* رسالة د.بشارة إلى أبناء شعبنا وأبناء التجمع والحركة الوطنية وأصدقائها

"الاستمرار وتطوير وبناء الحركة الوطنية هو التحدي وهو الرد.. علينا أن نستمر وسوف نستمر بالعمل والدراسة والنضال والتنظيم والفكر، فهذا دربنا، وهذا مشروعنا، وهذه قيمنا، وهذا حلمنا"

* رسالة د.بشارة إلى أبناء شعبنا وأبناء التجمع والحركة الوطنية وأصدقائها

الأخوات والأخوة


أبناء وبنات التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الوطنية وأصدقاءها


أبناء شعبنا عموما



تحية قلبية


 



كما تعلمون كنت قد قررت، بعد مرور اثني عشر عاما على تأسيس التجمع وأحد عشر عاما على عملي البرلماني، أن أستقيل من البرلمان الإسرائيلي، الذي استفذتُ أدواتَه تحت السقف الحالي واستنزفني أيضا، وأن اخصص جزءا أكبر من طاقتي وجهدي السياسي للكتابة الفكرية والأدبية والسياسية، إضافة لتخصيص جهد خاص للعمل مع الشباب الوطني وتشجيع ودعم مؤسسات ثقافية واجتماعية وحتى اقتصادية حول المشروع الوطني. فقد نما هذا المشروع واصلب عوده رغم كل التحديات وخلافا لكل منطق الواقع الإسرائيلي.


 



وبنبرة شخصية، تجاوزت ما كنت وعدت به نفسي وقيادة الحزب وأصدقائي الكثيرين ألا أتجاوز الخمسين عاما من العمر في الكنيست. يكفي عشر سنوات لتأسيس عمل التجمع الوطني البرلماني، فنحن لم نولد نوابا. وقد تعاملت منذ البداية مع العضوية في البرلمان كهم وعبء لا بد منه في ظروف العمل السياسي في إطار المواطنة... إذ لم يكن ممكنا دونه الجمع بين الحركة الوطنية وهموم المواطنين اليومية وتمثيلهم. وبعد إلحاح من الحزب بقيت الى ما بعد عام 2006، وكما تعلمون خططت أن استقيل بعد الانتهاء من سن قانون شلل الاطفال، أي بعد إنهاء هم تشريعي أحمله منذ سنتين.


 



بدأنا منذ العام 1996 بتثوير العمل والخطاب والأدوات البرلمانية محققين عشرات السوابق من التشريعات وحتى المصطلحات المستخدمة برلمانيا في نمط عمل عقلاني ومثابر ومتمسك بالثوابت الوطنية وضد التشويهات الحضارية والأخلاقية الناجمة عن عملية أسرلة وصهينة العرب في الوقت ذاته. وحاولنا من خلاله هذا العمل صياغة الحركة الوطنية كممثل ليس فقط لرؤيا سياسية ومشروع وطني قومي ديمقراطي وإنما ايضا كعنوان لهموم الناس مع الحفاظ على الكرامة الوطنية. وقد تطلب هذا المشروع جهدا فكريا وعمليا، كما تطلب حلولا وسطا وتعايشا مع متناقضات من قبلنا نحن، تحسبها المؤسسة الصهيونية حلولا وسطا وتسامحا من قبلها هي. وما لبث أن استفز مشروع دولة المواطنين والإدارة الذاتية للعرب موحدين في برنامج سياسي واحد المؤسسة الصهيونية بشكل غير مسبوق، لقد صار هذا المشروع احتكار الخطاب الديمقراطي من يديها ووجهه في مقارعة الصهيونية. وتعرضنا لحملات سياسية وشخصية متواصلة من التحريض ومحاولات نزع الشرعية بمعناها الاسرائيلي. وخاطبت هذه الحملات الوعي الصهيوني والعنصري حينا، والعربي المتأسرل الذي يعتبر المساواة اندماجا على هامش المشروع الصهيوني، والقابل لحالة نصف عربي ونصف إسرائيلي، والخائف من هذا الطرح من ناحية أخرى. وقد صمدنا فيها جميعا ونجحنا. وبعد كل نجاح قضائي كانوا يسنون القوانين لكي لا ننجح قضائيا في المرة القادمة. وكما تعلمون فُصِّل جزء من هذه القوانين على مقاسنا مثل القانون الذي ألغى حصانة النواب بشأن زيارة ما يسمى في قاموسهم "بلاد العدو"، وتصحيح قانون التحريض على الإرهاب. وبلغت حملات التحريض والدس أوجها عندما تكلمت عن حق الشعوب، وخاصة الشعبين الفلسطيني واللبناني، في مقاومة الاحتلال والعدوان، وعندما أثمر العمل على التواصل مع الوطن العربي. وكما تعلمون فإنه نتيجة لهذا العمل طرأ تغير جذري على نظرة العالم العربي ايضا للعرب في الداخل.


