حرصًا على إحداثيّات المشهد السياسيّ../ نبيل الصالح

حرصًا على إحداثيّات المشهد السياسيّ../ نبيل الصالح
مفارقتان مغرقتان في الغرابة، تتحكّمان بالسياسة العربيّة المحلّـيّة منذ نشْر التهم الموجَّهة ضدّ عزمي بشارة. تغلب على الاثنتين طبيعةُ الشخصنة، رغم تشديد أصحابهما على تغليفهما بالأيديولوجيّة والسياسة.

تتلخّص الأولى في أنّ أشدّ كارهي عزمي بشارة ومنافسيه يدعونه إلى العودة، وقد كانوا في الماضي يتمنّون غيابه. أمّا المفارقة الثانية، فتتمثّل في أنّ من يناشد بشارة أن لا يعود هم أنصاره وأقرب الناس اليه، إنسانًا وسياسيًّا، وذلك كي لا يُعتقل ويحاكم ويُسجن لسنوات طوال. أمّا المتضامنون الذين ما زالت أنفسهم تسوِّل لهم تصريف جذر الفعل "ر. ج. ع."، في سياق التعامل مع هذه القضيّة، فمتّهمون في سلوكهم وموقفهم، ونواياهم موضع شكّ.

في حالة عزمي بشارة، ليس الانشغال بالشخصيّ بمستغرَب؛ فشخص بحضوره وتميّزه الفكريّ والسياسيّ لا بدّ أن يجذب، من ناحية، نارَ طلقات المطالِبين برأسه، مجازًا وحقيقةً، ومن ناحية أخرى، نارَ لهفة أنصاره عليه، وبخاصّة عندما يواجه أزمةً تُخطّطها مؤسّسةٌ شيطانيّة النوايا والممارسات -على شاكلة المخابرات الإسرائيليّة-.

ومهما يكن من أمر، وبصرف النظر عن الاتّفاق أو الاختلاف السياسيّين مع عزمي بشارة، فإنّ انتقال مركز عمله السياسيّ من الداخل الفلسطينيّ إلى أيّ حلبة أخرى أمرٌ ستكون له آثار واضحة، لعلّ أبرزها، على المستوى الشخصيّ، غيابُ دأب الإصرار على تجاوز المألوف وحرّاسه، ودقّةُ الرؤية في التعامل مع ضبابيّة المحيط.

أمّا على المستوى السياسيّ، وهذا مؤجَّل حتى يبتعد صخب الآنيّ، فثمّة خوف من إزاحة لإحداثيّات المشهد السياسيّ العربيّ في الداخل نحو تمييع في العلاقة مع الدولة، تمييع يسمّيه البعض "مسؤوليّة"، ونحو تفريطٍ يحمل لواءَه أولئك الحريصون على عدم "تأزيم العلاقة مع الدولة"، وأصحابُ مقولة "اليد لا تلاطم المخرز"، وأشباهُ هؤلاء ممّن طَفَوا على سطح السياسة بعد هبّة الأقصى.

ليست هذه الأسبابَ الوحيدةَ لتركيز الاهتمام حول شخص عزمي بشارة؛ فمن يتابع تعاملنا، أفرادًا وجماعات، مع قضايانا الجماعيّة -السياسيّة مثل قضيّة بشارة، أو تلك ذات الطابع الاجتماعيّ- يلاحظ أنّنا دائمًا نغرق في الحدث حتّى يغمرنا بتفاصيله المتواترة، ثم نخرج منه خروجَ مَن يتنبّه من حلم صاخب ليغطّ في نوم عميق. فمن عادتنا -وليس هنالك ما يدلّ على أنّ هذه ميزة فلسطينيّة خالصة- أن ننغمس في الحدث إلى حدّ يبدو معه عدمُ التعامل معه باعتباره تجربة محفِّزة قادرة على التحويل والتأثير، يبدو وكأنّه تواطؤ مقصود يقلّل من الاستحقاقات التي قد يفرضها التعامل مع الأحداث كمحرّك للكمون نحو فتح الاحتمالات.

