِ مثلما اعتدت علينا.
العصافيرُ تثور في قفصها، الصراخُ أبديُّ في هذه الأجواء، تصرخ الأرضُ، يعلو خريرُ النهرِ، يتطايرُ التُرابُ، القرية تدبُ بالهيجان، الناس كالنمل كلُّ يحملُ غذائهُ، مصطفين وراء بعضهم، يسيرون كغريزة النملِ تمامًا.
تساءل ميرون جدتها عن سبب خروج كلِّ الناس من بيوتهم!
يجيبُها العمُّ كعوش وهم واقفين على عتبةِ بيتهم: كلهم ذاهبون إلى بيت اختنا هناك.
تكمُل القافلةُ سيرها ما من أحدّ يردع ما من أحد يناجي ويوقف ... ثوانٍ فقط لهذا التساؤل ... لا أحد يجيب.
 لكنها إذا أصرت ما من شيءٍ يمنعها من فعلِ ما تريدُهُ، صُراخُ ميرون يملئُ آذان حتى النمل رغم أنهم كالنملِ ورغم أنها بينهم كنملةٍ وسط زحام. ترفضُ ميرون هذا المشهدَ وتصرُّ على أنها لا تُريد الذهاب عند اختهم الحمقاء فربما هي السببُ في هذا المشهد من الرحيل.
يمسك العمُّ كعوش يدها ويرغمها على الرحيلِ لكنّ الجدةَ تعترضُ قائلةً: لا نريد أن نصبح كالقدرِ صارمين على قرارتنا، فلتفعل ما تشاءُ.
ثورة في مسامع العمِّ كعوش فيتركُ يدَ ميرون محدقًا للجدة. صمتٌ بين الثلاثةِ والمارة يعمُّ لبضع دقائق إلا ميرون فقط من رفضت حتّى هذا الجمود.
تعيدُ الجدّةُ كلَّ روحٍ الى مسكنها، اضطرابُ وفزع وقلق وأنين في وجه العمّ كعوش انعكس من تلك المُخيلة التي تُمررُّ صورًا يرفضها القلبُ.
العمُّ كعوش :هل نرضخُ لطفولة ميرون؟
الجدةُّ 'عالمة' : أفضل من أن نرضخُ لقرارات الكبار. انظر ما حلّ بنا، استنظرنا ذاك اليقين والنور منهم لكنهم خذلونا.
الموتُ يتربصُ من كل حدبٍ كأنّهُ صعلوكٌ في ريعان شبابه تكادُ تكون أول غزوةٍ له يريد فيها أن يلتهم كلَّ شيء في كلِّ ليلة عاشت فيها الاربعةُ أو الخمسُ بيوت هناك في الجليل الأعلى، شرق سفاح جبل الجرمق السامقة.
 بقي من بقي في القرية متجذرًا كفروع الزيتون، يُقبلُ تشرين الاول على الانتهاء وهو في نصفِ الثلث الاخير.
أتمت اليوم ميرون العاشرة من عمرها فكانت الأرض كعكتها التي يريدُ الكلُّ تقسيمها والتهامها بنشوة، أضواء العيدِ قنابلٌ وصواريخ تُضيءُ من كلِّ صوب، ونغمات فرح العيد عويل الأطفال ونحيح النساء وصمتُ الرجال، هكذا كان صباحُ العيد.
هذه المرة  لم تصرّ ميرون على البقاء انما أصرت على الرحيل، لكنها إذا أصرت ما من شيءٍ يمنعها من فعلِ ما تريدُهُ. كان الجوُّ مشحونًا بنوعٍ من الاستسلام ربما!.
ساعات الأصيل وصهوةُ الأصيل ولم يبق فيها أيُّ أصيل، ثلاثُ طائرات تُرسلُ هدايا العيد لميرون وتملأُ الدُنيا بطبول الحرب معلنةً عن أول فريسة تقعُ في شباكِ 'حيرام' والرقص في عيدها ركضٌ وفزع وجراراتٌ مدججةٌ  بالضجع.