 



أخواتي وإخواني..



لم أتفاجأ عندما تبين لي أنهم يخططون لاعتقالي فور استقالتي من الكنيست لغرض محاكمتي. فبعد أن فشلت أساليبهم القديمة من نوع الطعن القضائي بمشروع التجمع القاضي بنزع الصفة الصهيونية عن الدولة بدولة لكل مواطنيها والاعتراف بالمواطنين العرب كقومية لها حقوق جماعية أو تأييد حقوق الشعوب في مقاومة الاحتلال، قرروا اللجوء إلى تهم من نوع: إعطاء معلومات للعدو في زمن الحرب، مساعدة العدو خلال الحرب ،اتصال مع عميل اجنبي، زيارة بلد عدو دون إذن ( وقد باتت هذه تهمة بعد ان فصلوا القانون خصيصا لهذا الغرض، حتى لنائب)، وخرق قانون تمويل الإرهاب وحتى إدخال أموال الى البلاد دون إذن مخالفة لقانون "تبييض الأموال" !!! وبوشر التحقيق معي على هذه التهم.



وغني عن القول إنها تهم باطلة وملفقة لا أساس لها من الصحة، أنكرناها جميعا في التحقيقات التي جرت حتى الآن.


 


لقد تبين لنا أن رسالة ديسكين حول مكافحة الشاباك لـ"قوى تستخدم الوسائل الديمقراطية الشرعية" هي رسالة جدية للغاية، كما أن تصريحاته التي سبقتها حول سلوك العرب في زمن الحرب الأخيرة مبيّتة ومغرضة ومقصودة وموجهة. فما فشلوا في تنفيذه ضدنا بتوجيه تهم إلينا من نوع: عدم الاعتراف بيهودية الدولة، والتحريض على العنف وغيرها، يريدون الآن تنفيذه باختلاق تهم أكثر خطورة، لا تمررها محكمة في إسرائيل في زمن الحرب. كما أنه من حقنا أن نشك أن السياسيين يبحثون عن متنفس بإيجاد عنوان لتوجيه اللوم اليه للتغطية على فضائحهم وفشل حربهم الإجرامية على لبنان.


ولا شك أنكم سمعتم جميعا يعقوب بيري رئيس الشاباك الأسبق وهو يبق الحصوة قائلا: "يجب وضع حد لظاهرة عزمي بشارة... نحن قررنا وعليه هوأن يقرر". ما يجري هو إذا تنفيذ خطة مبرمجة منذ سنوات طويلة.


 



من الواضح أن أجهزة الأمن ومعها قباطنة المؤسسة الصهيونية قد استنفرت تماما بعدما انتشر مشروعنا على شكل أفكار وطروحات سياسية تتبناها فئات تتجاوز بكثير مؤيدي وقواعد التجمع المعروفة، ولتتفتح في ألف زهرة ووثيقة تعبر عن نفس الخطاب، أو على الأقل نفس المزاج، مزاج الخروج عن الوصاية والتفكير بمستقبلنا في هذه البلاد خارج الهامش الذي تتركه لنا الصهيونية. وسبق أن استنفرت نفس المؤسسات من تنامي قوة تيارات رفضت الوصاية والأسرلة وخرجت عن طوق الوصاية من أبواب أخرى مثل تيار إسلامي واسع جرى ويجري الإعداد لضربه والتآمر على قيادته.



وفقدوا عقلهم تماما إذ لجأوا الى التنصت على الهواتف وجلب الشهود من أجل تفصيل مثل هذه التهم الباطلة والتي لا اساس لها، لتدمير وضرب من لم يتمكنوا منه ومن فكره ونشاطه طيلة هذه الفترة. وخلافا للتهم السابقة، وبموجب هذه التهم سيكون علي أن أناقش وأبرر محادثات تلفونية تنصتوا عليها مع اصدقاء وصحفيين في فترة كانوا يدمرون فيها بلدا كاملا، أو أن اواجه تحويل أحاديث خاصة بين أصدقاء إلى مواضيع سياسية كأنها مقال أو منشور أو بيان نحاكم عليه... كل هذا أمام المحاكم وفي التحقيق وأمام رأي عام مسمم ومعادٍ. لقد حول الاتهام تبادل أحاديث عادية ومواقف وشكاوى وتذمر بين أصدقاء، كما يفعل الناس عادة في الحروب، إلى نقل معلومات للعدو. في حين أن ذلك كان همّ الناس في زمن الحرب يتبادلون القلق والهموم والأخبار والشائعات وكلمات التشجيع وغيرها، هكذا يتكلم الناس في أحاديثهم الخاصة ولكن التنصت عليها يحولها إلى تهم تجعلها تبدو كأنها مواقف معلنة.


