كلمة د.عزمي بشارة في حفل تأبين المناضل المدير العام لموقع عــ48ـرب المرحوم أحمد أبو حسين..

-

كلمة د.عزمي بشارة في حفل تأبين المناضل المدير العام لموقع عــ48ـرب المرحوم أحمد أبو حسين..
عزيزي أحمد

أذكر متى، ولكن لا أذكر كيف غادرت وسط هذه الفوضى دون استئذان؟ وفنجان القهوة نصف ممتلئ والسجارة مشتعلة. كن واثقا أني سأقول لك رأيي برحيلك المفاجئ هذا، لو كنا هنا وحدنا الآن. ولكنا وحدنا هنا الآن. كنت ستتطلب لي فنجان قهوة آخر دون أذني، لكي تطيل الجلسة قبل أن أواصل طريقي ... لا أدري إلى أين، لا أذكر، ليس مهما.

تنظر إلي وتصفن بي متسائلا عمن أقصد، وماذا أقصد باللوم، أو ترمقني بحرج الشاب المؤدب الخجول الذي أعرف وجهه الطفولي وإيماءاته المحرجة ولا يعرفها الناس لكثرة تظاهرك أمامهم بالسخرية الحادة من كل شيء، سخرية كانت تغطي على حرج. ثم تطرق كعادتك عندما تتهرب من الإجابة... تختفي الابتسامة، تنقلب جدي التعابير، لأنك لا تتقن الكذب للتغطية على خطأ. وهو نهج منتشر لم تبرع فيه.

تتهرب من الإجابة بإيماءات وهمهمات وأسئلة مرتدة غير مفهومة ملخصها: "شو بدك مني أعمل أكثر من هيك؟"، "شو أعمل أنا طيب؟"، "مش بدك تشتغل وتشغلني بعرب إسرائيل، هيك عرب اسرائيل!!"، وعندما كنت تقول "عرب إسرائيل" كنت تقولها كنية وليس مجازا لتحديد نمط من الناس ذوي ثقافة وأخلاق مواقف عربية إسرائيلية. اتفقنا أن هذا النمط موجود دون هلالين، ولم نقصد تعريف عرب هذا البلاد بهذا الصفة لا سمح الله. أعرف أنك ترتاح أكثر بمهمة فيها سفر إلى دولة عربية ليس حبا بتلك الدول، ولا لأنك كنت عروبيا، وقد استقررت عروبيا ثقافيا وسياسيا بعد أن حلت في ديارنا أوهام وسقطت أوهام...ومنها ما سباك وسبانا شبابا، ومنها ما لم يؤثر فيك يوما ولم تعجب به، ولا حتى على سبيل المسايرة والمجاملة... بل لأن الأفق هناك أرحب، والمدينة أكبر، ولذلك فهوامشها أوسع، والناس على هامشها أكثر... ولأن الناس التي تشاركنا مشروعنا هناك تمكنك من الدخول معها مباشرة في الموضوع دون ترهات ورواسب شخصية من عندنا.

كم مدني اجتمع على هامش القرى في بلادنا في مقاهٍ حقيقية وافتراضية اختلقتموها يا أحمد. وكم مدني بلا مدينة يمر في بلادنا مرورا بين الولادة والموت كأنه كائن غريب محتقر، أو انطوائي يتقي شر فضول الناس وخوفهم من الغريب، لا يلتفت له أحد، وأنت شغفت بالغريب مع أنك في التزامك الحزبي صاحب موقف عقائدي.

عقائديتك ليست صماء تميز من يرغبون بحكم العالم، أو يعتقدون أنهم حكموه مرة، ولا عقائدية من في جعبتهم إجابات وحلول سحرية إيديولوجية مقدسة أو مدنسة، بل عقائدية الموقف النابع من حب الحياة والسعادة والحرية والمساواة والكرامة الوطنية والإنسانية، هذه عقائدية تفسح مجالا للمختلف والغريب. وأنت كاره للمتعصبين والمتخلفين والرجعيين شغوف بمن تمرد عليهم.

أكثر الصفات إثارة لحنقك بعد الكذب وقلة الاستقامة الترفع فوق التحزب وفوق الموقف وفوق الحسم بين المعتدي والمعتدى عليه، والمفتري والمفترى عليه، والوطني والعميل، والتهرب منها بانتهازية تسمى موضوعية. وكان يجب أن أهدِّأ من روعك ضد أنصاف المثقفين الذين لم يرثوا نصيبا من الثقافة فاستعاضوا عما نقص بمناكفة الآخرين أو بالتظاهر بالترفع عليك أو على أصحاب الموقف. ما بالك تنصاع ثم تعاتبني عندما أنصحك أن تهدأ من النص الذي تريد نشره حول الدجل ونشر الجهل خوفا عليك ممن لا يعلمون؟

أدركت مبكرا منذ السنة الأولى أنه لا يوجد مشروع آخر للحركة الوطنية في البلد، وان معاداته لا يمكن التسامح معها لأنها تعني معاداة المشروع الوحيد الممكن في هذا الظرف، وقد لخصناه بهوية قومية تبحث عن تأسيس اجتماعي لها خارج الهامش، وموقف وطني فلسطيني متواصل تاريخيا على الأرض ومعاد لمشروع استعماري ومواطنة كاملة تؤطر السعي نحو الحقوق في إطار معاد للصهيونية وتمنع السعي نحو الحقوق اليومية من التحول إلى نظام واسطة وعمالة، وإلى اندماج وصهينة. ومنذ وضعنا المشروع بين عامي 1995 وعام 1996 لم تفقد البوصلة لا بسبب حساسيات شخصية، ولا مزاج ولا غضب ولا كسل ولا غيرة ولا حسد ولا طمع ولا حب الزعامة...لم تكن هذه من اختصاصك، ولا من وسائلك لتحقيق أي هدف.

