17/08/2016 - 18:35

المتوكل طه في "نصوص المعتقل"

حين يخلط المتوكل الرمل بشمس الصحراء الّلاهبة وينسج منها خيمة من كلام يظلل الروح المتوقدة، كيما يكون لها حضورها وتأثيرها في وجدان القراء

المتوكل طه في

المتوكل طه

حين يخلط المتوكل الرمل بشمس الصحراء الّلاهبة وينسج منها خيمة من كلام يظلل الروح المتوقدة، كيما يكون لها حضورها وتأثيرها في وجدان القراء، يكون قد سكب فوّار عشقه للوطن والحياة في أقداح لها شفافية العاشق حين يسكنه الوَلَه ، بكلّ ما في المعشوقة من دلالٍ على الدم الذي يسفح لأجلها، أو الأعمار التي تفنى رويدًا رويدًا على عتبات قداسة التراب.

ليس المتوكل شاعرًا انتجه السجن الصغير، بقدر ما قاده شِعرُه وروحه التوّاقة للشمس إلى السجن، غياهبِ الزنازين، كراسي التحقيق، الكيسِ القمئ، والأساورِ الفضية الكريهة ، في رسغين طالما حدبا على قلمٍ وحبرٍ وورقٍ وبعضِ ضوءٍ في ساعة سحرٍ ملهمة، هو كأبي فراس الحمداني، أو كبابلو نيرودا، ولذلك فان ما نسجه المتوكل هنا هو خلاصة شاعر عن السجن، تمامًا كما وضع ناظم حكمت خلاصة  فكره وشِعره عن سجنٍ طال كثيرًا.

لهذا فإن التلذذ بكلام عن الأدب الاعتقالي ووضعه إلى جانب صنوف الأدب الأخرى التي أنتجتها المعاناة الفلسطينية، يخرج المتوكل وغيره من عملية تاريخية شكّلته ليكون هو والسجن محطّة في سفر العمر الطويل إلى سدرة الحرية الوارفة، فليس ما كتبه المتوكل أدبًا اعتقاليًا، ولكنه كما يقول، هي "نصوص المعتقل" وليست نصوصًا عن المعتقل، هي نصوص المعتقل / المكان، ونصوص المعتقل/ الإنسان، كما هي نصوص التفاعل بين المكان والانسان، بما هو كينونة فردية خاصة، وكينونة جماعية منصهرة في العام، أحيانا تجده سرديًا وتفصيليًا وكأنّه يباشر رواية، وأحيانا تجده شاعرًا أو رسامًا، أو يزفر خاطرة، أو يسجّل لحظة إنسانية غنية في سطور قليلة تحمل المعاني الكبرى لصراع الإرادات بين الغاصب والمناضل، ويحاول التدقيق في تفاصيل الحياة التي يتركها خلفه حين تدلف قدماه إلى دورية الاعتقال، فتصبح في استحضارها في السجن نوعًا من الشوق إلى ما لم نكن نهتمّ به خارجه.

ذاكرة المتوكل مليئة بالأسماء، منهم مَن غاب ومنهم ما زال حاضرًا، ومنهم مَن عصرته آلة الاستهلاك ، ومنهم من لا زال ملازمًا لحالة الاعتقال، ومنهم مَن يتردد عليه، ومنهم الشهداء، ومنهم الأسرى ، ومنهم من اختار أن لا تلوثه المرحلة، فاختار طريق المرجئة، أو أنه اكتفى للحظة بتجرّع مرارة الهزيمة ! والمتوكل لا يدين أحدًا هنا، ولكنه يكتب نوعًا من المشاركة الوجدانية مع رفاق قيدٍ وخيمة، مع حالة صراع مباشرة مع المحتل ، ولذلك يأتي المتوكل في هذه النصوص صافيًا كجدول رقراق، عذبًا وطاهرًا كالثلج، يأتي المتوكل هنا كي يقول لأجيال قادمة : لقد حاولنا، لم ينهكنا الأسْر، ولا تقطع السبل فينا، ولكن الموجة كانت عاتية، ولجيلكم أن يتحمل قسطه، فالدرب طويل.

لم يهرب المتوكل من التزامه، لم يعلّق الكلام عن الوطن والحرية على مشجب منسي، ليذهب الى طريق الأنْسنة المفتعلة، طريق التحلل من الواقع الى التهويم في كلام غير مفهوم، كلام كتعاويذ المشعوذين يُسمّى شِعرا أو قصيدة نثر، أو غيرها، بل ظل ينهل من كل الأشكال الفنية ، للتعبير دون أن يفقد جوهره القائم على الترابط العضوي بين الانسان وحياته وظروفها ، والقضايا التي تنده من يعالجها، ولهذا فهو رومانسي وثوري وواقعي في نفس الآن، وهو مجدد وأصيل في نفس الوقت، وهو أيضا مبدع وله سماته الفنية.

لقد عابوا على غسان كنفاني أن فلسطين هي التي جعلت منه أديبًا ! فتحدّاهم بإصدار رواية "ما تبقى لكم" ، والتي جمعت بين الفنيّة العالية والانتماء لقضية الوطن، ثم تبعها ب"عائد الى حيفا" ، لتكون شكلًا فنيًا آخر، وفي شكل ثالث أنتج "أم سعد" ، فهل استطاع من عيّره بالاعتياش الأدبي على القضية، أن يمحو تأثير كل ما كتب غسان وعبر الأشكال المختلفة؟

يبدو أننا بحاجة إلى قراءة آرنست فيشر عن الفن وضرورته، كي نستعيد أنفسنا قبل أن نتوه في غياهب التفكيكية ، التي فكّت أواصر الفنان مع واقعه، وللمتوكل أن يكتب، ما دام في حشاشة القلب عشق، وما دامت الروح توّاقه الى أفق تستقر فيه المقل وتستريح.

اقرأ/ي أيضًا| رسالة إلى "حنظلة" رسام البحر

وإننا نقدّم نصوصًا هي مرآة يرى كل أسير نفسه فيها، ويرى كل من لم يعش حياة الأسْر صورة عن حياة شكّلها أحرار ، قيّدت زنودهم السلاسل وما قيّد القهرُ أرواحهم وآمالهم.

التعليقات