ينتهي نهارُ العيد ويطلُ الليل ويسترُ عورته وها هم سائرون على دربٍ يناجون ويستغيثون لا آذان تسمع ولا وقلوبٌ تخشع.
قوافلٌ تسير بعضهم حر والأخر أسير لنفسه أو لأزمة التفكير عمَّ سيحلَّ أو يصير لكل ما جرى لا يوجدُ ايُّ تفسير. أطفالٌ ورجالٌ ونساء بين نهارٍ ومساء على دروبٍ غير ملساء لا داء هناك ولا دواء الكلُّ مخمورٌ بسكرةِ الندماء مما جرى على أرضٍ تلتحفُ السماء ولغتهم الخبزُ الماء يتنازعون في السراء والضراء ما لهم من ناجٍ غير رب الانبياء.
تكاد ميرون تدبُ في غرق النُعاس حتى كانت آخر صورة في عينها ذلك الأفق الذي نُصبت عليه خيامُ عين الحلوة.
العم كعوش: اشرقت الشمسُ ماذا الآن؟
الجدة 'عالمة': يا ليتها تُشرقُ من مغربها لكان حلّ علينا هذا المشهد.
تصطدم اشعة الشمس على جدار الخيمة اللين المرقع، تستيقظُ ميرون بعد حفنة التخدير التي اغرقتها لساعات... لربما ظنت نفسها انها تحلم!.
ما ان خرجت بثوبها الأبيض الذي رسمت عليه صور التهجير حتى تفجع بمشهد المُخيم، الأطفال عُرٌّ في كلّ مكان وعجائز صامتة وارواح تتطاير وتتكاثر. تحاول ميرون الهرب من ازدحام الصور البشرية لتُطلّ على ذلك الأُفقِ من بعيد لتلوح بمخيلتها للوصول إلى ذاك الأفق.
 تقتربُ من حافة ضفاف المُخيم وتترقبُ كل ما أصبح بين صفحات التاريخ وعلى أحجار مقابر التاريخ.
ذاك الرجلُ  يدخل عتبة البيت ويقوم بخلع الساعة الخشبية يحاولُ الابنُ ان يزرع بعض الازهار ليحسن مظهر البيت لكن الأرض أبت أن تزرع ايادي غريبة فيها غير أيادي مالكيها حاول مرارا وتكرارا، اخرج من حقيبته الجلد ذات الماركة الاوروبية ازهار اصطناعية غرسها في الأرض. كل ما أحضروه كان اصطناعي لكنَّ الطبيعة لن تقبل اي مساسٍ من مغتصبيها.
على حافة المُخيم تُطلُّ ميرون في ساعات الغروب على ذلك الأفق وعَبرَتُها تعبُرُ من مدامع عينيها على خديها المُحمرين. يدٌ غريبةٌ تدخل ذاك الموقف تمسح عين ميرون هو ذاك الشاب حنظلة ابن العاشرة من عمره استنظرها منذ قدومها لكن الحديث لم يكن سيد الموقف فلم يدري أيُ عزيها أو يؤنسها أو يظهر لها انها حقًّا باتت وحيدة وهي بحاجة لمن يؤنسُ وحدتها. وقف بجانبها وعزم على الحديث حتى تحدثت ميرون واستبقته قائلةً: سأبقى بنت العاشرة من عمري فالدهر الآن أعلن قيلولةً لا أعرف مداها وتلك الساعة الخشبية ماتت فالعقارب لن تكمل دورتها حتى تدخل اعضائها في عيادة عمي واعلقها على ذاك الجدار هناك.
يمسكُ حنظلة بيد ميرون والشمس تقف في منتصف الصورة ... ثوبها الأبيضُ الممزق يلوحُ بذاكرة النسيان.. يدي حنظلة باردتان تنعشهما ميرون بالدفء ... يرفض كل منهما ان يلتفت لمظاهر الانهزام.    


*حائزة على جائزة الأدب في جامعة حيفا
 

التعليقات