ليعذرني الكارهون والأنصار، إذ لا أنوي التعامل مع هذه القضيّة من باب الشخصيّ، بل من منظور ما يُغضب ولا يستهوي المؤسّسة التي تهلّل فرحًا بإحكام القبضة على بشارة، ومن باب السياسة العربيّة المحلّـيّة التي بدأت تبدو عليها بوادرُ ما رمتْ إليه هذه المؤسّسة، لا على نحو مباشر، ربّما، وإنّما كناتج مرافق لاستهداف عزمي بشارة.

من البوادر المبكّرة اثنتان تحملان ملامح الآتي؛ وهو ما يستدعي الحرص. الأولى هرولة القيّمين على وثيقة "الرؤيا المستقبليّة" لدفع وصف اليهود لها بالتطرّف، بدليل الخلاف حول خطأ في ترجمة النصّ. فقد فوجئنا، مباشرة في أعقاب نشر التهم ضدّ بشارة، بتعميم إعلاميّ من جهة القيّمين يوضّح أنّهم لا يرون إسرائيل كيانًا استعماريًّا، بل يرونها ناتجًا استيطانيًّا فقط. وقد أحسن الصحفيّ سليمان أبو ارشيد صنعًا، حين عقّب على هذا، قائلاً إنّ الفرق بين الاستعماريّ والاستيطانيّ هو الفرق بين الرواية الصهيونيّة والرواية الفلسطينيّة حول ميلاد هذا الكيان.

أمّا البادرة الثانية فتتمثّل في منشور مجهول المصدر، صدر ووُزّع في أوج قضيّة بشارة، دعا إلى تدارك السوء الذي اعترى "مؤخّرًا" علاقة العرب بالدولة وبالمجتمع اليهوديّ، وإلى مجابهة مَن يبغي حصد المكاسب السياسيّة من هذا التدهور في العلاقة. يدعو المنشور المذكور إلى عقد اجتماع عربيّ يهوديّ في تل أبيب لدرء المخاطر التي تهدّد العيش المشترك، وكأنّ هناك فيه ما يستوجب القلق عليه. لقد غاب عن أعين من هم وراء المنشور أنّه من الصعب استغلال القضيّة لنيل مكاسب سياسيّة، سواء أكان ذلك على الصعيد الشخصيّ أم السياسيّ، ولكن الفرصة ما زالت سانحة لنيل مكاسب مادّيّة من التباكي على تعايش يهوديّ- عربيّ وهميّ سئمناه منذ زمن. ولكن الأهمّ انّ في التوجّه إعلان ولاء للقائم المألوف وتنصّلاً من القواعد الجديدة لعلاقة الدولة والمجتمع اليهوديّ بالفلسطينيّين في الداخل، وهي قواعد عبّر عنها قادة مؤسّسة المخابرات، بالأصالة عن سواد المجتمع الاسرائيليّ، حتّى قُبيل قضيّة بشارة.

هذا بعض ما سيفيض علينا مهدّدًا بإزاحة إحداثيّات المشهد السياسيّ إن لم يجابَه بالرفض السياسيّ والشخصيّ لأدعياء "المسؤوليّة والحكمة والتروّي"، على اختلافهم وتنوّعهم، بدءًا بمن يعتبر الاستكانة صمودًا حكيمًا، وانتهاءً بمن يقبل بكلّ واقع جديد تفرضه إسرائيل، مهما كان قمعيًّا، وكأنّه واقع نهائيّ لا مجال فيه إلاّ لتفاوض متلعثم حول التشدّد الرسميّ.

إذا كان من الممكن أن يكون ثمّة إيجابيّة في ما حصل مع عزمي بشارة، فهو ذلك الذي بمقدوره، إذا قصدنا فعلاً، أن يدفعنا إلى ابتكار قواعد مجابهة تليق بالتغيير الذي أحدثته المؤسّسة الإسرائيليّة على قواعد الترويض المألوفة. وكلّ ذلك حرصًا على الإحداثيّات السياسيّة.

عزمي بشارة، سلامًا، ودمت. إلى لقاء...

التعليقات