هذه قواعد لعبة تحول القيادي والمثقف إلى مشتبه به مذل مهان في عرفهم يبرر تواصله الشخصي والعام وعلاقاته مع العالم العربي امام الاسياد، ويبرر علاقاته مع الضحايا امام المعتدي.


 



ولا أخفيكم أنني سئمت هذه اللعبة، لعبة إثبات "براءتي" للمجرم، لعبة الدفاع عن العلاقة مع شعبي أمام المستوطنين في وطني، سئمت محاولة جرنا لإثبات الولاء لإسرائيل، وتعرفون أني رفضت هذه المحاولات طيلة السنوات السابقة. ليس ممكنا أن نلعب مثل هذه اللعبة، ولا نريد أن نلعبها. ولم أعد أفهم ما يعنيه أن أثبت للمجرمين الذين دمروا بلدا كاملا في حرب تموز وقبله بلدا آخر إبان الانتفاضة الثانية أني بريء. هم أوصلوا التناقض الوجودي في هذه البلاد أوجه، وهم يدفعون بنا في عملية قضائية وبوليسية إلى تحويل الخلاف والصراع السياسي الى خلاف على معنى البراءة، إذ يعتبرون التعاطف مع المعتدى عليه والموقف ضد الحرب جريمة...


 



ليس بإمكانهم احتوائي، وكما يبدو لم يعد بإمكانهم استيعاب وجودي دون احتواء في البرلمان أيضا. ولن أترك لهم القرار فأتحول الى متشبث بعضوية البرلمان. هذا ذل لا نرضاه، ويفضل أن أرميها في وجههم بدل الانجرار إلى لعبة الدفاع عن حصانة سوف تنزع في نهاية الأمر.


 



لم يمر وقت لم أتعرض فيه الى ضغط أو تحقيق أو محاكمة طيلة عملي السياسي، وبشكل خاص منذ الانتفاضة الثانية، بما في ذلك قرارهم "الشاباكي" المعروف والمتكرر والمقدم للمحاكم، لمنع التجمع، ومنعي شخصيا من خوض الانتخابات أو لمحاكمتنا بتهمة التحريض على العنف. كانت المواجهة شاقة وخاصة عندما وصل الأمر إلى التعبئة الإعلامية التي تنفلت مثل جوقة في أعتى نظام ديكتاتوري يرافقها مخبرون عرب ومشوهون باحثون عن إعجاب لدى العنصريين.


 



ولدت ونشأت في العمل السياسي النضالي منذ أن أسست وقدت لجنة الطلاب الثانويين العرب عام 1974 وخبرت أساليبهم منذ الشباب المبكر مرورا بسني التعليم الجامعي وحتى عملي البرلماني. ولكن هذه المرة فاقوا كل التوقعات. ولا أثق لا بعدالة مثل هذا الإجراء خاصة إزاء الأجواء العدائية التحريضية التي أثيرت وسوف تثار حوله، ولا أرضى بالذل الكامن في تبرير المواقف وفي قبول لعبة تجريم وتبرئة يتحكمون هم بقواعدها. لقد شهدنا سلوك الإعلام الإسرائيلي بعد خطابات أم الفحم والقرداحة بين التحريض والتشويه والذم والقدح والافتراء، وأثناء الانتفاضة الثانية، وخلال الحرب على لبنان. وخبرنا الجوقة الإعلامية كيف تنتظم لتخويف العرب وتعبئة اليهود. كما خبرتم معي في الأسابيع الاخيرة تجنيدهم حتى لوسائل إعلام عربية مأجورة أو عميلة ومخبرين عرب لا يتورعون عن الانضمام إلى حملة التحريض بالعبرية وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية ذاتها ضد الخطر الذي نمثله.


 



إنهم يحاولون أن يفرضوا علينا قواعد اللعبة هذه، ونحن نرفض ذلك.


وليست لدي النية أصلا أن أخدع نفسي بأني نائب وأنا اتعرض لمثل هذه الملاحقة، ولا التمسك بالنيابة والحصانة. ففي ظروف تكشفت فيها عملية إعداد لملف يتضمن تنصت وفبركة واختلاق باتت هذه لعبة خداع ذاتي أمقتها، كما بت أمقت جوقات التحريض حول الحصانة ونزع الحصانة والاختباء وراء الحصانة. من الأفضل ألا يكون المرء نائبا في ظرف كهذا، لا أن يتوسل حصانة تتحول مناقشتها إلى جوقة لبناء الأمجاد الصغيرة والتافهة لصغار السياسيين، لن أمنحهم هذه الفرصة.