كنت ترغب أن تفعل وأن تكلف بما تحب، وكنت تحب أن تنجح فيما ترغب، دون منة منك على أحد، لم تسدي بذلك معروفا لأحد، بل فعلت ما يجب أن تفعل. وفعل ما يجب يستحيل دون عطاء بلا مقابل وتطوع لمصلحة مجمل الحركة الوطنية... وكان هذا فعلك التنويري في إطار الحركة والحزب. وكم غضبت على من تركوا أو تخلوا عنا في عز المعارك أو حاولوا الظهور بمظهر الموضوعية على ظهورنا، فرددوا شذرات مما قلناه، وناقشوها بشذرات أخرى اختلسوها اختلاسا ولم ينسبوها إلى مصدرها، شظايا دون عامود فقري ودون مشروع دون ثقافة.

كأني انرلقت ووجدت نفسي في هذه اللحظة أعدد مناقب الفقيد دون أن أدري، عذرا أيها الفقيد.
أعرف والدك الذي كنت تحدثني عنه كثيرا، ولكن في أيام العزاء سنحت لي الفرصة أن أتأمله: يصمت حرجا وخجلا في البداية. وعندما يكثر الكلام الفارغ يرد عليه من قعر صفنته بعبارات مؤدبة هي في الواقع ديباجات، إلا في مسائل الإيمان، فعندما كان يقول ردا على موتك المبكر: "نحن قوم مؤمنون"، كان يقصد ذلك فعلا، لم يدبج عبارة هنا. رأيت الأستاذ يوسف كما يسميه أهل البلد ينبري ليحدث وتلمع عيناه عندما يطرح موضوع ذو معنى يتجاوز المجاملات، أو عندما استفزت انتباهه جملة ذات مغزى فيتدفق الكلام وتتوالى الحكايات استطرادا يربطها العلم والتعليم وقصص العقال والجهال من الأساتذة القدامى والجدد، والشفقة على الصبية الذين أودعوا بين أيديهم، وينحل عقدها فلا يربطها إلا اسم شخص أحيانا، كان يُعلِم الناس دون أن يدري من أين تدفقت موهبتك في القص والسرد والتندر، كان يشي بموقع ينبوع ذلك التنوير الفطري الذي يمقت الجهل والخرافة، ويتمسك بالموقف الأخلاقي في الدين وفي الدنيا.

ليتك كنت معنا في تلك اللحظات، كنت سوف تبادلني نظرات لا تخفي الاعتزاز بوالدك المستقيم من جيل القوميين المتنورين الذين لم يحترفوا السياسة ولا يملؤون الدنيا ووسائل الإعلام ضوضاء بعد أن فشلوا، أولئك الذين يشغلون زوايا البيوت الصامتة، ولم يفشلوا بل خاب أملهم فقط. افتقدناك في تلك الأيام في أم الفحم أيها الفقيد، ليتك حضرت عزاءك. الجميع كان هناك إلا أنت. افتقدنا لمعة الشقي في عينيك، افتقدنا لمعة العاطفي الخجول بعواطفه ذكاءً ولا يخفيها خبثا، عيون غير منطفئة ولا بليدة، ولكنها أيضا لا تشع لتبهر العيون، بل تتلألأ مثل قطرة ندى، أو مثل لؤلؤة تنطفئ وتتوهج كل بضع ثوان، أو مثل دمعة طفل غالية. هل يعجبك لقبك الجديد هذا أيها الفقيد، يا وكيل التأمينات الذي يرتدي ملابس العيد ويصفف شعره مثل ولد مدرسة مجتهد يوم الجمعة، ثم يعود طالب مدرسة نجيب ومشاكس؟ أين ذهبت سخريتك أيها الفقيد عندما سحرتك وسبتك حلب ودمشق؟ كيف غابت السخرية وانفعل حماسك الحار في غرفتي في فندق بالشام والمثقفون يجلسون في كل مكان وعلى أرض الغرفة ونحن نناقش هموم الدنيا والعرب وفلسطين ولبنان والعراق، وهمومنا وهمومهم.

أنت لنا فقيد كل يوم، وفقيد كل خبر، وكل تعليق على مقال...أنت فقيد كل غضب على افتراء تتعرض له الحركة والموقف في ظروف بلد سحب من تحت أقدامنا، فقيد كل نقد لجهالة ودجل، فقيد كل إعجاب بعمل فكري أو أدبي أصيل، فقيد كل فنجان اسبرسو مرٍ يذكر بسيجارة أبدية تلح، مر المذاق ولا يبالغ بالمرارة، حافظ على شخصيته رغم الركام من حوله.

فنجان قهوة آخر؟ حسنا، إجلس قليلا...أشعل قصة أخرى، أنفث حكاية، ثم أرشف عصارة هذا اليوم، تأمل هذا الزمان وهذا المكان بصمت، بعد أن ساد الصمت... دع الموت ينتظر فلديه كل الحق ولن يضيع حقه، لن نهرب إلى أي مكان. ولكن كل الحقوق تنتظر، لديه كل الوقت فلينتظر، ليتريث قليلا على الأقل. هو أبدي ونحن مؤقتون ونسبيون ومخطئون وعابرون قليلو اللبث، ليعذرنا ليسمح لنا بعد أن سكت الكلام وحل الصمت أن نتجرع ما تبقى من يومنا بصفنة تأمل مع من نحب، لا تقدم ولا تأخر في الموت، ولكنها تريح النفس قليلا في هذه الفوضى.

التعليقات