 



ولذلك فقد قررت الإبقاء على قراري الأصلي بالاستقالة رغم تعرضي لهذه الهجمة التي فاقت حتى توقعاتي عما يبيتون. وكما تعلمون كنت قد صرحت عدة مرات أنهم يتنصتون على هاتفي، ويحققون مع مساعدي ويعرضون شبيبة التجمع لإرهاب مستمر. قررت عدم تغيير قراري بالاستقالة من الكنيست، بما في ذلك تمكين القائمة البرلمانية رسميا وقانونيا من الاستمرار بثلاثة نواب دون عبء قانوني رسمي، مع التصدي المشترك طبعا لمهمة المواجهة السياسية والشعبية، فالتجمع كله مستهدف ومعه الحركة الوطنية بشكل عام.


 



أخواتي وإخواني..



ليست هنالك حاجة أن أذكركم أن الاستقالة من البرلمان ليست تقاعدا من السياسة، فالنيابة بالنسبة لحزب مناضل هي شكل من أشكال العمل السياسي، ولم يقتصر عملي ونضالي على هذا الشكل في يوم من الأيام.


 



عملنا سوية على بناء مؤسسات وقواعد وقيادة لمثل هذا الظرف أو ما هو أصعب منه. ولا يجوز اصلا البناء على أبدية الشخص. وقد نجحنا في بناء حزب وقيادة حزبية واعية وصلبة ومتماسكة نفخر بها جميعا، وفي الشهر الأخير خاضت هذه القيادة بتضامن شعبي واسع معركة شرسة بشجاعة ونجاعة أكدت أنها تستحق هذه اللقب. كما أوصلنا الى البرلمان كتلة برلمانية نشطة وفعالة واصلت عملها البرلماني اليومي مع الناس حتى في هذه الظروف.


 



وبنينا جيلا من الشباب الواعي والعاقل والمناضل والمعتز بعروبته وفلسطينيته، ومؤسسات إعلامية وغيرها. ويكمن التحدي ليس فقط في الحفاظ عليها بل في توسيعها وتقويتها. فهذا هو الوقت للانضمام الى صفوف الحزب واتحاد الشباب. هذا وقت التحدي.


 



وبالإضافة لقرار الاستقالة قررت حاليا تأجيل عودتي الى البلاد لنفس الأسباب أعلاه إلى حين تتضح الامور، فنحن لسنا فريسة سهلة، ولا نستدعى للمثول بهذا الشكل. وطبعا الخيار ليس بين المنفى والوطن، فالمنفى ليس خيارا.



أذكركم أيها الأخوة أننا ننكر كافة التهم جملة وتفصيلا، ولكننا لا نقبل قواعد اللعبة التي أعدت لإدانتنا، من الاستدعاء والمثول والاتهام والدفاع عن النفس وحتى تبرير المواقف أمام المؤسسة الصهيونية وصناعة الرأي العام.


 



وتذكروا أنه لا يوجد نضال دون ثمن. وأن رأس الحركة قد استهدف هذه المرة لتلقينكم الدرس بواسطتي، والمغزى الذي يريدون فرضه علينا وعلى الناس في هذه الحملة أن طريقنا، تقود إلى هذه النتيجة، أي إلى التهم التي يدعون ويفترون. ولكن لا نضال في ظروف كهذه دون أن يدفع أحد أي ثمن، وإذا دفعت أنا ثمنا فهذا لا يعني إطلاقا أن يدفع كل منكم نفس الثمن، والخوف من مثل هذا الاحتمال يعني أنكم قد تلقنتم "الدرس" الذي يريدونكم أن تتعلموه، وأنهم نجحوا عندما خططوا وتآمروا ضد رأس الحركة. لقد صوبوا إلى رأس الحركة، في حين أن الاستمرار وتطوير وبناء الحركة الوطنية هو التحدي وهو الرد والالتفاف حول القيادة، وإنتاج رؤوس وقيادات للمستقبل أيضا.


 



علينا أن نستمر وسوف نستمر بالعمل والدراسة والنضال والتنظيم والفكر، فهذا دربنا، وهذا مشروعنا، وهذه قيمنا، وهذا حلمنا الذي نسجنا خيوطه سوية.


 







مع محبتي وتمنياتي


ابنكم وأخوكم


عزمي بشارة

التعليقات